شرح الأربعون النووية 24- يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي

تاريخ الإضافة 30 يناير, 2024 الزيارات : 320

شرح الأربعون النووية

24- يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي

عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :

( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ،

يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ،

يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ،

يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ،

يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ،

يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ،

يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ،

يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ،

يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ،

يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) أخرجه مسلم .

 

شرح الحديث

 (يا عبادي) النداء نداء تشريف وعز، وهو نداء لإيجاد الصلة بين المتكلم والمخاطب، فإذا نادى رب العزة : (يا عبادي) هل أنت من عباد الله؟ أي نعم؛ إذن الله ينادي عليك ، وهذا النداء يا عبادي للذكور والإناث وللأنس والجن كما في الحديث لأن كل هؤلاء يشملهم الخطاب.

(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) التحريم أصله المنع، حرمت يعني منعت والله تعالى منع الظلم مع قدرته عليه.

ما هو الظلم؟

الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه او هو التصرف في ملك الغير بغير اذنه، وكلاهما حرام علينا.

وهل في إمكانه – تبارك وتعالى- أن يظلم؟

أي نعم لكنه لم يفعل، لأنك لا تمدح أحدا بشيء وهو لا يقدر على فعله، فمثلا لن أمدح أني صائم وأنا لا أصوم أصلا، لكن أنا أصوم وأفطر لأني عندي القدرة على الاثنين، مثال آخر ملك قادر على الظلم والعدل فيعدل بين الناس رغم قدرته على الظلم باستعمال السلطة.

وليس لأحد أن يوجب على الله شيئا لكنه هو الذي يوجب على نفسه ما يشاء فهو الذي قال: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) [الأنعام 54] فهو من كتب على نفسه الرحمة وهو الذي قال: (إني حرمت الظلم على نفسي) فالظلم مستحيل على الله لأنه لا يليق بجلاله وكماله أن يظلم؛ كما قال عز وجل: ﴿وما أنا بظلام للعبيد﴾ [ق: 29]، وقال: ﴿وما الله يريد ظلما للعالمين﴾ [آل عمران: 108]، وقال: ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئا﴾ [يونس: 44]

وقوله تعالى: «وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» أي: لا يظلم بعضكم بعضا، وقوله: فلا تظالموا أصل الكلمة تتظالموا فلأن فيها ثقل لاجتماع تاءين حذفت إحداهما، وفي بعض روايات الحديث أدغمت التاء الثانية في الظاء فصارت تظّالموا بتشديد الظاء.

والظلم نوعان:

أحدهما: ظلم المرء نفسه، وأعظمه الشرك، ( إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13]

لماذا سمى الله الشرك ظلم عظيم ؟
لأن أعظم حقوق الله على العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له كما في حديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا معاذ ، أتدري ما حق الله على العباد ؟ وما حق العباد على الله ؟) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً ) فإذا جاء من يشرك بالله، ويعبد معه غيره فهذا ظلم، لأنه أدى الشكر لغير المنعم ، الذي أنعم عليك ورزقك هو الله ، فلماذا تعبد غيره ؟
أو أنه ظلم عظيم لنفسه لأن المشرك محروم من مغفرة الله عز وجل فالله يغفر أي ذنب إلا الشرك قال تعالى : -( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا )- [النساء/116] فكل الذنوب واقعة تحت عفو الله ومشيئته إن شاء عفا وإن شاء عذب ، أما من عاش على الشرك ومات عليه فقد حرمت عليه الجنة قال تعالى : -( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )- [المائدة/72]

والثاني: ظلم المرء غيره، وهو المنهي عنه ها هنا في هذا الحديث؛ والظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم فأشهد».

فهذه ثلاثة أشياء: الدماء، والأموال، والأعراض.

فالظلم فيما بين البشر حرام في الدماء، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على دم أحد، لا بقتل ولا بجرح أو اعتداء، كل هذا حرام لا يجوز.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأموالكم» حرم الله – سبحانه وتعالى – على بعضنا أن يأخذ من مال أخيه بغير حق، بأي نوع من الأنواع؛ سواء أخذه غصبا بأن يأخذ بالقوة، أو أخذه سرقة، أو اختطافا، أو خيانة، أو غشا، أو كذبا، أو بأي نوع يأخذه، فإنه حرام عليه.

أما الأعراض فهي أيضا حرام، فلا يحل للإنسان أن يقع في عرض أخيه، فيغتابه في المجلس أو يسبه، فإن ذلك من كبائر الذنوب. قال الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ [الحجرات: 12]

 وهذا الظلم لا يترك منه الله شيئا فلا بد فيه من القصاص يوم القيامة إلا أن يتحلل الظالم من المظلوم في الدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه). رواه البخاري.

وفي صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة).

 قوله: (يا عبادي) كرر النداء زيادة في تشريفهم وتعظيمهم؛ ولذا أضافهم إلى نفسه.

(كلكم ضال إلا من هديته)؛ أي: وفقته ومنعت عنه أسباب الضلالة.

(فاستهدوني)؛ أي: اطلبوا مني الهداية، (أهدكم) أدلكم على طرق النجاة في الدنيا والآخرة.

وفي هذا دلالة على أن جميع العباد في الأصل على ضلال لا يمكنهم معرفة طريق الهداية وطريق الجنة من تلقاء أنفسهم مهما بلغوا من الذكاء ولا يمكنهم ذلك إلا عن طريق إرشاد الله وهدايته وتوفيقه لهم ومن يمنع الله عنه طريق الهداية يكون ضالا حائرا عن الحق كما قال تعالى: (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه). ولذلك شرع لهم أن يسألوه الهداية والتوفيق دائما في كل صلاة كما قال تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)[الفاتحة:6] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو بالهداية كما في حديث عبدلله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.

ولا ينافي هذا ما ورد في حديث الفطرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه ينصرانه أو يهودانه أو يمجسانه). متفق عليه؛ لأن المراد هنا أن الله يخلقه وينشئه في الأصل على قبول الحق ونبذ الباطل وليس المقصود إمكان معرفته للإيمان الشرعي وطريق الله الموصل للجنة من غير هداية الله لأنه يخلق جاهلا لا يعلم شيئا كما قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)[النحل :78] والإنسان قبل التعليم يكون جاهلا ولذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ووجدك ضالا فهدىٰ)[الضحى: 7] يعني لا تعلم الكتاب والحكمة كما فسر ذلك في قوله تعالى: (وكذٰلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان)[الشورى: 52]

والهداية بأن يدلك الله على طريق الحق بالعلم به ثم يوفقك للعمل بهذا الحق؛ وذلك لأن الهداية التامَّة النافعة هي التي يجمع الله فيها للعبد بين العلم والعمل؛ لأن الهداية بدون عمل لا تنفع، بل هي ضرر؛ لأن الإنسان إذا لم يعمل بما علم صار علمه وبالاً عليه.

والهداية نوعان:

1- هداية إرشاد وبيان :

وهذه مهمة الرسول واتباعه من الصحابة والعلماء العاملين والدعاة المخلصين كلهم يهدون الناس ؛أي يدلونهم على الخير، ويدعونهم إلى الهدى ويبينون لهم مراد الله منهم ، مثال قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، أي بينَّا لهم الطريق وأبلغناهم العلم، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ استحبوا العمى على الهدى.

وقول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلّم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، أي تدل وتبين وتعلم الناس الصراط المستقيم. 

2- هداية التوفيق والإعانة: 

هذه هداية التوفيق للعمل، فمن قبل هداية البيان وفقه الله وأعانه، وهذه المرتبة أَخَصُّ مِن التي قبْلها، فهي هداية خاصَّة تأتي بعد هداية البيان؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76]، 

وقال تعالى : ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

وهذا النوع من الهداية هو الذي نَفَاه الله عن نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]، و ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [النحل: 37].

 فالرسول صلى الله عليه وسلّم لا يستطيع أن يوفق أحدًا للعمل الصالح أبدًا، ولو كان يستطيع ذلك لاستطاع أن يَهْدِي عمه أبا طالب، وقد حاول معه حتى قال له عند وفاته ـ أي قال لعمِّه عند وفاته: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، فلم يقلها، وكان آخر ما قال: «هو على ملة عبد المطلب»
وفي هذا المعنى يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت الحسنة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت السيئة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات.
وقال ابن تيمية : [فإن الحسنة تدعو إلى الحسنة، والسيئة تدعو إلى السيئة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق؛ حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب؛ حتى يكتب عند الله كذابا”.

 قوله: (يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم) فاستطعموني اطلبوا الرزق مني، لا يستنكف حي، ولو كان غنيا أن يستطعمني، اطلبوا الرزق مني غنيكم وفقيركم، فمن الممكن أن أحد الأغنياء يمسي غنيا ويصبح فقيرا، وهناك من عندهم أطعمة ولا يستطيعون أن يأكلوها، لعلة في صحتهم تمنع الأكل.

 قوله: (يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) صح أكسٌكم وأكسِكم بكسر السين وضمها ، كلكم عار فنحن قد ولدنا عرايا والذي كسانا ووهبنا ما كسينا به هو الله سبحانه وتعالى فالعبد يوقن أن المطعم الكاسي هو الله عز وجل ، وفي الحديث: (من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)

أي: كل واحد منكم في حاجة إلى الطعام والكسوة؛ فهو الذي تفضل عليكم، قال تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا) [الأعراف: 26].

استكسوني اسألوني الكسوة، الكساء الجميل الظاهر، والكساء الباطن الأجمل: (ولباس التقوى ذلك خير) [الأعراف: 26].

وخص الطعام والكسوة بالذكر دون غيرهما؛ لأنهما أهم شيء يهم العبد في حياته.

 قوله: (يا عبادي، إنكم تخطئون)؛ أي: تفعلون الخطيئة أو الذنب، (بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا)؛ مهما بلغت ذنوبكم بالليل أوبالنهار لا تيأسوا من طلب المغفرة فإني أغفرها لكم، حتى لو ملأتم الليل والنهار ذنوبا، قال تعالى : (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) [التوبة: 104]، و قال تعالى : (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) [طه: 82]

(فاستغفروني)؛ أي: اطلبوا مني مغفرة ذنوبكم، وأصل الغفر: الستر، وغفرت المتاع: سترته، وغفران الذنب: ستره.

(أغفر لكم)؛ أي: أستر ذنوبكم وأمح أثرها ولا أؤاخذكم بها.

والتوبة الصادقة هي التي تجمع خمسة شروط:

الشرط الأول:الإخلاص:

أن يكون التائب مخلصا فيها لله – عز وجل – لا يحمله على التوبة مراءاة الناس، ولا أن يتقرب إليهم بشيء، وإنما يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله حقيقة، والإخلاص شرط في كل عمل، ومن جملة الأعمال الصالحة: التوبة إلى الله – عز وجل -، كما قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ [النور: 31].

الشرط الثاني: الندم:

أن يندم التائب على ما وقع منه من الذنب، يعني أن يحزن، ويتأسف ندما لأنه ارتكب خطأ ، أما أن يكون ارتكاب الخطأ وعدمه عنده على حد سواء؛ فهذه ليست بتوبة، بل لابد من أن يندم بقلبه ندما يتمنى أنه لم يقع منه هذا الذنب.

الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب:

أن يقلع عن الذنب فلا توبة مع الإصرار على الذنوب، كما قال تعالى: ﴿ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ [آل عمران: 135]، أما أن يقول إنه تائب من الذنب وهو مصر عليه، فإنه كاذب مستهزئ بالله – عز وجل –

ومن التخلي عن الذنب والإقلاع عنه: أن يرد المظالم إلى أهلها إذا كانت المعصية في حقوق العباد، فإن كانت في أخذ مال فليرد المال إلى من أخذه منه، فإن كان قد مات فليرده إلى ورثته، فإن تعذر عليه أن يعرف الورثة، أو نسي الرجل، أو ذهب الرجل إلى مكان لا يمكن العثور عليه، مثل أن يكون أجنبيا، فيرجع إلى بلده، ولا يدري أين هو، ففي هذه الحال يخرج ما عليه صدقة ينويها لصاحب المال الذي يطلبه.

الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل:

فإن تاب وأقلع عن الذنب لكن في قلبه أنه حانت الفرصة عاد إلى ذنبه، فإن ذلك لا يقبل منه، فهذه توبة لاعب، فلابد أن يعزم، فإذا عزم ثم قدر أن نفسه سولت له بعد ذلك، وفعل المعصية، فإن ذلك لا ينقض التوبة السابقة، لكن يحتاج إلى توبة جديدة من الذنب مرة ثانية.

الشرط الخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه:

فإن فات الأوان لم تنفع التوبة، ويفوت الأوان بأحد أمرين:

الأول: إذا حضر الإنسان الموت، فإذا حضره الموت فلا توبة ولو تاب لم ينفعه، لقوله تعالى: ﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾ [النساء: 18]، الآن لا فائدة فيها، ولهذا لما أغرق فرعون: ﴿ قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾ [يونس: 90] فقيل له ﴿ آلآن ﴾، يعني أتقول هذا الآن ﴿ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾ [يونس: 91]، فات الأوان، ولهذا يجب على المسلم أن يبادر بالتوبة، لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت، كم من إنسان مات فجأة، فليتب إلى الله قبل أن يفوت الأوان.

أما الثاني الذي يفوت به أوان التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن النبي – عليه الصلاة والسلام – أخبر أن الشمس إذا غابت سجدت تحت عرش الرحمن – عز وجل -، واستأذنت الله، فإن أذن لها استمرت في سيرها، وإلا قيل: ارجعي من حيث جئت، فترجع بإذن الله وأمره، فتطلع على الناس من المغرب، فحينئذ يؤمن جميع الناس، يتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن ذلك لا ينفعهم، قال الله تعالى: ﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ﴾ يعني عند الموت، ﴿ أو يأتي ربك ﴾ يعني يوم القيامة للحساب، ﴿ أو يأتي بعض آيات ربك ﴾ يعني طلوع الشمس من مغربها، ﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾ [الأنعام: 158].

 قوله: (يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)؛ أي: لا يلحقني منكم ضر ولا نفع، فملكي ثابت كامل، لا يزاد بطاعتكم، ولا ينقص بمعاصيكم، وإنما طاعاتكم منفعتها لكم، ومعاصيكم ضررها عليكم؛ قال تعالى: ﴿من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد﴾ [فصلت: 46] فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلو آمن أهل الأرض كلهم جميعاً ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كفروا جميعاً لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم: 8] وقال: ﴿ وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ﴾ [الذريات: 56، 58]

 قوله: (يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا)،أتقى قلب رجل واحد قال بعض العلماء هو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مصداقه قول رسول الله : (أنا اتقاكم لله وأشدكم له خشية) وأفجر قلب رجل هو إبليس ولا شك.

 قوله: (يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته – ما نقص ذلك مما عندي)، المراد بهذا ذكر كمال قدرته سبحانه، وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث الخلق على سؤاله، وإنزال حوائجهم به؛ قال تعالى: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق﴾ [النحل: 96].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السنوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه)

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه).

 قوله: (إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) المخيط: الإبرة ، وهذا من باب تأكيد عدم النقص؛ لأنه من المعلوم أن المخيط إذا أدخل في البحر ثم نزع منه فإنه لا ينقص البحر شيئا؛ لأن البلل الذي لحق هذا المخيط ليس بشيء.

وهذا فيه إشارة إلى أن ملكه جل جلاله لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم؛ فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان.

 قوله:(يا عبادي، إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها)، فإنه سبحانه يحصي أعمال عباده، ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها؛ قال تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ [آل عمران: 30].

 قوله: (فمن وجد خيرا)؛ أي: ثوابا ونعيما، أو حياة طيبة هنيئة.

(فليحمد الله) تعالى على توفيقه للطاعات والأعمال الصالحة.

(ومن وجد غير ذلك)؛ أي: شرا، (فلا يلومن إلا نفسه)؛ لأن الله تعالى أوضح الطريق وحذر وأنذر.

والمعنى: من رأى نفسه تفعل شرا فلا يعترض إلا عليها؛ حيث إنها آثرت شهواتها ومستلذاتها على رضا خالقها ورازقها، فكفرت بنعمه، ولم تذعن لأحكامه، فاستحقت أن يعاملها بظهور عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، والله أعلم.

الفوائد من الحديث:

1 – تحريم الظلم، وأن الله حرم الظلم على نفسه؛ لكمال عدله.

2 – تحريم ظلم الإنسان لأخيه بالاعتداء على ماله أو عرضه أو نفسه.

3 – مداومة طلب المؤمن الهداية من الله والثبات عليها.

4 – وجوب إفراد الله بأنواع العبادة، من السؤال، والتضرع، والاستعانة، وغيرها.

5 – لا يستطيع الخلق جميعا أن يضروا الله أو ينفعوه.

6 – أن الطاعة لا تزيد في ملك الله شيئا.

7 – أن بني آدم خطاؤون، يخطئون بالليل والنهار، والله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب.

8-المبادرة إلى العمل الصالح والتزود به لملاقاة الله والاستغفار من كل المعاصي.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 86 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع