في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن والظلم يشعر الإنسان بضعفه وافتقاره إلى الله سبحانه وتعالى ، المؤمن يرى أنه بحاجة ملحة إلى أن يلجأ إلى ربه الأعلى الذي بيده الأمور كلها -( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير )- [الملك/1] ولذلك نلاحظ أنه من الأشياء التي أمر بها الله سبحانه وتعالى نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية بالذات مرحلة الابتلاء والتضييق أوصاه الله سبحانه وتعالى بالصبر والذكر ، يقول تعالى -( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون )- [البقرة/152]
تعريف الذكر :
الذكرلغة : ضد النسيان فأنا أذكر الله يعني لم أنس الله ( واذكر ربك إذا نسيت ) الكهف/24 أن تكون دائما متذكرا لربك غير غافل عنه ، فالقلب دائما متعلق بالله سبحانه وتعالى .
والذكر عبادة من أسهل العبادات ليست محتاجة إلى وضوء أو استقبال قبلة كالصلاة أو أداء معين مثل تلاوة القرآن بأحكام التجويد ، الذكر عبادة لا تجهد اللسان ولا الظهر، ولا اليد عبادة خفيفة يباشرها المؤمن في كل أحواله.
قال سبحانه وتعالى -( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )- [آل عمران/191] نسأل الله أن نكون منهم .
والذِّكر مفهومه شامل، وله معنيان:
أ) معنًى عام: ويشمل كل أنواع العبادات من صلاة، وصـيام، وحج، وقراءة قرآن، وثناء، ودعاء، وتسبيح، وتحميد، وتمجيد، وغير ذلك من أنواع الطاعات؛ لأنها إنما تقام لذكر الله تعالى، وطاعته، وعبادته.
قال شـيخ الإسلام رحمه الله: «كل ما تكلَّم به اللسان، وتصوّره القلب مما يقرِّب إلى الله من تعلّم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، فهو من ذكر الله»[مجموع الفتاوى (10/ 661).].
ب) معنًى خاص: وهو ذكر الله – عزَّ وجل – بالألفاظ التي وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيها تمجيد، وتنزيه، وتقديس، وتوحيد لله، والمقصود في هذه السُّنَّة هو: المعنى الخاص.
والذكر يكون باللسان وهذا هو المشهور أو المتبادر إلى الذهن عندما نقول هذه الكلمة ، لكن الجوارح لها ذكر أيضا فقالوا :
ذكر الأذنين الإصغاء فالأذن لما تسمع لشيء فيه عبادة لله مثل القرآن أو دروس العلم الشرعي فهذا يعتبر ذكر وعبادة لله سبحانه وتعالى .
وذكر العينين التفكر أن تتفكر العين وتتأمل في كون الله وآياته .
وذكر القلب بالعبادات القلبية المعروفة ، فعند النعمة القلب يشكر الله سبحانه وتعالى ويرضى ، وعند الشدة الصبر والاسترجاع ، وعند العبادة المحبة والخوف والرجاء ، فكل جارحة لها عبادة ونصيب من الذكر .
فضل الذكر :
والآيات والأحاديث في فضل الذكر كثيرة نذكر بعضها على سبيل المثال :
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا)- [الأحزاب42/41]
والأمر بالذكر هنا ليس معناه مجرد الذكر بل أن نذكر الله سبحانه وتعالى ذكرا كثيرا ، والفارق بين المؤمن والمنافق أن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا كما قال تعالى -(ولا يذكرون الله إلا قليلا )- [النساء/142] أما المؤمن فإنه يذكر الله كثيرا( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا)- [الأحزاب42/41] وقال تعالى : ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )- [الأحزاب/35]
وقال عن المنافقين : -( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )- [الزمر/45]
والمؤمنون وصفهم الله -سبحانه وتعالى- بقوله -( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون )- [الأنفال/2]
من أحب شيئا أكثر من ذكره:
والعلماء يقولون : “من أحب شيئا أكثر من ذكره ” -سبحان الله العظيم- فالألسنة تعبر عما في القلوب ، فالإنسان لما يكون قلبه ملآن بحب شيء تجده دائما على لسانه ، فمن أحب الرياضة أو الكرة على وجه الخصوص يتابع أخبار الرياضة والمباريات والتحليلات ، ولا حديث مع أصدقائه إلا عنها فلحبه الشديد لها تجده يتحدث عنها كثيرا ….
آخرين يحبون السيارات … التجارة وحالة الأسواق …. النساء طبعا يحبون الأسعار والموضة والملابس وأصناف الأكل .
فمن أحب شيئا سيكون دائما على لسانه واهتماماته كلها منصبة عليه ، فهذا حال الناس أما حال المؤمن فقلبه عامر بالإيمان بالله -سبحانه وتعالى- فدائما ما يكون لسانه عامرا بذكر الله -سبحانه وتعالى- فاللسان يعبر عما في القلب كما قال التابعي الجليل يحيى بن معاذ : “القلوب كالقدور والألسنة مغارفها ” القدور آنية الطعام واللسان كالمغرفة فهو يغرف معبرا عما في القلب ، نسأل الله أن يطهر قلوبنا، وأن يطيب ألسنتنا وأن يجعلها دائما لاهجة بذكره -سبحانه وتعالى-
وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول في كلامه -سبحان الله ، يعني يربط بين جملة وجملة بقوله: سبحان الله .
وهذا يعبر عما يكون في القلب من إجلال الله -سبحانه وتعالى-
إذن المؤمن يذكر الله كثيرا والمنافق لا يذكر الله إلا قليلا ، فالله ليس على باله ولا في خاطره …..لا إله إلا الله .
الآية الثانية قوله تعالى : -( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون )- [العنكبوت/45]
ما معنى “ولذكر الله أكبر” فيها عدة تفسيرات :
1- “ولذكر الله أكبر” يعني في النهي عن الفحشاء والمنكر ، يعني إذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر.
2- “ولذكر الله أكبر” ولذكر الله لكم بالأجر والمثوبة على طاعته وأداء الصلاة كما أمر الله وشرع أكبر من ذكركم إياه بما تتلون من قرآن أو تسبحون في ركوع أو سجود .
هذا أشهر ما قاله المفسرون في هذه الآية .
ومن الأحاديث في فضل الذكر :
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول ( أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه ) رواه البخاري
الله أكبر ! معية الله عز وجل لعبد من عباده وهو يذكره -سبحانه وتعالى-
الإنسان بطبعه اجتماعي وعندما يكون وحيدا في مكان تأتيه وحشة ويخاف بل من العقوبات الشديدة الحبس الانفرادي ، حيث لا يرى الناس ولا يرونه ، لكن المؤمن لا يرى في الخلوة وحشة إنما يرى فيها أنسا بالله -سبحانه وتعالى- وخلوة مع الله ،وهذا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ” ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ” رواه البخاري.
ولما كان الرسول مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالغار يوم الهجرة قال : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ،لا تحزن إن الله معنا .
وأبو بكر -رضي الله عنه- لم يكن خائفا على نفسه ، إنما كان يخشى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما رسول الله فقلبه مطمئن وواثق بالله -سبحانه وتعالى- ولذلك الآية -( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها )- [التوبة/40]
والضمير في “عليه” يعني على أبي بكر -رضي الله عنه- ، والشاهد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر -رضي الله عنه- لا تحزن إن الله معنا ،فهذه الكلمات ذكر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الشدة جعلت الصديق -رضي الله عنه- يستشعر معنى السكينة والثقة في الله عند هذه الشدة الكبيرة التي كانوا فيها وهم في الغار ، والمشركون أمام الغار يضمرون كل شر بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه .
والشيء بالشيء يذكر لما كان الإمام الجنيد مرة مع تلامذته قال لهم تعالوا نذكرالصالحين فبذكر الصالحين تحل البركة فقال أحدهم : إذا كان بذكر الصالحين تحل البركة فماذا يا شيخنا إذا ذكرنا الله ؟ فأطرق الشيخ قليلا ثم رفع رأسه قائلا :إذا ذكرنا الله اطمأنت القلوب -( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )- [الرعد/28]
فالمسلم يأنس بربه في خلوته ويستشعر قوله تعالى : -( فاذكروني أذكركم)- [البقرة/152]
وقال بعض السلف :أنا أعلم متى يذكرني ربي ! فقالوا متعجبين كيف ذلك ؟ قال أليس هو القائل ( فاذكروني أذكركم)- [البقرة/152] فإذا ذكرت الله تعالى ذكرني عنده في الملأ الأعلى .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ) رواه البخاري ومسلم .
في نفسه : بينه وبين الله .
في ملأ : في جماعة .
تأملوا هذا المعنى : لما تقول : سبحان الله العظيم وتكررها ، فأنت تذكر الله عزوجل في نفسك ،أنت العبد الفقير الضعيف الله يذكرك في الملا الأعلى عنده ، كما نرى على الشاشة كلمة (live) أو بث مباشر ، فأنت تذكر الله خاليا مع نفسك والله جل وعلا مطلع عليك -سبحانه وتعالى-
وإن ذكرته في ملأ ذكرك الله عنده في الملأ الأعلى يباهي بالذاكرين ملائكته كما في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : ” مَا أَجْلَسَكُمْ ؟ قَالُوا : جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلامِ ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ ، قَالَ : آللَّهُ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلا ذَلِكَ ؟ قَالُوا : وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَلِكَ ، قَالَ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ ” ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
الله أكبر !الله أكبر ! فاستشعر أخي وأنت في أي مكان ، وخاصة في الخلوة ، أو في جماعة من أصدقائك تذكرون الله -سبحانه وتعالى- أن الله يباهي بكم ملائكته .
وكل مجلس لا يذكر فيه اسم الله يكون حسرة على أهله يوم القيامة كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ ) رواه أبو داود
ومعنى قوله : ( ترة ) : يعني حسرة وندامة .
وحتى تستشعر هذا المعنى اسمع لهذا الحديث :
كان أبي بن كعب -رضي الله عنه- حبرا (عالما ) من أحبار اليهود فأسلم وصار من أهل القرآن وهو إمام المسلمين لأول صلاة تراويح في عهد عمر -رضي الله عنه- جمع الناس فيها على إمام واحد ، دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلا : يا أبي إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة ، فبكى -رضي الله عنه- قائلا : وسماني لك ؟! يقصد الله جل جلاله سماني لك بالاسم اقرأ هذه على أبي ؟ فبكى رضي الله عنه فرحا واستبشارا بذلك .
ومما ورد في فضل الذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت ) اللهم اجعلنا من الذين تحيا قلوبهم بذكرك ، والحياة والموت هنا حياة القلب وموته ، فالذكر بالنسبة للإنسان مثل الماء للنبات ، فكما أن النبات يحيا بالماء كذلك ، فالقلب يحيا بالذكر .
وعن عبد اللهِ بنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أنّ رجُلًا قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: ( لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله ) رواه التّرمذي
وهو أمر بالمداومة والإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ، لأنّ ما يجري على اللّسان يثبت في الجَنان، وقديما قالوا:” ما فيك ظهر على فيك “،
الشّاهد من الحديث: أنّ الذّكر بأنواعه، مفضّل على جميع العبادات، ووجه الدّلالة: أنّ العبد إذا كثرت عليه الشّعائر تمسّك بأفضلها، وهو الذّكر.
وعن أبي الدّرداءِ رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ )). قَالُوا: بَلَى. قَالَ:( ذِكْرُ اللهِ تعالى ).رواه أحمد بإسناد حسن
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري :” المراد بذكر الله في حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه الذّكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللّسان والقلب بالتفكّر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأنّ الّذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممّن يقاتل الكفّار مثلا من غير استحضار لذلك، وأنّ أفضلية الجهاد إنّما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرّد، فمن اتّفق له أنّه جمع ذلك، كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى “.