شرح الدعاء “اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ…”

تاريخ الإضافة 11 يناير, 2023 الزيارات : 12335
شرح الدعاء “اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ…”

من الظواهر التي تميز عصرنا ظاهرة الخوف الدائم من المستقبل، بل حتى من اللحظة المقبلة ، والناس يعيشون كوابيس مصدرها الاستجابة للهواجس ووساوس الشيطان : ماذا لو مات ابني ، لو احترق بيتي ، لو أصبت بحادث كبير وعشت معاقا طول عمري وماذا لوطلقت زوجتى ، وماذا لو حدث كذا وكذا.. ؟

والغرب حاول التغلب على هذا الأمر بالتأمين فصار التأمين على كل شئ على الحياة والمنزل والسيارة والتأمين ضد الحريق والسرقة والحوادث والكوارث و….الخ .

والتأمين على الحياة لن يمنع الموت ولا التأمين ضد الحريق سيمنع الحريق ؛ إنما هي وسيلة لشفط الأموال من جيوب الناس وتفنن في جذب الزبائن بكافة الطرق والوسائل المغرية .

 ولو استجاب الإنسان لكل هذه الهواجس دون إيمان بالله لتشبع بالقلق الدائم وتعرض للاكتئاب ولوقع في الانتحار ، لأن الايمان حصن منيع يحجز طوفان هذه المشكلة من العبور إلى نفس الانسان، فلا تستطيع بواعث القلق أن تتسلقه أو تخترقه، وكيف يستبد به القلق، ولماذا يقلق أساساً من يعرف أنما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما كتب له لن يذهب لغيره، وما لم يكتب له لن يحصل عليه بقوته.

ومن الأسباب التي تدفع عنا الخوف والقلق : المداومة على الأدعية والأذكار الشرعية المأثورة من الكتاب والسنة، لأن الهواجس والوساوس لا تتحكم الا في القلب الفارغ أو قل القلب الغافل، ولأن الذكر سبب من أسباب طمأنينة القلب، حيث قال سبحانه وتعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب سورة الرعد آية 28.

ومعنا اليوم هذا الدعاء الذي دعا به رسول الله لنتعلمه سويا ونفهم معناه:

روى الإمام مسلم عن عبدالله بن عمر قال : كانَ مِن دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: 

(اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) 

في هذا الدعاء أربعة أمور اِستعاذ منها النبي -صلى الله عليه و سلم- ،

الدعوة الأولى : “اللّهم أني أعوذ بك من زوال نعمتك”

أعوذ: الاستعاذة هي طلب العوذ، يعني اعتصم والتجئ و احتمي بالله من زوال نعمته.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به: مَعاذًا، كما يسمى ملجأ ووَزَرًا» بدائع الفوائد (2/ 200).

لأن النعم كلها بيد الله، وهو يصرفها كيف يشاء جل و علا.
من الناس من يحرمه الله النعم، و هذا راجعٌ إلى عدله وحكمته، ومن الناس من يغدق عليه ربنا سبحانه وتعالى من النعم، وهذا أيضاً راجعٌ إلى فضله وحكمته.

 والنعم : كل ما أعطاه الله للعبد ، وهي تنقسم إلى قسمين: نعم دينية ونعم دنيوية
أمثلة النعم الدينية: نعمة الطاعة، و نعمة قراءة القرآن، و نعمة قيام الليل، و نعمة الاِستقامة، و نعمة بر الوالدين وصلة الرحم.

أمثلة النعم الدنيوية: نعمة المال، و نعمة الزوجة، ونعمة الأولاد ، و نعمة البيت، و نعمة السيارة، و نعمة الصحة، و نعمة العافية.

فكأنه يقول: أنت يارب أعطيتني نعما كثيرة لا حصر لها، أعوذ بك من زوالها.. أعطيتني إيمانا أعوذ بك أن أسلبه، أعطيتني عقلا أعوذ بك أن تحرمنيه، أعطيتني يدا أعوذ بك أن تأخذها، أعطيتني سمعا وبصرا، ومالا وولدا وخيرا.. أعوذ بك من زواله.
نعم .. فكم من إنسان كان في نعمة فزالت عنه، وكان في خير فسلب منه؟

فإذا خرجت من بيتك، وركبت سيارتك، وأغلقت بابها بيدك، فاعلم أن هناك من هو طريح الفراش لا يمكنه أن يخرج أبدا، وهناك من إذا خرج لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه، بل يحمله اثنان فيضعونه في السيارة.. فإذا فعلت ذلك بفضل الله.. فقل: يا رب أعوذ بك من زوال هذه النعمة.

وإذا رجعت من عملك، ودخلت بيتك ورأيت زوجتك وأولادك: هذا يلعب، وهذا يأكل وهذا يدرس فقل: يارب أعوذ بك من زوال نعمتك.. فكم من إنسان قد حرم هذه النعم أو قد سلبها بعد أن أعطيها فزالت عنه.

وإذا عدت من عملك فرأيت زوجتك قد أعدت لك طعامك، ونظفت بيتك، ورتبت أغراضك.. فقل: يارب أعوذ بك من زوال نعمتك.. فكم من إنسان بينه وبين زوجته مشاكل فذهبت إلى بيت أهلها وتركته وحاله.

وإذا وضع الطعام فرفعته بيدك ووضعته في فمك، فقل: يارب أعوذ بك من زوال نعمتك؛ فهناك من يوضع له أنبوب في أنفه أو فمه ليدخل إليه منه الطعام أو الشراب.
وإذا … وإذا …. وإذا … فنعم الله لا يحصيها عد، ولا يحدها من كثرتها حد.. {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.. فكلما رأيت نعمة فقل: يارب أعوذ بك من زوال نعمتك.

فتضمّنت هذه الاستعاذة التوفيق لشكر النعم، والحفظ من الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيل النعم، قال تعالى : ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ سورة إبراهيم، الآية: 7.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مقدمة خطبه :  (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) وقال الشاعر :

إذا كنت في نعمة فارعها***فإنَّ المعاصي تزيل النَّعَم

فإن تعط نفسك آمالها***فعند مناها يحلُّ الندم

فأين القرون ومن حولهم***تفانوا جميعاًوربي الحكم

محامد دنياك مذمومة ٌفلا*** تكسب الحمد إلا بذم

الدعوة الثانية : وتحول عافيتك:

(تحوّل عافيتك): أي تبدل العافية بضدها من عافية إلى مرض وبلاء, والفرق بين الزوال والتحوّل, أن الزوال: ذهاب الشيء من غير بدل.

والتحوّل: إبدال الشيء بالشيء كإبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر.

 فيكون المعنى: أعوذ بك من انتقال عافيتك عني بحصول المرض، بدل الصحة. وهذا المرض يشمل المرض البدني ويشمل كذلك المرض في الأهل، ويشمل كذلك المرض الديني أيضا، لأنه عام، فكله داخل في تحول العافية.

والنبي -صلى الله عليه و سلم- اِستعاذ بالله من تحول العافية؛ لأن العافية يملكها ربنا سبحانه و تعالى، وهو الذي يصرفها كما يشاء، ويعطيها من يشاء من عباده برحمته وفضله وحكمته ، ويصرفها عمّن يشاء بعدله وحكمته.

وقد روى البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن أفضل الدعاء : ( سَلِ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ، سَلِ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في الدنيا والآخِرَةَ؛ فإِذَا أعطيتَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ فقد أفلحْتَ).

بل كان هو صلوات الله عليه لا يدع سؤال العافية في ليل أو نهار، كما جاء في صحيح سنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (لم يكن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يدعُ هؤلاءِ الدعواتِ حين يُمسي وحين يُصبحُ: اللهمَّ إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهمَّ إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في دِيني ودنيايَ وأهلي ومالي، اللهمَّ استُرْ عوراتي، وآمِنْ روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذُ بك أن أُغْتَالَ من تحتي).

أسباب تحول العافية:
يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي -رحمهُ الله- في كتابه “صيد الخاطر” :  (وإذا رأيت تكدراً في حالٍ من الأحوال فإنه بسبب أمرين:  إما نعمةً ما شكرت ، وإما زلةً فعلت)

يعني: إذا رأيت تحول العافية أو تكدر الأحوال على الإنسان فهو إما لأن الله أعطاك نِعماً لكن ما شكرتها، و ما أديت حق هذه النعم ، أو ما صرفتها في طاعة الله،وإما زلةً فعلت بمعنى : اِقترفت معصية، فالله سبحانه و تعالى يغير من حالك.

الدعوة الثالثة : و فجاءة نقمتك:

 الفجاءة هي أن يأتي الشيء بغتة، والنقمة اسم من الانتقام ، والمعنى الأخذ فجأة بالعقوبة.

جاء في بعض النسخ: فُجاءة وفي بعضها: فجأة، والتي في صحيح مسلم ضُبطت بضم الفاء وفتح الجيم، في النسخة التي حققها محمد فؤاد عبد الباقي، ورويت أيضا (فَجْأة) لكن الأشهر والأقرب (فُجاءة).

والمعنى : تتعوذ بالله أن تفجأك نقمته ، أي بمصيبة أو بلية تأتي على غير ميعاد أو توقع أو استعداد؛ فإن المصيبة إذا أتت فجأة من غير توقع ذهل لها العقل، وانخلع منها القلب، إلا أن يتغمده الله برحمته ،وخُصَّ فجاءت النقمة بالاستعاذة؛ لأنها أشد و أصعب من أن تأتي تدريجياً، بحيث لا تكون فرصة للتوبة. 

قال جل وعلا : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}[الأعراف]

الدعوة الأخيرة : وجميع سخطك:

أي أستعيذ بك من كل ما يوجب غضبك ويذهب عني رضاك ، سواء كان سخطا في مالي فأفتقر، أو في ديني فأضل، أو في عرضي فأنفضح، فأنا ألتجئ إليك وأعتصم بك وأتوسل إليك أن تعيذني من جميع الأسباب الموجبة لسخطك، والجالبة لغضبك جل شأنك، لأن من سخطت عليه فقد خاب وخسر ولو كان في أدنى شيء أو بأيسر سبب، فأنت القائل سبحانك: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}.

فأنت تستعيذ بالله؛ لأن الله هو الذي يحميك ، و هو الذي يحفظك من الوقوع فيما حرم ؛ لأن الإنسان إذا وقع فيما يسخط ربه جل و علا ستأتيه العقوبة؛ إما عقوبة دنيوية في الدنيا أو عقوبة في البرزخ أو عقوبة في الآخرة.
وإذا انتفت الأسباب المقتضية للسخط حصلت أضدادها وهو الرضا.

وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «فَقَدْتُ رَسُولَ الله ِصلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»

قال النووي، قال الخطابي: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله عز وجل، استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه.اهـ شرح صحيح مسلم (4/ 427).

فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك ،وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك… آمين.

تضمن هذا الحديث الاستعاذة بالله تعالى من أمور أربعة:

الأمر الأول: الاستعاذة بالله من زوال النعمة وهذا يقتضي الدعاء بالتوفيق لشكرها، والبعد عما يكون سببا في زوالها.

والأمر الثاني: الاستعاذة من تحول العافية، وانتقالها إلى المرض سواء أكان مرضا متعلقا بالدين أو بالبدن أو بغيره.

والأمر الثالث: الاستعاذة بالله من بغتة السخط والنقمة، والأخذ بالعقوبة على غفلة من أمره.

والأمر الرابع: الاستعاذة بالله من سخطه على عبده، ومن الأسباب التي توجب ذلك من ترك الواجبات، أو الوقوع في المحرمات.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 351 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم