محاسبة النفس

تاريخ الإضافة 21 يوليو, 2022 الزيارات : 7426

 محاسبة النفس

المحاسبة هي معيار الإنجاز كم أنجزت في طريقك إلى الله ؟ بمعنى لو أنك مسافر إلى مدينة بينك وبينها 300 كم ، تقطعها في 3 ساعات ، لكن بعد ساعتين لم تقطع إلا 50 كم ، فمعنى ذلك أن هناك تقصير وتأخير ، فما هو السبب ؟ وما هي العوائق ؟

أين أنا في الطريق إلى الله ؟ كم مرحلة قطعت  ؟

 

أخي الحبيب : كم صلاةٍ أضعتَها ؟ كم صدقةٍ بَخِلتَ بها ؟ كم معروفٍ تكاسلتَ عنه ؟ كم منكرٍ سكتَّ عليه ؟ كم نظرةٍ محرمةٍ أصبتَها ؟ كم كلمةٍ فاحشةٍ أطلقتها ؟ كم أغضبتَ والديك ولم ترضِهِما ؟ كم قسوتَ على ضعيفٍ ولم ترحمه ؟ كم من الناسِ ظلمتَه ؟ كم وكم …؟

إنا لنفـرحُ بالأيـامِ نقطعُـها *** وكـلَّ يومٍ يُدني من الأجـلِ

 

هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟

وهل حاولت يوماً أن تعد سيئاتك كما تعد حسناتك؟

بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار؟!

وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟

 

فالعمر يمر علينا بل يجري بنا ، ونحن في هذه الدنيا كراكبي القطار إن ناموا ، أو استيقظوا ، أو أكلوا ، أو شربوا ، أو لعبوا ، أو تعبوا …..فالقطار يجري وبسرعة ….وهكذا العمر يمضي أطعت …عصيت … صدقت …كذبت …العمر يجري لا يتوقف .

وكما ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام : ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).

أي: كل الناس يبدأ يومه من الغدوة بالعمل، فمنهم من يتجه إلي الخير، ، ومنهم من يتجه إلي الشر، فالمسلم الطائع يغدو وهو بائع نفسه لله، باعها بيعا يعتقها فيه؛ ولهذا قال: ( فبائع نفسه فمعتقها) فبائع نفسه فيما يعتقها وينجيها من النار. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.

 

( أو موبقها) معني ( أوبقها) أهلكها ، بائع نفسه فموبقها ، فيبدأ يومه بمعصية الله.

 

تعريف المحاسبة :

عرفها ابن القيم بقوله : هي التمييز بين ماله وعليه.

فالمؤمن يحاسب نفسه على ما عمل أو صدر عنه ، و يجتهد في ذلك لأنه يعلم أن الله مطلع عليه ويراه ، فهي محاسبة لإصلاح النفس و تعديل السلوك ، وهي ليست محاسبة في الماديات أو التجارات لمعرفة الربح و الخسارة بل لمعرفة الربح والخسارة فيما قدم الإنسان من طاعات لله تعالى و ما ارتكبه من المعاصي و معرفة مدى مطابقة أعماله و مقارنتها بميزان الشرع فان رأى انحرافات أو تقصيرا تاب و أناب وصحح المسير .

 

يقول ابن قدامة : ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال و في الربح و الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان ، رأس المال في دينه الفرائض و ربحه النوافل و الفضائل و خسرانه المعاصي(منهاج القاصدين 410)

 

أدلة محاسبة النفس :

جاءت النصوص الآمرة في محاسبة النفس في القران والسنة المطهرة و في أقوال السلف الصالح و نذكر منها :

قال تعالى : ”  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ  نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)”  سورة الحشر 18

فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟.

والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيض وجهه عند الله .

ويقولُ ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – ( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافية )

 

 

ويقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله – : ” وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها ” .

 

وقالَ رحمه الله في إغاثةِ اللهفان : ” وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يقولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد ” انتهى كلامه رحمه الله .

وقال تعالى : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)القيامة 2

ومعنى الآية أن الله تعالى يقسم بالنفس اللوامة وهي النفس التي تلوم الإنسان على فعل الخير لماذا لم يزدد منه ، أو تلوم الإنسان على فعل الشر لم فعله ، قال الحسن البصري رحمه الله : ( لا تجد المؤمن إلا معاتبا نفسه ” ، إن تكلم بكلمة قال لها : ماذا أردتى بهذه الكلمة ؟ أردتى وجه الله أم أردتى الناس ؟ وإن أكل الأكلة قال لنفسه : ماذا أردتى بهذه الأكلة ؟

 

وقال قتادة في قوله تعالى: (وكان أمره فرطاً) [الكهف:28] أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظاً لماله، مضيعاً لدينه.

و في الحديث عن شداد بن أوس قال :  قال رسول الله ” الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني  . ‌ ”  رواه ابن ماجه و قال حديث حسن ، و معنى دان نفسه أي حاسب نفسه في الدنيا  .

 

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أو قال: “على من لا تخفى عليه أعمالكم).

وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: (أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟) وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا ابن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله وجعلك خليفةً، فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه).

 

وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين ـ رضي الله عنه: كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!.

 

وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنها: كان كثير البكاء والخوف، والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.

و عن ميمون بن مهران : لا يكون الرجل تقيا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه … من أين مطعمه و مشربه .

 

وكان الأحنف بن قيس يجئ إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟

و قال الحسن :  إن العبد مازال بخير ما كان له واعظ من نفسه و كانت المحاسبة همه

و قال ابن القيم  : من لم يحاسب نفسه في الدنيا فهو في غفلة .

وكان توبة بن الصمة من المحاسبين لأنفسهم فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟

 

عبد الله قل :

أنا العبد الذي كسب الذنوبا *** وصدته المنايا أن يتوبا

أنا العبد الذي أضحى حزينا *** على زلاته قلقا كئيبا

أنا المضطر أرجو منك عفوا *** ومن يرجو رضاك لن يخيبا

فيا أسفى على عمر تقضى *** ولم أكسب به إلا الذنوبا

وياحزناه من حشري ونشري *** بيوم يجعل الولدان شيبا

فيا من مد في كسب الخطايا *** خطاه أما آن الأوان أن تتوبا

 

كيفَ أحاسبُ نفسي ؟

 

أولاً : البدءُ بالفرائض ، فإذا رأى فيها نقصٌ تداركهُ .

 

ثانياً : النظرُ في المناهي ، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية .

 

ثالثاً : محاسبةُ النفس على الغفلةِ ، ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم .

 

رابعاً : محاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح ، وكلامِ اللسان ، ومشيِ الرجلين ، وبطشِ اليدين ، ونظرِ العينين ، وسماعِ الأذنين ، ماذا أردتُ بهذا ؟ ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟

 

قال أنس رضي الله عنه : سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه ، وقد دخلَ حائطاً ، وبيني وبينه جدار ، يقول : عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين !! بخٍ بخ ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك ! .

 

ومن صور محاسبة النفس : أولاً : تمثيل النفس في مكان أهل الجنة أو مكان أهل النار : قال إبراهيم التيمي – رحمه الله – : ( مثَّلت نفسي في الجنَّة آكلُ من ثمارها ، وأشرب من أنهارها ، وأعانق أبكارها .

 

 

ثم مثَّلت نفسي في النار آكل من زقُّومها ، وأشرب من صديدها ، وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : أَيْ نفسي ! أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعملَ صالحاً ، قال : قلت : فأنت في الأُمنيَّة ، فاعملي ) .

 

والمحاسبة لها ثلاثة أركان: (مأخوذة من كلام ابن القيم في مدارج السالكين)

أحدها: أن تقايس بين نعمته وجنايتك”.

أن تحــاسـب النفس على معصية ارتكبتها ، وتقارن بين نعم الله ومعاصيك ، فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب.

وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ويتبين لك حقيقة نفسك وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ، وأنه لولا فضل الله ورحمته لتزكيته لها ما زكت أبدا ولولا هداه ما اهتدت ولولا إرشاده وتوقفه لما كان لها وصول إلى خير البتة .

 

وهذه المقايسة تحتاج ثلاثة أشياء :

نور الحكمة ، وسوء الظن بالنفس ، وتمييز النعمة من الفتنة.

(1) نور الحكمة :

وهو نور الوحي ، وهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل ، والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والشر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها و مرجوحها و مقبولها و مردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم ، فنور الوحي يميز لك الذهب النفيس من المعدن الخسيس .

(2) وأما سوء الظن بالنفس:

فلأن المعجب بنفسه متكبر ،وحسن الظن بالنفس يمنع من التفتيش عن عيوبها ، بل ويلبس عليه فيرى المساوىء محاسن والعيوب كمالا فإن المحب يرى مساوىء محبوبه وعيوبه كذلك، كما قال الشاعر :

 

 

 

فعين الرضا عن كل عيب كليلة    كما أن عين السخط تبدي المساويا

 

ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.

(3) تمييز النعمة من الفتنة :

فيفرق بين النعمة التي يرى فيها الإحسان واللطف ، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج ، فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه .

 

 

فالنعمة مع الطاعة إحسان وفضل ،والاستدراج نعمة مع معصية ، فقد يفتح الله على بعض أهل المعاصي من الرزق ما يغترون به، ويكون سبباً في هلاكهم، وهذا من مكر الله بهم ، استدراجاً لهم إذا تركوا ما أمروا، ووقعوا فيما نهوا عنه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ الأنعام: 44.

الركن الثاني من أركان المحاسبة:

أن تميز الحق الذي لك والواجب الذي عليك:

فتفرق بين الحلال والحرام ، والسنة والبدعة ، والطاعة والمعصية .

ومن لم يميز بين هذه الأمور تجده متخبطا عن الحق زائغا ، فيتعبد بترك ما له فعله كترك المباحات ويظن ذلك حقا عليه أو يتعبد بفعل ما له تركه ويظن ذلك حقا عليه.

مثال الأول: من يتعبد بترك النكاح أو ترك أكل اللحم أو الفاكهة مثلا أو الطيبات من المطاعم والملابس ويرى لجهله أن ذلك مما عليه فيوجب على نفسه تركه أو يرى تركه من أفضل القرب وأجل الطاعات .

وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من زعم ذلك ففي الصحيح “أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا عن عبادته في السر؟ فكأنهم تقالوها .

فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم

وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء

وقال الآخر أما أنا فلا أنام على فراش

فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم فخطب وقال: ما بال أقوام يقول أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم ويقول الآخر أما أنا فلا أتزوج ويقول الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش؟ لكني أتزوج النساء وآكل اللحم وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني” رواه النسائي بهذا اللفظ وأصله في الصحيح

فتبرأ ممن رغب عن سنته وتعبد لله بترك ما أباحه لعباده من الطيبات رغبة عنه واعتقادا أن الرغبة عنه وهجره عبادة فهذا لم يميز بين ما عليه وما له.

وكان هناك رجل اسمه قشير، وكنيته أبو إسرائيل، وكان رضي الله عنهلديه رغبة شديدة في التقرب إلى الله تعالى ومحبته وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، فأحب أن يظهر محبته لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه أخطأ الطريق وألزم نفسه بقيود لم ترد في الشرع، حيث نذر ألا يتكلم، ولا يستظل من الشمس ولا يقعد تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة، ومع ذلك كله يصوم مبالغة في المحبة والتقرب إلى الله تعالى، فسأل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فصحح له الرسول صلى الله عليه وسلم منهجه فقال: “مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه”رواه البخاري ، فأبطل عليه الصلاة والسلام ما ابتدعه هذا الرجل من عند نفسه دون أصل شرعي، مما لا نفع فيه ولا ثواب، وأقر فقط ما كان له أصل في الشرع وهو الصيام مما له أجر ونفع.

 

ومثال الثاني: من يتعبد بالعبادات البدعية التي يظنها جالبة للحال والكشف والتصرف ولهذه الأمور لوازم لا تحصل بدونها ألبتة فيتعبد بإلتزام تلك اللوازم فعلا وتركا ويراها حقا عليه وهي حق له وله تركها كفعل الرياضات والأوضاع التي رسمها كثير من السالكين بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم من غير تمييز بين ما فيها من حظ العبد والحق الذي عليه فهذا لون وهذا لون.

فهناك من حول الدين إلى مجموعة منامات وتهيؤات رغم أن الدين قد تم والرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة فلا داعي للزيادة في الدين بما لم يرد في كتاب وسنة وهذا الباب من أخطر الأبواب التي يدخل منها إبليس على كثير من العباد الذين لا حظ لهم من العلم الشرعي.

بل ربما ظهر لأحدهم في المنام ويقول له أنا العارف بالله أو العالم الفلاني وأوصيك بكذا وآمر اتباعك بكذا وكذا ….الخ

وقد حدث هذا لأحد العلماء لكنه أبصر الحق من الضلال وقال للشيطان اخسأ يا لعين ، وها هي القصة كما ذكرها ابن تيمية :

“وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبدالقادر في حكايته المشهورة حيث قال كنت مرة في العبادة فرأيت عرشا عظيما وعليه نور فقال لى يا عبدالقادر أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك قال فقلت له أنت الله الذى لا إله إلا هو اخسأ يا عدو الله قال فتمزق ذلك النور وصار ظلمة وقال يا عبد القادر نجوت منى بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلا فقيل له كيف علمت أنه الشيطان قال بقوله لى حللت لك ما حرمت على غيرك وقد علمت أن شريعة محمد لا تنسخ ولا تبدل ولأنه قال أنا ربك ولم يقدر أن يقول أنا الله الذى لا إله إلا أنا ” مجموع الفتاوى (ابن تيمية) ج1/ص172

 

الركن الثالث من أركان المحاسبة: أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك:

 

الرضا بالطاعة دليل على حسن الظن بالنفس والجهل بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.

وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.

فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها.

 

وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده.

وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال : {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}البقرة:198، 199

وقال تعالى : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} آل عمران:17

قال الحسن: “مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل”

وفي الصحيح “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام”

وأمره الله تعالى بالإستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وقضاء فرض الحج واقتراب أجله فقال في آخر سورة أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الإستغفار .

كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه “سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين”.

فهذا شأن من عرف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها لا جهل أصحاب الدعاوى وشطحاتهم.

 

وقد مدح الله تعالى أهل طاعته بقوله: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [المؤمنون:57-61).

 

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون، ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات) [الترمذي وابن ماجه واحمد].

وقال بعض العارفين: متى رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر وعمله عرضة لكل آفة ونقص كيف يرضى لله نفسه وعمله؟.

ولله در الشيخ أبي مدين حيث يقول: “من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الإفتراء وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية وعرفت الله وعرفت النفس وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله”.

فعلى المسلم الصادق أن يطلع على عيوب نفسه فيبدأ بعلاجها، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: «ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى».

وقال بكر المزني: «لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم»، وقال يونس بن عبيد: «إني لأجد مائة خصلةٍ من خصال الخير، ما أعلم أن في نفسي منها واحدة».

وقال محمد بن واسع: «لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي».

 

ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32]. فقالت: أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله شهد له رسول الله بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا، وإنما قالت هذا تواضعًا، وإلا فهي من خيار السابقين المقربين.

ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف ما يدنو بالعمل.

وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحاسبون أنفسهم، فأثمرت المحاسبة استصغار العمل ودنو الأجل.

وقوله: “وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك”.

يحتمل أن يريد.به: أنها صائرة إليك ولا بد أن تعملها وهذا مأخوذ من كلام بعض السلف “لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك”وهذا ليس بحديث كما قال العلماء الثقات .

ويحتمل أن يريد: أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب ، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله وما أقرب هذا المعجب من مقت الله ، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تفتخر بها عليه وإنك أن تبيت نائما وتصبح نادما خير من أن تبيت قائما وتصبح معجبا فإن المعجب لا يصعد له عمل ، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت معجب بعملك ،وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المعجبين بأعمالهم .

 

وكانت عامة يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا وَمُقَلِّبِ القُلُوب” وقال: “ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه” ثم قال: “اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك”.

 

أفضل أوقات محاسبة النفس :

وقت الخلوة بالنفس ، ووقت الشروع للنوم.

بحيث يستعرض الشخص منا شريط يومه الماضي ويجمع زلاته وأخطائه التي بدرت منه ، ويسأل نفسه : لماذا عملت تلك المعصية ويعاتب نفسه…

 

فوائد محاسبة النفس :

ولمحاسبة النفس فوائدٌ جمّةٌ ، منها :

 

أولاً : الإطلاعُ على عيوبِ النفس ، ومن لم يطلع على عيبِ نفسِه لم يمكنهُ معالجتُه وإزالته .

 

ثانيـاً : التوبةُ والندمُ وتدارك ما فات في زمنِ الإمكان .

 

ثالثـاً : معرفةُ حقُ اللهِ تعالى ، فإن أصلَ محاسبةُ النفس هو محاسبتُـها على تفريطها في حقِ الله تعالى .

 

رابعـاً : انكسارُ العبد وتذلله بين يدي ربه تبارك وتعالى باقراره بالتقصير وطلبه للعفو .

 

خامساً : معرفةُ كرَمِ الله سبحانه ومدى عفوهِ ورحمتهِ بعبادهِ في أنه لم يعجل لهم عقوبتَهم معَ ما هم عليه من المعاصي والمخالفات .

 

سادسـاً : الزهد ، ومقتُ النفس ، والتخلصُ من التكبرِ والعُجْب .

 

سابعـاً : تجد أنَّ من يحاسبُ نفسَهُ يجتهدُ في الطاعةِ ويترُكُ المعصية حتى تَسهُلَ عليهِ المحاسبةُ فيما بعد .

 

ثامنـاً : ردُ الحقوقِ إلى أهلِـها ، ومحاولةُ تصحيحِ ما فات .

 

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 351 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم