اترك أثرا قبل الرحيل
الحسنات والسيئات الجارية
قال تعالى : ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس 12]
فما يقدمه الإنسان هو ما يفعله الآن، وأثره هو ما يتركه بعد وفاته، فيظل موجوداً باقياً، وهو موضوعنا:
“الحسنات والسيئات الجارية”
ماذا تعني كلمة الحسنات الجارية؟
الحسنات الجارية: يعني المستمرة التي يبقى أثرها ويمتد نفعها للغير؛ فيبقى أجرها ويدوم عند الله ما بقي نفعها في حياة المؤمن وبعد وفاته.
لقوله – صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم
شرح الحديث:
اشتمل هذا الحديث على بيان الأعمال التي تبقى بعد موت الإنسان وأنها ثلاثة:
الأول : الصدقة الجارية:
والصدقة هي ما يخرجه المؤمن من المال أو غيره يراد به الثواب والأجر.
والجارية: أي الغير منقطعة، وهي التي يستمر ثوابها في حياة المسلم وبعد موته، فإذا أعطيت الفقير طعاما فأكله أو مالا فانتفع به فهذه الصدقة ليست صدقة جارية إنما يكتب أجرها فقط، وأما الصدقة الجارية فلبقاء نفعها يدوم أجرها عند الله.
أمثلة عن الصدقة الجارية:
1- بناء المساجد وعمارتها:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله “من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة”
وقوله: “ولو كمفحص قطاة” مفحص القطاة موضع بروكها على بيضها، وهو مشتق من الفحص أي البحث، فالدجاجة والقطاة تفحص في الأرض برجليها لتتخذ لنفسها مفحصاً تبرك فيه أو تبيض فيه ، والقطاة : نوع من الحمام الصحراوي
ومعلوم أن ذلك المكان صغير جدًا، ومفحص القطاة لا يمكن بحال أن يتسع لمصلي، فدل على أن أيّ تبرع يُسهم في بناء مسجد موعودٌ صاحبه ببيت في الجنة.
و يدخل في ذلك من ساهم في شرائه أ وبنائه ، أو عمل فيه بيده، أو دفع أجرة العاملين، ونحو ذلك من العمل الذي ينسب إلى صاحبه أنه ساعد في بناء المسجد بنفسه أو ماله، أو صيانته ، أو قام بالمساهمة في فرش المساجد بالفرش المناسب لها ، أو قام مثلا بتركيب برادات المياه بالمساجد ليشرب منها المصلون ، أو ما يهيأ الجو الملائم للمصلين من تدفئة أو تهوية ، وتوفير لوازم المساجد من مكبرات الصوت ، وغيرها ، احتسابا وطلبا للأجر المرتب على ذلك، وهو أن يبني الله له بيتا في الجنة.
ولا ننس أن كل من يشارك في هذا المسجد فله أجر كل من يصلي ويتعبد وكل تال للقرآن وكل معتكف وكل مهتد إلى الإسلام أو تائب إلى الله، لأنه ساهم في بناء أو دعم هذا البيت من بيوت الله.
2- شراء المصاحف وإهدائها للغير:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ) حسنه الألباني في ” صحيح ابن ماجه“
فتوزيع المصاحف ونشرها وإهدائها للمساجد أو لإخوانك، أو نقصد إلى مدارس القرآن فنوزع على الطلبة أمثال جزء عم، والعشر الأخير وربع يس، فكل من يقرأ في هذه المصاحف أنت شريك له في الأجر.
3- نشر العلم النافع :
بإهداء الكتب أو المطويات الدعوية أو المحاضرات النافعة: وقد يجعلها الله سببا لهداية الكثيرين وتعليم الجاهلين، والدال على الخير كفاعله.
4- إصلاح الطرق:
فإن المسلم إذا أصلح الطرق وأزال عنها الأذى واستمر الناس ينتفعون بهذا فإن ذلك من الصدقات الجارية.
5- بناء المدارس الإسلامية:
سواء في البلاد المسلمة أو البلاد التي بها أقلية مسلمة، وخاصة مدارس نهاية الأسبوع لتعليم اللغة العربية ومدارس القرآن.
6- المساهمة في بناء المستشفيات لعلاج المرضى:
وخاصة من الفقراء والمحتاجين ولا يخفى على أحد حال المستشفيات في بلادنا العربية، من حيث انعدام التجهيزات وعدم توفر الأدوية وغياب أبسط الضرورات الطبية فكم من مريض لم يجد سريراً وهو بأمس الحاجة إليه؟ وكم من مريض احتاج إلى غسيل للكلى وعانى الأمرّين ليجد موعداً؟ وكم من المرضى الذين يرهقهم البحث عن علاج أو عن دواء ولم يجدوه؟
فالمساهمة في تخفيف الألم ورفع المعانة ودوام نفع ذلك للفقراء والمعوزين من أفضل أبواب الصدقات الجارية.
سؤال يتكرر كثيرا:
هل تجزئ الصدقة الجارية عن المتوفى؟ خاصة أن هناك من يقول بعدم جدوى ذلك لأنها ليست من ماله وأن الصدقة الجارية لابد أن تكون من صنع المرء بنفسه في حياته وقبل وفاته ؟
الصدقة عن الميت مقبولة للعديد من الأدلة ؛ فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها (ماتت فجأة) ولم توصي وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم)
وثبت في البخاري عن سعد بن عبادة : ( أن أمه توفيت وهو غائب فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وأنا غائب فهل ينفعها إن تصدقت عنها فقال : نعم ، فقال : أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها ) رواه البخاري
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يوص أينفعه إن تصدقت عنه؟ قال: نعم)
ومما سبق تعلم أن الصدقة عن الميت تنفعه ويصل إليه ثوابها.
الثاني :علم ينتفع به:
والمراد بالنفع هنا النفع الأخروي والدنيوي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ” علم ينتفع به ” والعلم الدنيوي يدخل فيه الطب والهندسة والصناعات والمهن والحرف ونحو ذلك، فهذه يشملها عموم الحديث، ولا شك أن أفضلها العلوم الشرعية ، مما يتعلق بالكتاب والسنة من علوم التفسير والحديث والفقه والعقيدة التوحيد ونحوها.
فتعليم الناس العلم، وخاصة الدين، والشريعة من أعظم العبادات المتعدية النفع إن لم تكن أعظمها على الإطلاق، وثواب من علم الناس الخير عظيم جدا ومن ذلك أن له مثل ثواب من عمل بذلك العلم، كما قال النبي صل الله عليه وسلم: ” من علم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل ” رواه ابن ماجة وهو حديث حسن.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل أهل السموات و أهل الأرض يستغفرون لمن يعلم الناس الخير ، و ألهم الله تعالى أنواع الحيوان الكبير و الصغير منها ؛ من النملة إلى الحوت ، الاستغفار للعالم فقال عليه الصلاة و السلام : ” إن الله و ملائكته و أهل السماوات و الأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ” حديث حسن
كم نوع من السمك في البحار ؟ كم سمكة؟ كم نوع من البهائم؟ كم نوع من الحيوانات؟ كم نوعا من الطيور؟ كم واحد كلها تدعو لمن يعلم الناس الخير، كم مليون كم بليون – ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء.
لماذا؟ لأن نفعه يصل إلى الآخرين نفع متعدي، وهذا الحديث كاف لتحميس ودفع الناس لتعليم الآخرين الخير.
لماذا يستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض؟
أولا/ كرامة من الله لمن حمل العلم الشرعي بين جنبيه:
ثانيا/ أن نفع العالم قد تعدى حتى انتفعت به الحيوانات لأن العالم يقول للناس حد شفرتك و أرح ذبيحتك و لا تذبحها بحضرة الأخرى ، و أسقها ماء و أرفق بها و إذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، ويقول للناس : ” في كل ذات كبد رطبة أجر ” حتى لو سقيت قطا فلك أجر شكرت الحيوانات هذا التعليم النافع لها لهذا المعلم فألهمها الله الاستغفار له دائما ، أهل السموات و أهل الأرض و لذلك فإن العلم الشرعي التعلم و التعليم من أعظم العبادات
هذا ويدخل في العلم الذي ينتفع به يدخل فيه : العلم الذي يأخذه عنه تلاميذه، أوعن طريق كتابة العلم، وتصنيف المؤلفات النافعة التي يخلفها الإنسان وتبقى بعده سنين طويلة، وقد تمكث مئات السنين، فإنه كلما انتفع من هذه المؤلفات منتفع وصل إليه ثوابه، وإن مضى على موته مئات السنين.
فإذا علم الناس وانتفعوا بعلمه بعد موته فإن له أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً لأن الدال على الخير كفاعله، وهذا دليل على بركة العلم وفائدته في الدنيا والآخرة .
ويدخل في هذا من له مواد مفيدة منشورة في صورة مادة مرئية او مسموعة، وكذلك من ورث مكتبته لغيره ينتفع بها، أو أهداها إلى إحدى دور العلم مثلاً؟ كذلك إذا كان عنده مكتبة فيها كتب نافعة مفيدة وجعلها وقفا لطلبة العلم أو أهداها لمسجد أو جامعة لينتفع بها الدارسون والباحثون.
ولا شك أنه يدخل في ذلك من يقوم بتعليم القرآن وتحفيظه وتعليم العلوم المتصلة به كالتجويد والقراءات كما في الحديث: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت). صححه الألباني
وقد ذكر بعض العلماء أن العلم الذي ينتفع به هو أفضل هذه الثلاثة الأشياء، لأن الولد يموت والصدقة الجارية تنتهي، ولكن العلم يبقى ولو قرونا.
الثالث هو الولد الصالح:
والولد كلمة تشتمل الذكر والأنثى، فيدخل في ذلك الابن والبنت إذا كانا صالحين.
والصالح هو الذي قام بحقوق الله وحقوق العباد.
وكل من ربى أولاده وأحسن تربيتهم على الإسلام ورعايتهم وتوجيههم يكتب له أجر كل الاعمال الصالحة التي يقوم بها أبناؤه ،وكل مكرمة يعلّمها الأهل لأبنائهم تزيد من مقامهم ودرجتهم يوم القيامة حتى يبلغ المرء بذلك أعلى الدرجات، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:“ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا” رواه مسلم
ومن فضائل إحسان تربية الأولاد التكريم في الدنيا بالذكر الحسن، وقد مدح الله تعالى إسماعيل عليه السلام في كتابه، فكان من أهم ما أثنى به عليه أنه كان مهتما بأهله يأمرهم بالصلاة ويربيهم على العبادة فقال سبحانه: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) [مريم:55]
وكرم الله تعالى عبدا صالحا من عباده فذكره باسمه في القرآن، وذلك لوصيته العظيمة لابنه ولحرصه على تربيته على العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة، قال تعالى :(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13).
ومن فضائل تربية الأولاد الشرف العظيم يوم القيامة، لأن من حسن تربية الأولاد تحفيظهم القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جزاء صاحب القرآن يوم القيامة: «ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان بما كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن» رواه أحمد وحسنه الألباني.
وفي المقابل فإن كل منقصةٍ يكتسبها الأبناء من آباءهم ستترك إثمها وعارها عليهم فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ““كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يعول”.. فإن كان في تربيتهم حفظهم ورعايتهم الأجر والثواب وعالي الدرجات فإن في ضياعهم الإثم والعقاب والعذاب ، عن ابن عمر – رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته ) أخرجه البخاري ومسلم
وقال – صلى الله عليه وسلم -: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ، أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) أخرجه الترمذي
ولد صالح يدعو له:
والدعاء من الولد مقبول، سواء كان صالحا أو غير صالح، لكن الحديث خصه بالصلاح لأنه مظنة أن يدعو لوالده، بل مقبول من الولد وغيره لكن دعاء الولد أولى لأنه من كسب ابن آدم نفسه، فقوله: (ولد صالح) لتقرير الحال والأولوية، وإلا فكل مسلم يدعو لأي مسلم فإن دعاءه نافع له، ومن أفضل الأعمال دعاؤك لأخيك بظهر الغيب.
صلاح الأولاد وفسادهم:
وصلاح الولد هبة من الله، وليس بحزم أو عزم الوالد، ولكن هذا سبب، فهذا نوح عليه السلام مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يهتد ولده: “يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ [هود:43]، فما استطاع نوح أن يهدي ولده ليكون معه في السفينة، فلا والد يهدي ولده، ولا ولد يهدي والده، هذا إبراهيم عليه السلام كم قال لأبيه: (يَا أَبَتِ) (يَا أَبَتِ)، (يَا أَبَتِ) فقال له: “لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا “[مريم:46]. وهكذا امرأة نوح وامرأة لوط، زوجها نبي وما أغنى عن زوجته شيئاً.
فالصلاح هبة من الله، والإنسان مكلف بالتأديب والقيام بالواجب، أما خلق الهدى والتوفيق في قلب الولد فهذا بيد الله، ونحن لا نملك في صلاح الأولاد إلا التأديب والرعاية، فمن رزق بولد فليحمد الله، وليسأل الله أن يجعله صالحاً، فإذا صلح الولد كان نعمة في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يصلح أولادنا وأن يأخذ بنواصيهم إلى الحق! وأن يوفقهم ويهديهم، ويصلحهم في أمر الدنيا والآخرة!
السيئات الجارية
كثيرٌ من الناس يغفلون عن مسألة السيئات الجارية وخطورة شأنها، لأنَّ من السيئات ما إذا مات صاحبها فإنها تنتهي بموته، ولا يمتد أثر تلك السيئات إلى غير صاحبها، ولكنْ من السيئات ما تستمر ولا تتوقف بموت صاحبها، بل تبقى وتجري عليه.
وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي: ” طوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة أو أكثر يعذب بها في قبره ويسأل عنها إلى آخر انقراضها ” (إحياء علوم الدين 2/74)
وقد جاءت النصوصُ الشرعيةُ محذِّرة من هذا النوع من السيئات، منها قوله تعالى:
(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل: 25]
وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) صحيح مسلم
وفي رواية: (وَمَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شيء) صحيح مسلم
وقد رُوِي: (الدال على الشر كفاعله) أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بإسناد ضعيف جداً
وبما أننا نعيش في عصرٍ تيسَّرتْ فيه وسائل الاتصالات ونقل المعلومات أصبح من الأهمية بمكان التذكير بشناعة السيئات الجارية ومدى خطورتها على صاحبها، فكم من إنسان أهلك نفسه وحمَّل كاهله سيئاتٍ لم تكن محسوبة عندما نصَّب نفسه داعياً إلى الضلال وناشراً إلى المنكر من حيث يشعر أو لا يشعر!!!
وبالتالي فإنه بسبب ما نشهده من تقدم وتطور في سائر نواحي الحياة لا سيما في مجال نقل المعلومات كانت صور السيئات الجارية متعددة، لعل من أبرزها ما يلي:
– الانترنت:
فالانترنت يُعد مكتبة متنقلة يمكن الاستفادة منها في أي وقت، فكل ما يُنشر في هذه الشبكة يمكن استعادته والرجوع إليه فضلاً عن سرعة انتشار المعلومة فيها، ولعل من أبرز الاستخدامات التي تندرج في باب السيئات الجارية ما يلي:
– إنشاء المواقع والمنتديات الفاسدة والضارة كالمواقع الإباحية ومواقع أهل الفسق والضلال، وهذه المواقع ثبتت أضرارها وآثارها الخطيرة على المجتمعات الغربية قبل المسلمة.
– الدلالة على تلك المواقع السيئة بوضع روابطها أو التعريف بها.
– نشر مقاطع الفيديو المخلة والمحرمة في المواقع المشهورة كاليوتيوب وغيره.
–وضع صور سيئة لنساء متبرجات أو عاريات كخلفية لمنتدى أو موقع معين أو على هيئة توقيع عضو ، أو مرفقة لخبر أو قصة أو كلمات وينشرها على مواقع التواصل كالفيس بوك وتويتر.
– إنشاء المجموعات البريدية من أجل نشر المواد والمقاطع السيئة.
– الهاتف النقال أو الجوال (المحمول):
وهي كذلك وسيلة تتطور يوماً بعد يوم بتطور تقنيات الهواتف، وأصبح من السهل عن طريق هذا الجوال أن ترسل ما تشاء إلى من تشاء، وذلك عن طريق الرسائل النصية(SMS) وغيرها من التقنيات المتقدمة، فكل إسهام عن طريق الجوال في نشر الشر والفساد يندرج في باب السيئات الجارية.
– الكتابة والتأليف:
وهي وسيلة ليست جديدة بالمقارنة مع ما سبق، إلا أن المؤلفات والكتب أصبحت تُطبع بأعداد كبيرة في وقت وجيز، وأصبح كل من هب ودب كاتباً ومؤلفاً، بالإضافة إلى سهولة انتشار الكتب عن طريق دور النشر والمعارض الدولية، فضلاً عن تنزيل الكتب في شبكة الانترنت.
فالكتابة والتأليف أصبحت أداةً خطيرةً إذا سُخِّرت في ترويج الأفكار المنحرفة عن الإسلام، فكل كلمة يكتبها المؤلف فهو مرهون بها ويتحمل تبعاتها يوم الحساب.
هذه بعض صور السيئات الجارية في عصرنا الحاضر، والمتأمل في آثارها يعرف مدى خطورتها في إضلال الناس وإفسادهم نسأل الله السلامة والعافية.
فلا أظن عاقلاً إلا ويبادر إلى غلق باب الشر هذا عليه قبل فوات الأوان، ويستبدله بفتح الجانب الآخر المعاكس له وهو الحسنات الجارية، وذلك عن طريق تسخير تلك الوسائل في الخير وفيما ينفع الناس، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
تجارة الرذيلة (المواقع الإباحية)
يحكي الشيخ محمد العريفي فيقول: قال لي: كان لي صديق حميم في مكانة الأخ.. مات الأسبوع الماضي فجأة في حادث سير..
أسأل الله أن يرحمه ويتجاوز عنه..
المشكلة.. أن هذا الصديق له خبرة في الانترنت.. وكان متعلقاً باكتشاف المواقع الإباحية.. وجمع الصور الخليعة..
حتى إنه صمم موقعاً إباحياً يحتوي على صور خليعة..
بل لديه مجموعة أشخاص.. مسجلين في الموقع.. يرسل إلى بريدهم كل فترة ما يستجد لديه من صور.. إباحية.. يرسلها الموقع إليهم آلياً..
ومات الرجل فجأة..
والمصيبة أننا لا نعرف الرمز السري للموقع (Password) للتصرف فيه أو إغلاقه..
كنت أفكر في ذلك.. وأنا أنتظر الصلاة عليه في المسجد..
مشيت في جنازته.. وهو محمول على النعش..
كنت أفكر.. ماذا سيستقبله في قبره.. صور خليعة؟!
حسبنا الله ونعم الوكيل!!
وصلنا إلى المقبرة.. قبور موحشة.. الناس يتزاحمون على القبر..
نظرت داخل قبره.. آآآه.. كيف سيكون حاله فيه..
رأيت بعض الناس يبكي..
قلت في نفسي: هل سينفعه بكاؤهم!!
دفناه.. ثم ذهبنا وتركناه..
والدته رأت في المنام صبية يمرون على قبره ويتبولون فوقه..
كانت تتساءل عن تعبيرها.. المسكينة لا تدري عن خفايا الأمور!!
سمعت عن هذه الرؤيا..
فقلت في نفسي.. ما تحتاج إلى تعبير.. معناها واضح..
هؤلاء الصبية الذين يتبولون على قبره.. هم الذين أرسل إليهم الصور..
وبدأوا هم بإرسالها لمن يعرفون..
يا للهول.. كيف سيتحمل آثام هؤلاء!!
(من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)..
حاولت جاهداً.. أن أحسن إليه..
خاطبت الشركة الكبرى المستضيفة للموقع ليوقفوا الاشتراك..
فاعتذروا عن عمل أي شيء.. بل لم يصدقوني.. لأني لا أعرف أرقامه السرية التي حجز بها الموقع..
صرخت بهم.. يا جماعة.. الرجل مات.. لم يلتفتوا إليَّ..
جلست أتفكر في حاله.. كم صرخت به:
كيف تتحمل ذنوب الناس.. كيف تكون مفتاحاً للشر.. كيف تحمل أوزارهم في القيامة على كتفيك..
لكنه لم يكن يتأثر بكلامي.. كان يرى أنه شباب ويريد أن (يفرفش) .. وهذه أمور للتسلية فقط..
أعوذ بالله.. كم من شاب نظر نظرة إلى صورة فتبع ذلك وقوع في فاحشة..
وكم من فتاة وقعت في ذلك كذلك..
الرجل مات.. لكنه سيسأل يوم القيامة عن كل نظرة نظرها.. ونظروها.. وكل فاحشة واقعها.. وواقعوها.. وصورة نشرها.. ونشروها..
لا أدري كم سيستمر يتحمل آثامهم.. ولكن عسى الله أن يتجاوز عنه..
وحسبي الله ونعم الوكيل..
القصة منقولة من كتاب في بطن الحوت للدكتور محمد العريفي
رشيد الزعر
بارك الله فيكم جميعا واسال الله لكم التوفيق