فقه البيوع :6-أحكام أنواع أخرى من البيوع

تاريخ الإضافة 16 أغسطس, 2023 الزيارات : 3201

فقه البيوع :6-أحكام أنواع أخرى من البيوع

أولاً: بيعتان في بيعة:

البيعتان في بيعة أحد البيوع المنهي عنها، وقد ورد في النهي عنها جملة من الأحاديث نذكر منها:

– ما رواه أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

– ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)

– ما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)

وقد اختلف أهل العلم في المراد بالبيعتين في بيعة على أقوال نذكر منها:

1- البيع بثمنين معجل ومؤجل أعلى منه على الإبهام ، وذلك بأن يقول له البائع: هي بكذا نقدا وبكذا نسيئة ويفترقان على الإبهام دون تحديد.

ووجه المنع من هذه الصورة أمران:

الأول: جهالة الثمن وعدم استقراره.

الثاني: شبهة الربا، ووجه ذلك أنه إذا ملك السلعة بدينار نقدا وبدينارين إلى أجل وقد وجب عليه أحدهما فهذا كأنما وجبت عليه بدينار نقدا فأخره فجعله بدينارين إلى أجل، أو فكأنما وجبت عليه بدينارين إلى أجل فعجلهما فجعلهما بدينار نقدا.

2- بيع الشيء بثمن مؤجل على أن يشتريه منه بثمن حال أقل من ثمنه الأول، وهذا بيع العينة وهو أحد البيوع التي يتذرع بها إلى الربا، لأن المقصود في الحقيقة هو نقد بنقد مع زيادة ، وما السلعة إلا وسيط صوري يتذرع به لاستباحة هذه الزيادة.

وقد قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن وهذا معنى الحديث الوارد في البيعتين في بيعة وهو الذي لا معنى له غيره وهو مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( بيع الشيء بثمن مؤجل على أن يشتريه منه بثمن حال أقل من ثمنه الأول  فله أوكسهما أو الربا ) فإما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وقد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله ، والذين قالوا بتحريم العينة قالوا يحرم ذلك ويفسد إذا وقع، فإن كان ذلك عن تواطؤ واتفاق فهو فاسد عند الجميع.

3- أن يشترط في عقد البيع عقدا آخر كأن يقول بعتك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذه السيارة بكذا ، سواء حدد المبيع الثاني أو الثمن أم لا، فكل عقدين جمع بينهما في عقد واحد فهو من المنهي عنه لدخوله في عموم النهي عن الصفقتين في صفقة.

وينبغي التفريق بين هذه الصورة وبين صورة بيع سلعتين مختلفتين بثمن واحد كأن يبيع سيارة ودارا بمليون دينار مثلا أو بيع سلعة بسيارة وألف دولار فهذا ليس من البيعتين في بيعة وهو جائز بالاتفاق.

أن يُسْلِمَ في سلعة إلى أجل فإذا حل هذا الأجل باعها له إلى أجل آخر بزيادة، فهذا بيع ثان دخل على البيع الأول فيرد إلى أوكسهما وهو الأول، وهو من المنهي عنه عند الجميع.

ثانيا: البيع عند أذان الجمعة:

من الظواهر التي لا تخطئها العين في كثير من المجتمعات فشو هذه الظاهرة، ظاهرة البيع والشراء عند أذان الجمعة، وقد ورد النهي عن ذلك صريحا في كتاب الله عز وجل في قوله  تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [الجمعة: 9] هذا قول الجمهور خلافا للحنفية الذين حملوا النهي عن البيع بعد النداء الوارد في آية الجمعة على الكراهة تحريماً أو تنزيهاً حيث قال الكاساني بعد سياق الآية: الأمر بترك البيع يكون نهياً عن مباشرته وأدنى درجات النهي الكراهة.

وما ذهب إليه الجمهور من تحريم البيع بعد النداء أقوى؛ لأن الآية نصت على النهي عن البيع والنهي يقتضي التحريم ولم يأت الحنفية بصارف لهذا النهي من التحريم إلى الكراهة تحريماً أو تنزيهاً.

والأذان المقصود في هذا المقام هو الأذان الذي يكون بين يدي الخطيب فهو الأذان الذي كان في زمن النبوة وإليه ينصرف النداء عند الإطلاق، فقد روى البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال:( كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء)

قيود تحريم البيع عند نداء الجمعة:

إن تحريم البيع وقت نداء الجمعة مقيد بقيود منها:

-أن يكون المشتغل بالبيع ممن تلزمه الجمعة، فلا يحرم البيع على المرأة والصغير والمريض لأن الله جل وعلا قد نهى عن البيع من أمرهم بالسعي، فغير المخاطبين بالسعي لا يتناولهم النهي، ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم.

– انتفاء الضرورة إلى البيع، كبيع المضطر ما يأكله وبيع كفن ميت خيف تغيره بالتأخير وإلا فلا يحل.

– أن يكون المشتغل عالما بالنهي فإن الحكم لا يثبت في حق المخاطب إلا إذا بلغه.

– أن يكون عند الشروع في أذان الخطبة (الأذان الثاني).

قياس سائر العقود على البيع في التحريم:

جمهور أهل العلم على أن النهي عن البيع عند نداء الجمعة يشمل النهي عن غيره من العقود كالإجارة والشركة والشفعة وغيرها مما فيه تشاغل عن الجمعة، بل نصوا على المنع من كل ما يشغل عن السعي إلى الصلاة كإنشاء السفر والأكل والخياطة والصنائع، بل والاشتغال بعبادة أخرى.

والمذهب عند الحنابلة أن التحريم خاص بالبيع والشراء فقط لورود النهي فيه فحسب، ولأن غيره لا يساويه لقلة وقوعه فلا تكون إباحته ذريعة لفوات الجمعة فلا يصح قياسه عليه.

حكم بيع من تلزمه الجمعة ومن لا تلزمه الجمعة:

سبق أن من لا تلزمهم الجمعة مستثنون من حكم تحريم البيع وقت نداء الجمعة، فلو تبايع اثنان ممن لا تلزمهم الجمعة فلا حرج عليهما.

أما إذا وجبت الجمعة على أحدهما دون الآخر فإن جمهور أهل العلم على أنهما يأثمان جميعا: الذي وجبت عليه لارتكابه للنهي، والآخر الذي لم تجب عليه لأنه أعانه على الإثم.

ثالثا / البيع والشراء في المسجد:

يحرم البيع والشراء في المسجد ؛ فالمساجد بيوت الله ، والواجب أن تصان عن عقود البيع والشراء وغيرها من المعاملات المالية ؛ وقد نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ) رواه  الترمذي وصححه الشيخ الألباني .

واختلف العلماء رحمهم الله : هل هذا النهي للتحريم أم الكراهة ، وإذا تم عقد البيع داخل المسجد ، هل يحكم بصحته أم لا ؟
والذي عليه جمهور العلماء : أن العقد صحيح مع الكراهة .
وذهب الحنابلة ـ في المشهور من المذهب ـ إلى أن عقد البيع في المسجد محرم وباطل ؛ لورود النهي عن البيع في المسجد ، والنهي يقتضي الفساد .

وما ذهب إليه جمهور العلماء من صحة البيع هو الأقرب ؛ لأن النهي يرجع إلى سبب خارج عن ماهية البيع وشروطه ، وقد رجح هذا القول : ابن قدامة من الحنابلة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية .

قال ابن قدامة رحمه الله : ” فَإِنْ بَاعَ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ ، وَشُرُوطِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ وُجُودُ مُفْسِدٍ لَهُ ، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ لَا تُوجِبُ الْفَسَادَ ، كَالْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ) ، مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ بِفَسَادِ الْبَيْعِ : دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ ” انتهى من ” المغني ” (6/383) .

رابعا / بيع الحاضر للباد:

فلا يبع الحاضر المقيم في البلد للقادم من غير أهل البلد ، سواءً كان بدويًا أو حضرياً ، ومعنى لا يبع له لا يكون له سمسارًا أي وسيط أو دلال بين البائع والمشتري والحكمة في هذا والله أعلم أن هذا الذي جاء من خارج البلدة لا يعرف أسعار البلدة فيبيعها بسعر قليل فيكون في ذلك مصلحة لمجموع أهل البلدة فتُقدم مصلحة الجميع على مصلحة الفرد الواحد ، ولذا ورد في الحديث ( دعوا الناس يزرق الله بعضهم من بعض ) رواه مسلم ولكن قال العلماء لو أن البادي أتى وطلب من الحاضر أن يبيع له جاز ذلك إذ النهي عن أن يقوم الحاضر ويطلب من البادي أن يبيع له السلعة .

خامسا/ البيع قبل القبض:

قال صلى الله عليه وسلم (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه )  يعني حتى يقبضه وهو في الصحيحين وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو في البخاري ( رأيت الناس يشترون الطعام جزافًا يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  في أن يؤوه إلى رحالهم )

وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه واختلفوا فيما عدا الطعام فمن العلماء من قال: أنه يجوز وخصوا النهي بالطعام وهو مذهب المالكية والحنابلة وضعفوا الأحاديث التي وردت في غير الطعام 

والقول الثاني أن النهي شامل للطعام ولغيره وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد من الحنفية ورواية عند الحنابلة اختارها ابن تيمية وابن القيم وذلك لأمور:

أولا: أن الحديث قد ورد بلفظ (إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه) رواه أحمد وصححه الألباني 

ثانيًا: أن راوي الحديث وهو ابن عباس قال: “ولا أحسب كل شيء إلا مثله” متفق عليه يعني مثل الطعام فهذا تفسير من الراوي وهو أعلم بما روى.

ثالثًا: ورد عند أبي داود من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن الناس كانوا يشترون السلع من السوق (فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تُباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أبو داود وقال الألباني: حسن لغيره .

وقالوا إن علة النهي عن البيع قبل القبض هو عجز المشتري عن تسلم وتسليم السلعة فلم يتم الملك على المبيع لأن البائع قد لا يسلمه السلعة وخاصةً إذا رأى أنه قد ربح فيسعى في رد المبيع إما بجحد أو احتيالٍ على الفسخ مما يؤدي إلى الشحناء والعداوة، وقد جاء الدين بسد كل بابٍ يؤدي إلى ذلك 

وأجاب أصحاب القول الأول بمنع عدم تمام الملك فالسبب المقتضي للملك متحقق واليد ليست شرطاً في صحة البيع بدليل جواز بيع الودائع والإرث والتصرف في الصداق وأما عدم تسليم البضاعة من البائع إن وجد فهو ظلمٌ وتعدي ولا يمنع التملك بسببه (الفقه الميسر 1/40)

تنبيه / القبض راجع للعرف فما عده الناس قبضًا فهو قبض وهذا يختلف باختلاف السلع فقبض الدار غير قبض الطعام وغير قبض السيارة وغير قبض الأخشاب كل شيء بحسبه، فمثلاً قبض الدار يكون بالتخلية بمجرد أن يخلي البائع الدار ويسلم للمشتري المفاتيح تحقق القبض، وقبض ما يمكن نقله يكون بحيازته ونقله، والمقصود أن القبض يرجع إلى العرف.

سادسا / البيع والشراء لمن يستعين به على معصية الله:

كبيع السلاح في الفتنة بين المسلمين ولقطاع الطريق، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً ونحو ذلك لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة.

ما حكم بيع أو تصنيع ملابس النساء؟

الملابس النسائية التي يبيعها التجار في محلاتهم لا تخلو من ثلاث حالات :

الأولى : أن يعلم البائع أو يغلب على ظنه أن هذه الثياب ستستعمل استعمالاً مباحاً , ولن تستعمل استعمالاً محرماً , فبيع هذه الثياب لا حرج فيه .

الثانية : أن يعلم البائع أو يغلب على ظنه أن هذه الثياب ستستعمل استعمالاً محرماً , أي : ستلبسها المرأة وتتزين بها أمام الرجال الأجانب عنها , فبيع هذه الثياب حرام , لقول الله تعالى : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة/2 .

ويمكن للبائع أن يعلم ذلك حسب نوعية الثياب وحال المرأة التي تشتريها .

فهناك بعض الألبسة عُلِمَ من العادة أن المرأة مهما كانت متبرجة لن تلبسها إلا لزوجها , ولا يمكن أن تخرج بها أمام أحد من الرجال الأجانب عنها , وهناك الألبسة التي يغلب على ظن البائع – وقد يتيقن – أن المشترية لها ستستعملها استعمالاً محرماً .

فالواجب على البائع أن يعمل بما علمه أو غلب على ظنه من حال المشترية .

وقد تكون الثياب يمكن استعمالها استعمالاً مباحاً أو استعمالاً محرماً , ولكن التزام النساء بالحجاب ، أو إلزام الدولة لهن بذلك يمنع من استعمالهن لها استعمالاً محرماً , فلا حرج في بيعها .

الثالثة : أن يشك البائع ويتردد هل هذه الثياب ستستعمل استعمالاً مباحاً أم محرماً , لكون الثياب صالحة للاستعمالين , وليس هناك قرائن ترجح أحد الاحتمالين , فبيع هذه الثياب لا حرج فيه , لأن الأصل إباحة البيع وعدم تحريمه , لقول الله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) البقرة/275 , والواجب على من اشتراها أن يستعملها فيما أحل الله , ولا يجوز أن يستعملها استعمالاً محرماً.

حكم التجارة في مواد التجميل للنساء:
حكم بيع هذه الأمور فيه تفصيل :
أ- إذا بعت هذه الأشياء على من تعلم أنه يستعملها في التبرج المحرم فلا يجوز .
ب- إذا بعتها على من تعلم أنه يستعملها في التزين المباح فيجوز .
ج- أما إذا لم تعلم عن حال المشتري شيئاً فيجوز بيعها له .

سابعا / حرمة شراء المغصوب والمسروق:

يحرم على المسلم أن يشتري شيئا وهو يعلم أنه أخذ من صاحبه بغير حق، لأن أخذه بغير حق ينقل الملكية من يد مالكه، فيكون شراؤه له شراء ممن لا يملك، مع ما فيه من التعاون على الاثم والعدوان.
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اشتري سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها».

ثامنا / بيع العربون:

وصورته كالتالي:

إذا اعطيت شخصا مبلغا من المال (مثلا500$)، على أن أكمل بقية المبلغ وأشتري منه سيارة، ثم غيرت رأيي ولم أعد أريدها،هل من حقه أخذ 500$ وعدم ارجاعها لي؟

إذا تم الاتفاق بين البائع والمشتري على بيع السلعة، وأخذ البائع مقابل ذلك مقدماً (وهو العربون)، ثم بعد ذلك رجع المشتري في الصفقة، فقد اختلف أهل العلم في مصير العربون أهو للبائع أم للمشتري؟
فذهب جمهور أهل العلم إلى أن بيع العربون لا يصح، فلا يجوز للبائع أخذه، وعليه رده للمشتري، وممن قال بهذا مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن، لما رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان. والعربان بضم العين هو العربون.

وذهب أحمد إلى حله للبائع إن اتفقا على ذلك، بأن يقول: إن أخذت المبيع وجئت بالباقي وقت كذا وإلا فهو لك، ومما استدل به ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان فأحله. ولما روي عن نافع بن عبد الحارث: أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا.
فإن اتفقا على شيء، أو جرى العرف بين البائع والمشتري على أمر ما في شأن هذا العربون أو المقدم عند رجوع المشتري في صفقته رجعا إليه، وكان ما اتفقا عليه وتراضيا هو الفاصل بينهما، وكذا العرف الجاري.
وإن لم يتفقا على شيء، ولم يكن ثم عرف متداول في هذا الشأن، وحدثت بينهما مشاحة، بسبب تفويت المشتري على البائع إنفاق سلعته، وكان في ذلك مضرة على البائع، وكان البيع قد تم أو تواعدا لإتمامه بالكتابة والتوثيق، فإن للبائع أن يقدر أتعابه وما فات عليه، وعلى المشتري أن يلتزم له بذلك، ويكون ما يأخذه البائع في ذلك مقابلاً لخسارته، وإن لم يتم البيع، ولا يكون من باب العربون.
وللبائع كذلك أن يلزم المشتري بإمضاء البيع ويمسك العربون، من باب الضمان لحقه إلى أن يتم بيع السلعة لحساب المشتري، ومن ثم يقبض البائع ثمن سلعته، ويرد على المشتري الأول ما بقي من ثمنها.

تاسعا/ حكم السمسرة:

” السمسرة: هي التوسط بين البائع والمشتري, والسمسار هو: الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطاً لإمضاء البيع وهو المسمى الدلال لأنه يدل المشتري على السلع, ويدل البائع على الأثمان .

والسمسرة يحتاج الناس إليها كثيراً خاصة في عصرنا الحديث، فكثير من الناس لا يعرفون طرق المساومة في البيع والشراء، وآخرون ليس عندهم قدرة على تمحيص ما يشترون ومعرفة عيوبه، وآخرون ليس عندهم وقت لمباشرة البيع والشراء بأنفسهم.

ومن هنا كانت السمسرة عملاً نافعاً، ينتفع به البائع والمشتري والسمسار.

ولا بد في السمسار من أن يكون خبيراً فيما يتوسط فيه بين البائع والمشتري، حتى لا يضر واحداً منهما بدعواه العلم والخبرة وهو ليس كذلك.

ولا بد أن يكون أميناً صادقاً، لا يحابي أحدهما على حساب الآخر، بل يبين عيوب السلعة ومميزاتها بأمانة وصدق، ولا يغش البائع أو المشتري.

قال الإمام البخاري في صحيحه:  بَاب أَجْرِ السَّمْسَرَةِ. وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ.

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ بِعْهُ بِكَذَا فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ لَكَ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ) ” انتهى كلام الإمام البخاري .

عاشرا/ ما هو الحد الأعلى للربح ؟

الربح هو الفرق الزائد بين ثمن المبيع وثمن الشراء بعد خصم المصروفات التجارية.

وكل ربح تولد عن طريق الاتجار في المهن المحرمة فهو كسب خبيث تولد عن عقود فاسدة، فلا يجوز الربح عن طريق الغش والتدليس، أو الغبن الفاحش أو الاحتكار ونحوه.

وليس في نصوص الشريعة تحديد لنسبة معينة للربح يحرم تجاوزها بحيث تصبح قاعدة عامة لجميع السلع في جميع الأزمنة والأمكنة وذلك لعدة حكم منها:

–  اختلاف الأموال في سرعة دورتها وبطئها، فما كانت دورته سريعة قل ربحه في العادة وما كان بطيئا كثر ربحه .

–  اختلاف البيع الحالِّ عن البيع المؤجل، إذ الأصل قلة الربح في الأول وكثرته  في الثاني .

– اختلاف المبيع في ذاته بين كونه ضروريا أو حاجيا فيقل ربحه رفقا بالضعفة وذوي الحاجة، وبين ما كان كماليا فيزيد ربحه في العادة لتيسر الاستغناء عنه .

ولهذا لم يرد في السنة المطهرة كما سبق تحديد لنسبة من الربح لا يجوز تجاوزها بل ورد فيها ما يثبت جواز بلوغ الربح في بعض الأحوال إلى الضعف ، بل وزيادته عن ذلك .

–  فقد روى البخاري في صحيحه عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما كان من أمره، فدعا له صلى الله عليه وسلم  بالبركة في بيعه، وكان لو اشتري التراب لربح فيه!

–  وصح أن الزبير بن العوام اشترى أرض الغابة وهي أرض عظيمة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفاً فباعها ابنه عبد الله بن الزبير بألف ألف(مليون) أي باعها بأضعاف مضاعفة .

ومما يحسن التنبيه عليه أن هذه الوقائع لم تقترن بأي لون من ألوان الغش أو التدليس أو الاحتكار أو استغلال استرسال المشتري وجهالته أو ضيقه وحاجته لإغلاء السعر عليه.

ومن ناحية أخرى فإنها لا تمثل القاعدة العامة في تقدير الأرباح، بل التيسير، والرفق ، والقناعة باليسير من الربح أقرب إلى هدي السلف وروح الشريعة .

ومن قنع بالقليل من الربح بورك له في سعيه، وقد كان على رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدِّرَّةِ ويقول: ( معاشر التجار خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره).

كما أن القول بحق التجار في أن يحددوا ما يشاءون من الربح في حدود القواعد العامة للشريعة لا يمنع ولي الأمر من التسعير عليهم وإلزامهم بنسبة معينة لا يتجاوزونها متى مست الحاجة إلى ذلك ووجد ما يقتضي هذا التسعير .

قرار المجمع الفقهي بشأن تحديد أرباح التجار:

وقد ناقش المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 – 6 جمادى الأولي 1409 الموافق 10 – 15 ديسمبر 1988 موضوع تحديد أرباح التجار فقرر ما يلي :

أولا : الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم ، في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها ؛ عملا بمطلق قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)”  [النساء: 29].

ثانيا : ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم ، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة ، وظروف التاجر والسلع ، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من : الرفق ، والقناعة ، والسماحة ، والتيسير .

ثالثا : تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش ، والخديعة ، والتدليس ، والاستغفال ، وتزييف حقيقة الربح ، والاحتكار  الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة .

رابعا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحا في السوق والأسعار ناشئا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادية الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش). أ. هـ.

حادي عشر/ كثرة الحلف في البيع والشراء:

الحَلِف والحَلْف هو القسم بالله وهو المعروف باليمين.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كثير الحلف في المتاجَرة من جملة الذين يبغضهم الله تبارك وتعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة يبغضهم الله عز وجل: البياع الحَلاف، والفقير المُختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر) أخرجه النسائي

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قلتُ: فمَن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: (المُختال الفخور)، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، قلت: ومن؟ قال: (البخيل المنَّان)، قال: ومَن؟ قال: (التاجر الحلاف، أو البائع الحلاف) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

و”الحلاف” صيغة مبالغة، وهو الذي يُكثر الحلف على سلعته بحق أو باطل، وإنما أبغضه الله تعالى لأنَّ الحلاف الكثير الحلف انتهك ما عظَّم الله من أسمائه، وجعله سببًا وحيلة لدرك ما حقَّره من الدنيا لعظمها في قلبه، فأبغَضَه ومقَتَه، هذا في الحَلِف الصادق، فما بالك بالكاذب؟ فإنه يجمع به بين قبح الكذب، والتهاون بالله، وتغرير المُشتري.

ولذلك كان إكثار الحلف في البيع مكروهًا مذمومًا وإن كان صادقًا، فهو يذهب ببركة البيع ويرفعها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف مَنْفَقَة للسلعة، مَمْحَقة للبركة)

هذا إن كان الحلف صادقًا، أما إن كان كاذبًا، فهو يجمع إلى ذم هذا الفعل وكراهته كبيرةً من الكبائر، مع ما يعقب ذلك من العقاب الرباني له يوم القيامة، فهو من جملة أولئك الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة كلامًا يَرضى به عنهم، بل بكلام يدلُّ على السخط ، ولا ينظر إليهم نظر رحمة وتلطف، وفي ذلك إهانة لهم واستحقار، عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم)، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: (المسبل والمنان، والمنفِّق سلعتَه بالحلف الكاذب).

المسبل : الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كبرًا واختيالاً.

المنان  :  من يمن بالصدقة لمن أعطاه ، وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر.

المنفق : المروج لسلعته .

ويدخل في جُملة هؤلاء من حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلَفَ على سلعة لقد أَعطَى بها أكثر مما أَعطَى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليَقتطِعَ بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعتَ فضْلَ ما لم تعمَل يداك)  أخرجه البخاري ومسلم

وإنما خص وقت ما بعد العصر بالذِّكر؛ لأن الأيمان المغلَّظة تقع فيه، وهو وقت شريف تُرفع فيه الأعمال إلى الله، ووقت ختامها، والأمور بخواتمها، فتغلظ فيه عقوبة الذنب، وقيل: إنه ليس بقيد، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن مثله غالبًا يقع في أواخر النهار، حيث يريدون الفراغ من معاملاتهم.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 278 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم