كيف نفوز برمضان ؟

تاريخ الإضافة 9 مارس, 2024 الزيارات : 7270

كيف نفوز برمضان ؟

من رحمة الله –سبحانه وتعالى- أن نوَّع لعباده العبادات؛ ليشتاقوا إليها ولينشطوا لكل عبادة في وقتها، ولئلا يملُّوا نوعًا واحدًا من العبادة، وإنما نوّعها لهم ما بين صلاة أحيانًا وذكرٍ وصيامٍ وحجٍ وزكاةٍ وغير ذلك.

وإنّ من العبادات الفاضلة الكريمة التي جاء بيان فضلها ومزيّتها في كتاب الله وسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عبادة الصيام، فالصيام من أجلّ العبادات وأعظم الطاعات والقُربات، وقد أوصى به النبي الحبيب-صلى الله عليه وسلم-أبا أمامة، فقال عندما سأله عن أمرٍ يأخذه عنه ينفعه الله به أو عن أفضل العمل كما جاء في بعض الروايات قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: (عليك بالصوم فإنه لا مِثل له) وفي رواية: (لا عِدْلَ له).

فضل الصيام :

من أعظم أدلة فضيلة الصيام فرْضيَّته على الأمم قبلنا كما فُرِض علينا؛ كما قال الله –تعالى- في كتابه العزيز: {يا أيها الذين ءامنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، وإذا اتفقت الشرائع على أمرٍ في الخير أو الشر دلّ على عظمته، فعندما بيّن الله –تعالى- في هذه الآية أنه فرض علينا الصيام كما فرضه على من كان قبلنا دلّ هذا على أنه عبادةٌ عظيمة، وأن للعباد الحاجة الماسّة إلى هذه العبادة؛ لِمَا لهم فيها من زكاءٍ وصلاحٍ وفلاح.

ومن نظر إلى الصيام ومعناه ومقصوده وغايته تبيّن له عظمته وتبيّن له حقا حاجة العباد إليه.

1- تحقيق التقوى:

إنّ أعظم فضيلةٍ للصيام هي أنه سببٌ لتحقيق التقوى؛ كما قال الله –تعالى-: {يا أيها الذين ءامنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}

والتقوى : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية باتباع أوامره واجتناب نواهيه، التقوى اتقاء الذنوب باتقاء أسبابها، ومن أسباب الذنوب أخطاء اللسان والجوارح كلها، وذلك يعني أنّ الصيام فيه حفْظٌ للجوارح عن كل محرّم، سواء اللسان أو الجوارح الأخرى، فهو تقوى من الذنوب؛ لأنه يحفظ الإنسان في لسانه ويحفظه في جوارحه إذ هو متلبِّسٌ بالصيام، ولهذا جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: ( والصوم جنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقل: إنّي صائم)

قال: (الصوم جنّة) جنَّة: أي وقايةٌ وسِتْر من اللغو والرّفث ونحو ذلك من الكلام السيئ، وإذا اتقى الإنسان الرفث والكلام السيئ التزامًا بصيامه وتأدّبًا بآدابه اتقى الذنوب بالتالي، فإذا اتقى الذنوب اتقى النار، فكان الصوم بالتالي سببا لاتقاء النار؛ كما جاء في الحديث عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (والصوم جنّة يَستجنُّ بها العبد من النار).

وقال: (والصوم جنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) فهو جنّة مما يوصِل إلى النار من الرفث والصخب ونحوه.

وفي الحديث الآخر قال: ( من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا) فهذه فضيلة عظيمة للصيام أنه يحقق لصاحبه تقوى الله –عز وجل- لمن عرف الصيام على حقيقته وأنه لا يقف عند حدودِ أن يُمسِك الإنسان عن الطعام والشراب، فإنّ الله –سبحانه وتعالى- لا يريد أن يُجِيعَنا ويُعطِّشنا وإنما يريد أن يبتلينا ويختبرنا ويمتحننا ويزكّينا، ولهذا جاء في الحديث: ( من لم يدع قول الزور والعمل به  فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه)

يعني الله –تعالى- غني من أن تدع الطعام والشراب، إنما الغاية فوق ذلك، وإنما ترك الطعام والشراب وسيلة من الوسائل حتى تزكو النفس وتصفو الروح فيضبط الإنسان نفسه.

2- سببٌ لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات :

كذلك أيضا من فضائل الصيام أنه سببٌ لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، وكم نجتني من الذنوب وكم نجترم في حق الله وحق خلقه، والذنوب هي الموصلة إلى النار –والعياذ بالله- وهي الموصلة لغضب الجبار، فما كان ماحيا لها فإنه من أفضل الأعمال، فالصيام سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، فإذا غُفِرت الذنوب وكُفِّرت السيئات زكى الإنسان وسَلِمَ قلبه وتأهّل لجنة عرضها السماوات والأرض، ولهذا جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه) ، أي إيمانا بالله –تعالى- وبفرضيَّة هذا الصيام، واحتسابا للثواب عند الله –سبحانه وتعالى- غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، وهذا والله فضلٌ عظيم وهي مغفرة الذنوب والسيئات، كم يقوم العباد ويُحيون ليلهم ويُتعبون نهارهم كم يجاهدون في سبيل الله كم يبذلون من أنفسهم ومُهَجِهِم وأموالهم من أجل أن يُحصِّلوا على مغفرة الذنوب فهذه مغفرة الذنوب تتحقق بفضل الله لمن صام رمضان إيمانا واحتسابا.

كذلك أيضا جاء عنه-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ ما بينهنّ إذا اجتُنِبَت الكبائر)،الصلوات الخمس: أي من صلاة إلى صلاة تكفّر ما بينها، ومن جمعة إلى جمعة تكفِّر ما بينها، ومن رمضان إلى رمضان تكفّر ما بينها، إذا اجتُنبت الكبائر؛ إذن لابد للكبائر من توبة.

3- أن الصائم يُعطى أجره بغير حساب:

كذلك من فضائل الصيام: أنّ ثوابه لا يتقيَّد بعدد معيَّن، بل يُعطى الصائم أجره بغير حساب، لأنّا نعلم أن الله –سبحانه وتعالى- قد رتّب على الأعمال ثوابا يتجلّى فيه كرم الرب –عز وجل- ، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، بالعدد، إلا الصيام، فإنه لا يدخل في هذا التضعيف، جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله –تعالى- إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) فهذه فضيلة للصيام أن الله –تعالى- قد تكفّل بالجزاء على الصيام بدون عددٍ معيَّن، هذا الحديث يتبيَّن منه فضيلة الصوم من وجوه:

أولا: أن الله –تعالى- اختص الصوم له –تعالى- من بين الأعمال، فقال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم) يعني أن كل عمل ابن آدم يضاعف له كذا كذا كما ذكر إلا الصوم فإن الله –تعالى- اختصه من بين الأعمال قال: (فإنه لي وأنا أجزي به)؛ وهذا لشرفه ومحبته،

شرف الصيام ومحبة الله –تعالى- له، وظهور الإخلاص فيه، فهو سرٌّ بين العبد وربه، إذ الامساك أساسه في القلب، لأنه إمساك بنية، الصيام أساسه في القلب؛ إمساكٌ بنية، ثم أيضا قد يستتر الإنسان عن الناس فيأكل ويشرب، وربما لا ينوي بقلبه الصيام فلا يكون صائما، فإذن الصيام سرٌ بين العبد وربه –عز وجل-، لا يقوم به إلا المتقي المخلص لله –عز وجل- المراقب لله الخائف من الله –تعالى- سرا وعلانية، ولهذا اختصه الله –تعالى- من بين الأعمال قال: (لا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

ثم أيضا إن الله –تعالى- قال في الصوم : (وأنا أجزي به) فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة والعطية على قدر معطيها، والله –سبحانه وتعالى- غني كريم جواد بيده مقاليد السماوات والأرض، ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض لم يَغِض ما في يمينه –سبحانه وتعالى- فهو قال: ( وأنا اجزي به) يعني جزاء الصائم عليّ.

وقد يتبيّن شيء من هذا إذا قال لك كبير أو غني أو ثري أو أمير قال: يا فلان لك مني هدية أو لك مني مكافأة، هل تتوقع أن تكون مثل مكافأة سائر الناس وهو أمير أو ثري؟ لا، بل تتوقع أن تكون على قدره، فالعطية على قدر معطيها، كيف إذا كان الذي قال هذا القول هو الله –سبحانه وتعالى- الذي بيده مقاليد السماوات والأرض؟ وإذا اجتمع العباد كلهم إنسهم وجنهم في صعيد واحد فسألوا الله –عز وجل- فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عند الله –عز وجل- إلا كما ينقص المِخْيَط إذا غُمِسَ في البحر، فماذا ينقص؟ .

الله –تعالى- قال: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ذلك أن الصوم يتحقق فيه الصبر بجميع أنواعه؛ صبر على طاعة الله بآداء الصيام، وصبرٌ عن محارم الله بانتهاك ما يؤثر في الصيام، وصبر على أقدار الله المؤلمة من جوعٍ وعطش، والصابرون يوفَّون أجرهم بغير حساب؛ كما قال –تعالى- : {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

4-اختصاص أهله بباب الريّان:

من فضائل الصوم كذلك اختصاص أهله من بين أهل الجنة بباب خاصٍ بهم يسمّى باب الريّان، ولاحِظوا لمّا عطّشوا أنفسهم في الدنيا نودوا من ذلك الباب الذي اسمه يدلُّ على الرِّي، ولهذا من دخل من ذلك الباب شرب شربة لا يظمأ بعدها أبدا، فهو باب الريّان، لحديث: ( إن في الجنة بابا يقال له باب الريّان يدخل منه الصائمون فإذا دخلوا أُغلِق فلا يدخل منه أحدٌ سواهم).

5- محبة الله  لآثار الصيام على الصائم :

كذلك من فضائل الصوم محبة الله للصائم على ما هو عليه من آثار الصيام، وإن كانت آثارا في ظاهرها غير محببةٍ لنا لكنها محبوبةٌ إلى الله –تعالى- لأنها ناتجةٌ من الطاعة، وذلك ما جاء في قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده لخَلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)

خَلوف فم الصائم: هو تغيُّر رائحة فم الصائم من أثر خُلوِ المعدة، فهي محبوبة عندا الله –تعالى- لأنها ناتجة عن الطاعة، وما كان ناتجا عن الطاعة فإنه محبوب عند الله –تعالى-، ألم ترَوا إلى الحاج عندما سافر وشَعِثَ وغَبِر لكن كان سعيه في طاعة الله –عز وجل- أعجب ذلك ربه فقال الله –تعالى- لملائكته وهو يباهي بأهل الموقف –موقف عرفة- ملائكتَه يقول: (انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثا غُبرا اُشهِدكم أني قد غفرتُ لهم)

(شُعثا غُبرا) أي غير ممشّطي شعورهم، وغُبرا: قد علتهم غبرة من آثار السفر، لكن باهى الله بهم لأنه جاءوا يرجون رحمة الله –جل وعلا- ويخافون عذابه، وهكذا الصائم لمّا أمسك عن المفطِّرات طاعة لله –عز وجل- تغيَّرت رائحة فمه أحبّ الله ذلك من عبده.

6- أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة:

كذلك من فضائل الصيام أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، فما بالك بعبدٍ تشفع له عبادة من العبادات عند الله –عز وجل- الذي شرعها؟

جاء في حديث ابن عمر عند الإمام أحمد أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعتُه الطعام والشراب والشهوة فشفّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان)

وهذان الشافعان متحققان في رمضان، فهو شهر الصيام والقرآن، فما بالكم بعبدٍ يشفع له عند الله كلام الله؟ أو يشفع له عند الله عبادة الله؟

نحن أحدنا إذا جاء لعبدٍ مثله قال له: يا أخي لا تنسنا من دعائك اُدعُ لنا ، هذا نوع شفاعة، فما بالكم أن يكون الشافع هو كلام الله أو عبادةٌ شرعها الله؟ حريٌّ أن يُشفَّع هذان الشافعان.

7- إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار :

من فضائل هذا الشهر علاوةً على ما تقدَّم : ما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار  وصُفِّدت الشياطين)

فُتِّحت أبواب الجنة لكثرة العاملين للخيرات في هذا الشهر الكريم ولكثرة من يكتب الله –تعالى- لهم دخول الجنة

وغُلِّقت أبواب النار وذلك لكثرة ما يُعتِق الله –تعالى- منها ومن يقيهم الله إياها ولما يجعل الله –تعالى- للعباد من حواجز بالصيام عن الأعمال التي تُدخِلهم النار فتُغلَّق أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين أن سُلْسِلَت وقُيِّدت ؛ فلا يَخلُصون إلى ما كانوا يَخلُصون إليه من قبل.

8- ما خص الله به الأمة في رمضان:

ومن فضائله ما جاء في حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد –رحمه الله- قال قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (أُعطِيَت أمتي خمس خصالٍ في رمضان لم تُعْطَهنّ أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وقد تقدّم بيانه ( وتستغفر لهم الملائكة حتى يُفطِروا، ويُزيِّن الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلْقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليكِ، وتُصفَّد فيه مردة الشياطين فلا يَخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويُغفَر لهم في آخر ليلة)

قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال: (لا، ولكن العامِل إنما يوفّى أجره إذا قضى عمله)، حديثٌ عظيم فيه خصائص الله –عز وجل- لهذه الأمة في هذا الشهر الكريم، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يُفطِروا، والملائكة كما نعلم عبادٌ مكرَمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليس فيهم شهوة الشر فلا يعصون الله أبدا، ما بالك بمن هذه حاله يستغفرون لعبادٍ مذنبين خطّائين؟ إنها لفضيلةٌ عظيمة.

إن الواحد منّا إذا أتى إلى من يتوسَّم فيه الخير والصلاح من إخوانه وهو يعلم أنه غير معصوم ربما قال له: لا تنسنا يا أُخيّ من دعائك اُدعُ لنا، فما بالك إذا كان الذين يستغفرون لك ملائكة الرحمن وهم لا يفعلون شيئا إلا عن إذن الله –عز وجل- فالظن بالله –تعالى- أنه لم يأذن لهم أن يستغفروا للمؤمنين إلا ليستجيب لهم –سبحانه وتعالى- ، فيا لها من فضيلة؛ تستغفر لهم الملائكة حتى يُفطِروا.

(ويُزيّن الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليكِ) المؤنة: مؤنة العبادة وتكليفها، والأذى: ما يكون في هذه الحياة الدنيا من همٍّ وغمٍّ وكدر { لقد خلقنا الإنسان في كبد}، ويصيروا إليكِ فأنتِ دار النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول {لا يمسّهم فيها نصب وما هم منها بمخرَجين}

(وتصفّد فيه مردة الشياطين) مردة الشياطين يُصفّدون ويُسلسلون من أول ليلة فلا يَخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره، أي لا يستطيعون أن يصلوا ويكون لهم سلطان في غير هذا الشهر، ولكن مع هذا لا ينبغي للإنسان أن يُلقي بنفسه ويقول: إن الشياطين مسلسلةٌ مردتها بل يحذر من نفسه وهواه وقرناء السوء ويحذر من هذه الدنيا فإنه غرّارة فتّانة.

قال: (ويُغفَر لهم في آخر ليلة) قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال: (لا، ولكن العامِل إنما يوفّى أجره إذا قضى عمله)، وهذا مِصداق قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه).

 ولهذا جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-بيان خيبة وخسران من دخل عليه هذا الشهر ثم خرج ولم يُغفَر له؛ لأنّ أسباب المغفرة متاحة وأسباب المعاصي دونها حُجُب، فكيف يقتحم العبد المعاصي ويُعرِض عن الله –عز وجل- فينقضي هذا الشهر ولم يتأهل للمغفرة.

جاء في الحديث: (رغم أنف امرءٍ دخل عليه رمضان ثم خرج ولم يُغفَر له)

هذه بعض فضائل الصيام أنه يحبب العبد للرحمن ويُكسبه التقوى ويجلب له الغفران ويؤهله لسكنى الجِنان ويقيه من النيران فأيّ مطلوبٍ للعاقل وراء ذلك؟

وكيف لا يُشمِّر عن ساعد الجد ومنادي الخير ينادي: (يا باغي الخير أقبِل ويا باغي الشر اقصر)؟

فالمجال مجال عملٍ واجتهاد ومنافسةٍ في الخيرات، فهل من مشمِّرٍ إلى الجنة؟

فهل من مشمِّرٍ إلى الجنة؟ فإن السوق قائمة والسلعة حاضرة والثمن اليوم موجود، وما بالك إذا اجتمعت فضيلة الزمان مع فضيلة العبادة فكانت العبادة فاضلة وزمانها فاضلا؟ فهو خيرٌ على خير ، ونور على نور، العبادة الصيام، والزمان شهرٌ كريم وموسمٌ عظيم إنه شهر رمضان ، شهرٌ اختاره الله من بين الشهور فميَّزه بليلة هي خيرٌ من ألف شهر، تلك هي ليلة القدر، ميَّزه الله – تعالى- بتلك الليلة التي خصّها بأن أنزل فيها القرآن على خير البشر {شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان} إنه شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.

آداب الصيام :

هذه الفضائل والأجور العظيمة إنما تكون لمن تأدب بآداب الصيام فصام كما صام نبي الله-صلى الله عليه وسلم-والمؤمنون، ولم يكن صومه صوما مَظْهَريّا وإنما صوما حقيقا، جاء في الحديث: (رُبّ صائمٍ ليس من صيامه إلا الجوع والعطش، ورُبّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر)

فالعبرة ليست بصورة العبادة ما لم تكن لها حقيقة، ما لم يتأدب العبد بآدابها حتى تترتب عليها آثارها التي رتبها الله –عز وجل- عليها وربطها بها جريا على سنة الله –عز وجل- في ربط المسببات بمسبباتها.

 فلنتعرف على آداب الصيام لعلنا ان نتأدب بها فيؤثر الصيام فينا أثره ونتأهل لمغفرة الله وجنته.

 آداب الصيام :

1- أن يقوم العبد بما أوجب الله عليه من العبادات الواجبة القولية والفعلية، وهذه العبادات واجبة على الإنسان في كل وقت لكن تتأكد عندما يتلبس بهذه العبادة العظيمة وهي عبادة الصيام.

ومن أهم تلك العبادات الصلاة، فإن الصلاة كما نعلم هي عمود الدين، وهي صلة بين العبد وبين رب العالمين، من حفِظها حفظه الله، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيَع.

ومن الناس من يتهاون في الصلاة أو يضيعها بأثر الصيام، يعني أنه ينام عن الصلاة بحجة أنه صائم ومتعَب فربما خرج وقت الصلاة وهو لم يصلِّ، فضيّع ما هو أهم من أجل الصيام، وهذا محرّم لا يجوز، إذا الصيام الواجب أن يستعين به على طاعة الله -عز وجل- لا أن يكون الصيام سببا في تضييع ما هو أهم من الصلاة التي هي عمود الدين.

كثير من الناس ما ينام في رمضان عن صلاة العصر ، أو ينام عن صلاة الفجر وخصوصا إذا لم يتّبع السنة في تأخير السحور فيتسحّر في نصف الليل فتمتلئ بطنه فينام نومة ثقيلة ولا يقوم إلا بعد طلوع الشمس، فكل هذا محرّم ويتنافى مع الصيام.

2- أن يجتنب المحرمات،فيجتنب ما حرّم الله –عز وجل- عليه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ،وهي وإن كانت محرمة في كل وقت لكنها في شهر الصيام يتأكد تحريمها:

ومن ذلك الكذب وهو الإخبار بخلاف الواقع.

والغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته وإن كان فيه ما تقول، سواء كان فيه ما تقول أو لم يكن فيه، لكن إذا لم يكن فيه فإن ذلك يكون مع الغيبة بهتانا عظيما، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (أتدرون ما الغيبة؟ ذكرك أخاك بما يكره) قالوا: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهتَّه) أي قلتَ فيه بهتانا عظيما وافتريتَ فيه فِريَة عظيمة.

وقد قبَّح الله الغيبة في كتابه بما لا مَزيد عليه فقال –سبحانه:{ ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}

الأخ له على أخيه الرحمة وله في حال موته الإحسان وأن يحفظ عرضه، فما بالكم بمن نزع الرحمة من قلبه وهجم على جسم أخيه وقد مات واستُلَّت منه روحه فبدلا من أن يواريه ويستره عمد إليه نهش منه ويأكل، هكذا المغتاب لمّا غاب عنه أخوه أخذ ينهش في عرضه فأخوك الميّت لأنه لا يستطيع أن يدفع عن عرضه فهو كالميّت الذي لا يستطيع أن يدفع عن لحمه من ينهش منه، إذا استقبحنا هذا الأمر وهذا المثل في فِطَرِنا وطبعنا فلنستقبِح الغيبة شرعا، أي كما استقبحتم هذا الأمر في فِطَرِكم وطبائعكم لا تحبونه فاستقبحوا الغيبة شرعا واتركوها واجتنبوها فإنها من كبائر الذنوب.

كذلك النميمة التي تكثر بين الناس،وهي القالة التي تكون بين الناس، نقل الكلام من إنسان إلى إنسان على وجه الإفساد أو على وجه إيغار الصدور أو على وجه التفريق بين الأحبة أو الإيحاش بينهم او غير ذلك من المقاصد السيئة إنها من كبائر الذنوب ولا يدخل الجنة نمام كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-، ومن نمَّ إليك نمَّ فيك، فلا ينبغي لنا أن نفتح المجال لمثل هؤلاء المغتابين والنمامين بل نقطع عليهم الطريق بقولنا: اذكر الله واتقِ الله في أخيك ولنتحدث بما ينفعنا، وعلى الأقل: اتركونا من هذا، ومن ذبَّ عن عرض مسلم ودفع عنه دفع الله عن عرضه، من حفظ الله في غيبته حفظه الله –عز وجل-.

كذلك من الآداب الواجبة أن يحذر الصائم الغش في كل شيء،سواء في أخذه أو عطائه أو بيعه أو شرائه، أو نصحه أو في امتحانه أو غير ذلك، فليحذر الغِش والتدليس على عباد الله –عز وجل-.

كذلك على الصائم أن يجتنب قول الزور كله، كل قول لا خير فيه يتركه، كما يجتنب السب والشتم فيحفظ لسانه؛ لأنه صائم، هو ممسك عن كل ما يجني عليه الذنوب، فيتأدب الأدب العظيم في هذا الشهر، حتى يكون كأنما دخل في دورةٍ تدريبية شهرٍ كامل، لا يقول زورا، لا يقول كذبا، لا يغتاب، لا يغش، لا ينُم، شهرٌ كاملٌ كفيلٌ –بإذن الله- أن يؤثِّر فيه بقية الأشهر وأن يكون هذا من صفاته.

وأما إذا ترك المسلم لنفسه العنان وترك للسانه أن ينهش في أعراض الناس، يغتاب هذا ويسب هذا ويستهزأ بهذا فإن الله –تعالى- غني عن صيام مثل هذا، يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، إذ حكمة الله –عز وجل- عالية سامية من الصيام، لا تقف عند حد ترك الطعام والشراب إنما تتجاوز ذلك إلى تهذيب سلوك الإنسان وأخلاقه في منطقه وأعماله، فيتميَّز عن غيره ويتميَّز عنه في أيّ وقت آخر، ولهذا جاء عن جابر –رضي الله عنه- أنه قال: “إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وَقارٌ وسكينة، ولا يكن يوم صومك وفطرك سواء”

كذلك على الصائم أن يجتنب آفات القلب، فإن آفات القلب قد تكون أخطر من آفات اللسان، وكثير من الناس يحاسب نفسه وجوارحه الظاهرة وينسى آفات القلب ولا يعالج قلبه، من آفات القلب: الكِبْر، أن يتكبر على عباد الله ويتعالى ولا يقبل الحق؛ كما جاء في الحديث: (الكِبْر بطر الحق وغمط الناس) بطر الحق: أي ردّه، وغمط الناس: أي ازدراؤهم واحتقارهم، فالكبْر آفة من آفات القلوب، و(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبْر).

كذلك الحسد، وهو تمني زوال النعمة عن الغير.

وظن السوء، كل هذه من الكبائر المحرمة التي نهى الله –عز وجل- عنها، هي محرمة في كل وقت لكن تتأكد حرمتها في رمضان.

فعلى المرء المسلم أن يحفظ صيامه ظاهرا وباطنا.

 تجنب الغضب :

كثير من الناس –مع الأسف- يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الصيام، إذا أحسّ بالجوع غضب وخصوصا عند الإفطار، وزمان الإفطار ووقت الإفطار ذلكم الوقت وقتٌ فاضل شريف وقت كريم، جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (إن للصائم عند فطره دعوة ما تردّ)، فأنت كلما مضى عليك من هذا اليوم وقتٌ كلما اقتربتَ من الله –سبحانه وتعالى- لأنك في عبادة بعد عبادة بعد عبادة، فلا ينبغي أن يحملك ذلك على الغضب بل اضبط نفسك واعلم أنّ لك في هذا الأجر من الله –سبحانه وتعالى-

كثير من الناس خاصة عند الصيام تجد أنه غضبان ما يريد أن يكلمه أحد، جائع وينتظر متى يفطر، وهذا ما عرف قيمة هذا الوقت وما عرف الغاية من الصيام؛ وهو تهذيب النفس، وما عرف أنه مما يجب عليه في الصيام أن يتعلّم أدبا من الآداب؛ وهو الصبر وكظم الغيظ وتحمُّل المشاق، فعلى المرء المسلم أن يسيطر على نفسه وعلى مشاعره وأعصابه فلا يغضب؛ لأنك  في عبادة، وما تعانيه من تعب وجوع وعطش تثاب عليه من الله –سبحانه وتعالى-، وإذا كنت لا تستطيع أن تضبط نفسك من السب والشتم فعلى الأقل اسكت، فإنّ السكوت سلامة وغنيمة.

لكن من عباد الله من هذّبوا أنفسهم وتعوّدوا على الصيام، فترى أنّ الصيام لا يؤثِّر عليهم في أخلاقهم تأثيرًا سيئا بل هم يتعاملون أحسن تعامل ويقومون بعملهم بأكمل ما يكون، ومن أظهر الأمثلة على هذا الذين يوفِّقهم الله –عز وجل- من عباده للتطوُّع بالصيام، تجد أنّ بيننا من يتطوَّعون بالصيام فيصومون الاثنين والخميس أو الثلاثة أيام البيض أو غير ذلك ونحن ما نشعر بهذا أخلاقهم من أحسن ما يكون وعملهم من أتمِّ ما يكون، سيطروا على أنفسهم وقاموا بواجبهم مع أنهم صائمون، فلا مشقة في الصيام مع الاحتساب والصبر، مع الاحتساب والصبر لا مشقة في الصيام والحمد لله.

أسأل الله –سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبارك لنا فيما بقي لنا من رمضان وأن يوفقنا فيه لصالح الصيام والقيام، وأن يجعلنا وإياكم ممن يخرج شهر رمضان وقد غُفِرَت لهم ذنوبهم وعادوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 241 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم

جديد الموقع