الإسلام والحفاظ على البيئة

تاريخ الإضافة 12 يونيو, 2022 الزيارات : 10930

الإسلام والحفاظ على البيئة

ماهي البيئة ؟

البيئة هيالمكان الذي نعيش فيه ؛ وهي باختصارٍ: “كلُّ شيءٍ يحيطُ بالإنسان، مِن مَوْجُودات، من ماء، وهواءٍ، وكائنات حَيَّةٍ، وجمادات، وهيَ المجالُ الطَّبيعي الذي يُمارِس فيه الإنسانُ حياته، ونشاطاته المختلفة.

الإسلام ورعاية البيئة :

مَن لا يعرف الإسلام قد يستغرب أن نقول:رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية ؛ لأن بعض الناس يظنون أن الإسلام إنما يُعنَى بالعبادات الشعائرية فقط ، وفِقه الإسلام يُعنى بالحيض والنفاس والاستنجاء والتيمم …… ولا علاقة للإسلام بالكون ولا بالإنسان ولا بالحياة ولا 

بالبيئة ، وهذه نظرة قاصرة وخاطئة في فهم رسالة الإسلام.

الحقيقة أن رسالة الإسلام رسالة شاملة تشمل الدين والدنيا معا ، تشمل الفرد والمجتمع، تشمل الحياة الإنسانية كلها بل الكون كله.

فما مَعْنى الفَساد في البِيئة منَ النَّاحية الشَّرعيَّة؟ وما أنواعه؟ وكيف قَوَّمَ الإسلامُ سُلُوكَ الإنسانِ وَهَذَّبَه؟

لِلْبِيئة نظامٌ دقيقٌ مُتَوازنٌ، صَنَعَهُ خالقٌ عظيمٌ، ومُدَبِّرٌ حَكِيمٌ، ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ النمل: 88؛ ولكن جاءتْ يد الإنسان لِتَعْبَثَ بِكُلِّ جميل في البِيئة، وتُهَدِّد الأخضر واليابس، فكان ذلكَ الشَّبح المُدَمِّر، الذي يُسَمِّيه القرآن الكريمالإفساد، وتسمِّيه العُلُوم المعاصِرة بـالتَّلَوُّث“.

فالإسلام حَرَّمَ الإفساد في الأرض، ونَهَى عنِ التَّخريبِ الذي يَتَسَبَّب فيه الإنسان للبيئة السليمة كَكُل؛ وبَيَّنَ مَوْقفه منَ المُفْسِدينَ بِقَوله – عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ البقرة: 205

وقال الله – تعالى-: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾البقرة: 60

{ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا} الأعراف:56

ما معنى بعد إصلاحها؟ يعني خلق الله الأرض صالحة مُهيَّأة لتُنبت للإنسان ولتُعطيه ما يحتاج إليه فيأتي من يفسد هذه الأرض ويفسد تربة الأرض ويفسد الماء ويفسد الهواء ويفسد كل شيء .

التَّحذير منَ التَّلَوُّث الصِّحي المُفْضِي إلى انتشار الأمراض:

هناكَ عددٌ منَ النُّصوص القرآنيَّة والنَّبويَّة، تدعو إلى الحِفاظ على الصِّحة، بدءًا منَ الدُّعاء بِطَلب العافية، ومُرورًا بِالوَسائل التي تجلب العافية، وتُحَافظ على سلامة البَدَن، وحتى التَّعامُل الإيجابي مع المَرَض في حالة وقوعه، والمُحَافظة على البيئة؛ حتى لا تنتقل عدوى المرض إلى الآخرين، فالإسلام يأمُر الفردَ بِالابْتِعاد عَن موطن الوَباء؛ ولكن وقاية المجتمع المسلم من انتشار الوَبَاء، تعلو على مَصْلَحة الفرد الواحد، وبذلكَ تَصير التَّضحية بالنَّفس في سبيل سلامة المجتمع شهادةً في سبيل الله.

وأول مَن وضع قواعد الحَجْر الصِّحي على أَتَمِّ أصولها، هو الرسول – صلى الله عليه وسلم – فعن عائشة – رضي الله عنها – عنِ النَّبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: (ليس مِن أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلدِه صابرًا مُحتسبًا، يعلم أنَّه لن يصيبَه إلاَّ ما كتبَ الله له، إلاَّ كان له مِثْل أجر الشَّهيد)؛ رواه البخاري، وأبو داود

وعن أسامة بن زيد، عنِ النَّبي – صلى الله عليه و سلم – قال: (إذا سَمِعْتم بِالطَّاعون في أرضٍ، فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها، فلا تخرجوا منها)؛ صحيح البخاري

وأَوَّل مَن طَبَّق الحَجر الصِّحِّي على أرض الواقع، الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.

كما جاء الإسلام بِأَوامر صحَّة البِيئة الإسلاميَّة ونَظَافتها، ومن ذلك: نظافة البَدَن، والأيدي، والأسنان، والأظافِر، والشَّعر، ونظافة المَلْبس، ونظافة الطعام والشَّراب، ونظافة الشوارع والبُيُوت والمُدُن، ونظافة المياه كالأنهار، والآبار.

عُمُومًا جاءتْ تعاليم الإسلام بما يُسَمَّى بـالطِّب الوقائي، نعم وقاية مِنْ شَتَّى أنواع الأمراض، قبل الوُقُوع في بَرَاثِنها.

كما أنَّ الحرص على الرَّوائح الطَّيِّبة وإشاعتها بين الناس وتهاديها، تُساهِم في جماليَّة البِيئة، وتُرَبِّي حاسَّة الشَّمِّ عند المسلم على مَحَاسن الأمور ومَكَارمها، وفي الوقت نفسِه مُحَاربة البيئة المُلوثة أيًّا كان مصدر تَلْوِيثها؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النَّبي – صلى الله عليه وسلم -: (مَن عُرِضَ عليه رَيْحَانٌ فَلاَ يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ المَحْملِ، طَيِّب الرِّيحِ)؛ رواه مسلم

التَّحذير منَ التَّلَوُّث المائي:

حث الإسلام على المُحافَظة على البِيئة، وعدم تَلْويثها، أو إفسادها، فَحَرَّمَ على المسلمين وغيرهم التَّبَوُّل، أوِ التَّبَرُّز، أو إلقاء القاذورات، أو جُثَث الحيوانات، أو مُخَلَّفات المصانع أو المُدُن في مجرى المياه؛ خشيةَ تَلْوِيثها، فيضر ذلك الإنسانَ والحيوانَ وغيرهما من مخلوقات الله؛ لِهَذا نهى النَّبي – صلى الله عليه وسلم – عنِ التَّغَوُّط في مَوَارد المياه والطَّريق، كما نهى أيضًا عنِ التَّبَوُّل في الماء الرَّاكد، (لا يَبُولَنَّ أحدكم في الماء الدَّائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه)؛ صحيح البخاري

وعن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله: (اتَّقوا الملاعن الثلاث: البراز في المَوَارد، وقارِعة الطَّريق، وفي الظِّل)؛ رواه الطَّبَراني

كانت هذه الملوثات في البيئة في العصر الماضي ، فالإنسان بقضاء الحاجة في غير المكان المناسب يُلوِّث البيئة، والتّلويث في عصرنا لم يعد مقصوراً على البول والبراز ونحوها من الحاجات البشريّة التي يفعلها الدّهماء من النّاس، بل غدت هناك أنواع أشدّ خطراً، وأبعد أثراً، وأوسع نطاقاً، من هذا كلِّه، وهي التّلويث بمخلّفات الصّناعة، والمواد الكيماويّة، ومنها مواد سامّة وقاتلة، ومخلّفات النفط والبواخر التي تغرق في البحار ويسيل ما فيها، فتلوّث المياه، وآثار الحروب وما تتركه من المواد المشعَّة، التي تكون خطراً على الأسماك والأحياء المائيّة، وبالتّالي تصبح خطراً على الإنسان نفسه حين يأكلها.

بل الغريب في الأمر أنَّ الطِّبَّ الحديث تَوَصَّلَ إلى أنَّ كثيرًا منَ الأمراض، التي تنتقل بالماء المُلَوَّث، ولا سيَّما تلك التي تُسَبِّبها بعضُ الجراثيم أوِ الطُّفَيْلِيات، التي يَحْتوي عليها براز الإنْسان المريض أو بَوْله، وفي مُقَدِّمتها الحُمَّى التَّيفُوديَّةالتيفود، وداء البلهارسيا، وسائر الديدان.

ومن عجيبِ ما قَرَأْتُ حرص الإسلام في المحافظة على نقاء الماء؛ وقايةً للإنسان منَ الأمراض، التي يمكن أن تَنْتَقلَ بِغِياب النَّظافة، فقال – صَلَّى الله عليه وسلم -: (إذا استيقظَ أحدكم مِن نَوْمه، فلا يَغْمِسْ يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنَّه لا يَدْرِي أين بَاتَتْ يدُه)؛ رواه مسلم.

التَّحذير منَ التَّلَوُّث الأرضي:

ومنَ الأنشطة الإنسانيَّة التي شَجَّعَها دينُنا الحنيفُ لِتَقْوية التَّخصيب الأرضي – مُمَارسةُ الزِّراعة التي هي منَ الموارد الأساسيَّة التي تَحْمي بيئة الأرض، وقد أَوْلاَهَا الإسلامُ عنايةً مُتَميزةً، وجَعَل الاهتمام بها عبادة، وقد حَرَص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تشجيع الزِّراعة، بما يزيد الثَّروة النَّباتيَّة، ويُضيف إلى البيئة الصالحة، فعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله: (ما مِن مُسلمٍ يغرس غَرْسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ، أو إنسانٌ، أو بهيمةٌ، إلاَّ كان له به صدقة)؛ رواه البخاري

وأمر بالحرص على الزرع ولو قامت القيامة- يعني ظهرت علاماتها – فقال صلى الله عليه وسلمإذا قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل رواه أحمد

وليس هناك حثٌّ وتحريض على الغرس والتّشجير أقوى من هذا الحديث، لأنّه يدلُّ على الطبيعة المنتجة والخبرة للإنسان المسلم، فهو بفطرته عامل معطاء للحياة، كالنبع الفيَّاض لا ينضب ولا ينقطع، حتى إنه ليظلُّ يعطي ويعمل، حتى تلفظ الحياة آخر أنفاسها، فلو أنّ الساعة توشك أن تقوم، لظلّ يغرس ويزرع، وهو لن يأكل من ثمر غرسه، ولا أحد غيره سيأكل منه.

ولقد بيّن لنا العلم الحديث: أنّ التّشجير له فوائد أخرى – غير ما عرَفه النّاس قديماً من الثّمر والظلِّ وتخفيف الحرارة وغيرها – مثل المساعدة في حفظ التّوازن البيئي، وامتصاص الضّوضاء، ومقاومة الآثار الضّارة للتّصنيع على البيئة، أو التّخفيف منها على الأقل.

ونهى في مقابل ذلك نهيًا شديدًا عن قَطْع الشَّجر، فقال: (مَن قطع سدرة – يعني دون مُبَرر – صَوَّبَ الله رأسه في النار)؛ رواه أبو داود

والمراد بالسّدرة: شجرة السّدر المعروف، (ويسمى في بعض البلاد:النّبق) وهو ينبت في الصّحاري، ويصبر على العطش، ويقاوم الحرّ، وينتفع النّاس بتفيؤ ظلاله، والأكل من ثماره، إذا اجتازوا تلك الصحاري مسافرين، أو باحثين عن الكلأ والمرعى، أو لغير ذلك من الأغراض.

وفي هذا الوعيد الشّديد توجيه إلى المحافظة على الأشجار، ومنها أشجار البَرِّ والغابات، لما فيها من نفع كبير للبيئة، فلا يجوز أن تقطع إلّا بقدر وحساب، بحيث يغرس مكانها غيرها، ممّا يقوم بوظيفتها.

ونحن نرى اليوم في الغرب إلى أي مدى أو إلى أي درجة يهتمون بالبيئة إلى درجة أنهم أسسوا ما يعرف بأحزاب الخُضَر في بلاد شتى وله مكانة وله أنصار وله أتباع وله ثقافة.

وبهذا سبقت السّنّة النّبويّة الجماعات والأحزاب المعاصرة في كثير من أنحاء العالم، التي تنادي بالمحافظة على الخضرة في الغابات وغيرها، وتندد بقتلة الأشجار وبـالمذابح التي تتعرّض لها الأراضي الخضراء نتيجة جهل الإنسان وجشعه .

إلاَّ أن تكونَ الشجرة في غير موضعها وتؤدي لأذى يلحق بالناس فعندئذ يجوز قطعها دفعا لهذا الضرر، كما في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عنِ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ( لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ) رواه مسلم

وأمر الإسلام بنظافة الطرق والحفاظ عليها من كل ما يؤذي، وجعل ذلك من شعب الإيمان، ففي الحديث الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان رواه لبخاري ومسلم عن أبي هريرة .

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي في الطريق إذ وجد غصن شوك، فأخره فشكر الله له فغفر له .

حفظ التّوازن البيئي:

ومن أهمِّ ما جاءت به التّعاليم الإسلاميّة فيما يتعلَّق بالبيئة: حفظ التّوازن البيئي والحيلولة دون اختلال هذا التّوازن.

فمما لا شكّ فيه أن الله تعالى خلق كلَّ شيء في هذا الكون بحســاب ومقدار، “ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ” [الملك:3].

لم يخلق شيء في هذا الكون عبثاً أو اعتباطاً، ولم يوضع شيء في غير موضعه، لأنّ هذا ينافي حكمة الحكيم، “ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ” السّجدة:7

لقد قرَّر القرآن الكريم هذه الحقيقة بوضوح لا ريب فيه: “ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]

وقال تعالى : ” الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)[الرحمن:5-9].

وهذا هو المطلوب من الإنسان ً: العدل والاعتدال في الميزان: لا طغيان في الميزان، ولا إخسار في الميزان، وإنما ينحرف النّاس ويسقطون ويضيعون ويهلكون، حين يطغون في الميزان أو يخسرون، والطّغيان يعني: الغلو والإفراط، والإخسار: يعني التّقصير والتّفريط، وكلاهما مذموم، إنّما المحمود هو التّوسّط.

وهذا العدل والاعتدال والتّوسّط والتّوازن ـ سمّه ما شئت ـ مطلوب من الإنسان في كلّ شيء، في الماديّات والمعنويّات، في أمور البيئة، وأمور الإنسان والحياة كلّها.

إنّ كلّ شيء في هذا العالم بقدر، كما ذكر القرآن الكريم. الماء أنزله الله أو خلقه الله بقدر، كما قال: ” وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ” [المؤمنون:18].

فكميّة الماء التي جعلها الله في الأرض مقدّرة تقديراً حكيماً دقيقاً، على حسب حاجة الحياة والأحياء فيها، بلا زيادة ولا نقصــان. “ذلك تقدير العزيز العليم ”  [يس:38].

ويقول تعالى: “ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ” [الحجر:19]، وكلمة (موزون) هنا لا تفسَّر تفسيراً مجازياً، بل إنّ كلَّ شيء في النّبات موزون بالفعل يعرفه المختصُّون متمثِّلاً في نسب ما في النّبات من معادن أو أملاح أو ماء أو غيرها بالجرام أو الملي جرام، وما هو أدنى من ذلك من الموازين الحديثة.

وقد ذكر أ. كريسي موريسون في كتابه الذي ترجم إلى العربيّة تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) وفي فصل (ضوابط وموازين) ما بين لنا بالفعل أن كل شيء في هذا الكون بحساب ومقدار، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله.

وإنّ بعض الحشرات التي يجهل النّاس الحكمة من خلقها، قد تكون لها فائدة هامّة لا يعرفها النّاس.

وذكر موريسون في كتابه أنّه ظهر في أمريكا في فترة من الزّمن نبات نما وتفرّع واتّسع وانتشر، حتى غدا النّاس يقاومونه، ولا يجدون له حيلة، ولا يهتدون سبيلاً، حتى اكتشف بعض العلماء حشرة معيّنة، فسلّطوها على هذا النّبات فأعادت التّوازن.

إنّ صراع (الأضداد) هذا هو في حقيقته سعي إلى التّوازن في الكون، ولولاه لطغى بعضها طغياناً لا يمكن إيقافه.

وقد حكي أنّ بلدة ما كان فيها بعض السّباع التي أقلقت النّاس، فخطّط أهل القرية للقضاء عليها، وتربّصوا بها يوماً فأعملوا فيها السّلاح حتى أفنوها. وفي اليوم التّالي فوجئ أهل القرية بجيوش من القرود زحفت عليهم من الجبال من حولهم، هددت حياتهم وزرعهم وضرعهم، فقد كان وجود السّباع هو الحائل لها دون اقتحام القرية وغزوها.

ولنأخذ الصين مثلا في موضوع توازن البيئة ؛ فقد كان لديهم مشكلة وهي أن العصافير تأكل من محصول الأرز 3% فأرادوا منع ذلك فقاموا بقتل هذه العصافير فظهرت لهم مشكلة أكبر منها وهي انتشار بعض الديدان التي تأكل 20% من المحصول وهذه الدودة كانت العصافير تأكلها وتريحهم منها.

والذي نهدف إليه من هذا: أنّ الكون – كما خلقه الله – متوازن في نفسه، متكامل بعضه مع بعض، ولو طغى فيه شيء، وجد من الكون نفسه ما يرد طغيانه، ويعيد الأمور إلى الموازين القسط.

وإنما يختل التّوازن في الكون وفي الحياة بتدخّل الإنسان غير المسؤول، وعمله غير المحسوب، وغير المشروع. وتغييره لفطرة الله تعالى في نفسه وفي الكون من حوله، ومجاوزته لحدّه في التّعامل مع المخلوقات الأخرى.

وهنا ينزل به العقاب الإلهي، جزاء وفاقاً، “ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد “[آل عمران:182].

ولقد زاد تدخّل الإنسان في البيئة في هذا القرن، وزاد أكثر وأكثر في العقود الأخيرة منه، مما أخلّ بالتّوازن البيئي، وأخلّ بالنّسب في العلاقات بين الأشياء بعضها بعضا، بالطّغيان حيناً وبالإخسار حيناً، ممّا أدّى إلى (التصحّر) في بعض المناطق، وطغيان البحر على اليابسة في مناطق أخرى، وتغير المناخ العام، وارتفاع درجة الحرارة، وبروز مشكلة (الأوزون) بشكل بات مقلقاً للبشريّة في مستقبلها القريب.

الجمال في الكون :

حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام “لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر” قال بعض الصحابة يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا فهل هذا من الكِبر؟ فقال له “إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطل الحق وغمط الناس” الكبر أن ترد الحق {أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ} أو تحتقر الناس ، إنما الجمال وحب الجمال فالله جميل يحب الجمال

إن المتجول في رياض القرآن يري بوضوح :‌ أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن و قلبه الشعور بالجمال المبثوث في أجزاء الكون من فوقه و من تحته و من حوله : في السماء‌ ، و الأرض ، و النبات ، و الحيوان ، والإنسان .

في جمال السماء يقرأ قوله تعالي : ( أَفَلَمُ يَنظرواُ إِلَى السَمَاءِ فَوُقَهمُ كَيُفَ بَنَيُنَهَا وَ مَا لَهَا مِن فروِجِ) سورة ق (6).

(وَلَقَدُ جَعَلُنَا فِي السَمَاءِ بروجَاَ وَزَيَنَهَا لِلنَاظِرِينَ) سورة (16).

وفي جمال الأرض و نباتها يقرأ : ( وَالُأَرُضَ مَدَدُنَهَا وَأَلُقَيُنَا فِيهَا رَوَسِيَ وَأَنبَتُنَا فِيهَا مِن كلِ زَوُجِ بَهِيِجِ) سورة ق (7).

(وَأَنزَلَ لَكم مِنَ السَمَاءِ مَاءَ فَأَنبَتُنَا بِه حَدَائِقَ ذَاتَ بَهُجَةِ ) سورة النمل(60) .

و في جمال الحيوان يقرأ ما ذكر ناه قبل عن الأنعام : ( وَ لَكمُ فِيهَا جَمَال‏‏ حِينَ ترِيحونَ وَ حِينَ تَسرَحونَ) سورة النحل (6) .

و في جمال الإنسان يقرأ: (وَ صَوَرَكمُ فَأَحُسَنَ صوَرَكمُ ) سورة التغابن(3) ، (الَذِي خَلَقَكَ فَسَوَك فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِ صوَرَةِ مَا شَاءَ رَكَبَكَ (8) ) سورة الانفطار.

إن المؤمن يري يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في هذا الكون البديع ،و يبصر جمال الله في جمال ما خلق و صور ، يري فيه ( صنُعَ اللَهِ الَذِي أَتُقَنَ كلَ شَيُءٍ ) سورة النمل(33) ، ( الَذِي أَحُسَنَ كلَ شَيُءٍ‌ خَلَقَه, ) سورة السجدة(7).

و بهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله ؛ لأنه أثر جمال الله جل و علا .

ومن أجمل ما قرأت هذه القصيدة :

هو الحسنُ عنوان هذا الوجود
فسَرّح عيونك فيه طويلا
وقف وتأمّل مجالي الجمال
تجد كل ما في الوجود جميلا
ألم ترَ للفجر في صحوه
يشقّ الظلام قليلا.. قليلا
وينشر في الكون لون النهار
ويزرع في الصمت صوتا جليلا
يبث الحياة ويحيي الموات
ويقرع للنائمين الطبولا
فتنبعث الطير من عُشها
ترتل لله لحنا عليلا
تنبه في الروض شوق الحياة
وتوقظ وردا أطال المقيلا
فينشر في النسمات شذى
يرفّ إلى النائمين رسولا
هو الحسن يدعو الورى للفضاء
فشقوا الستور وفكّوا الكبولا
لمن خلق الله حسن الشروق
وأرسل فيه نسيما بَليلا

وبث على الورد قطر الندى
يروق العيون ويشفي الغليلا
تأمل دقائق حسن الوجود
بلونٍ على الله كان دليلا
ففي الزهر والورد لون بديع
يشوق العيون ويسبي العقولا
حدائق في صنعها بهجة
وآيات لون تنير السبيلا
هو الله أبدع هذا الوجود
فوشّى الجبال وحلّى السهولا
ومن كل لون أباح الغيوم
وأشرع للناهلين الأصيلا
كتاب جميل هو الكون فأقرأ
صحائف منه.. ورتله قيلا
وخذ من جمال الوجود صراطا
تحاذر عن دربه أن تميلا
فإن الجمال سبيل النجاة
ومن فارق الحسن ضلَّ السبيلا


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 368 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع