من كلام السلف عن النية والإخلاص
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عما حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله تعالى.
وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره.
وقال بعض السلف: رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية.
وقال سهل رحمه الله تعالى: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل! قيل: يا أبا محمد هل تعرف شيئاً أشد من الجهل قال: نعم الجهل بالجهل.
وهو كما قال لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم فمن يظن بالكلية بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخاً مستفاداً في الله أو رحمة مستنزلة أو علماً مستظرفاً أو كلمة تدل على هدى أو تصرفه عن ردى أو يترك الذنوب خشية أو حياء.
ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدري(المشط ) فقالت: أجيء بالمرآة فسكت قليلا ثم قال: نعم فقيل له في ذلك فقال: كان لي في المدري نية ولم تحضرني في المرآة نية فتوقفت حتى هيأها الله تعالى.
وكان أحدهم إذا سئل عملاً من أعمال البر يقول: إن رزقني الله تعالى نية فعلت.
وفي الإسرائيليات: أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها ، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة
قال: وما أنت وذاك! تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك! فقال: إن هذا من عبادتي قال: إني لا أتركك أن تقطعها فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره .
فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك فقام عنه
فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك! وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها! فقال العابد: لا بد لي من قطعها فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس .
فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع قال: وما هو قال: أطلقني حتى أقول لك فأطلقه فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس!
قال: نعم
قال: فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها!
فتفكر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ! لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها وما ذكره أكثر منفعة فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له فرجع العابد إلى متعبده فبات فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئاً فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له:
إلى أين قال: أقطع تلك الشجرة فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة فقال: هيهات فأخذه إبليس وصرعه فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره .
وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك فنظر العابد فإذا لا طاقة له به قال: يا هذا غلبتني فخل عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن فقال: لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك.
هذه الحكايات تصديق قوله تعالى ” إلا عبادك منهم المخلصين ” إذ لا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص
ولذلك كان معروف الكرخي رحمه الله تعالى يضرب نفسه ويقول: يا نفس أخلصي تتخلصي.
وقال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري: من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس
وكتب بعضهم إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.
وقال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال.
وكان مطرف يقول: من صفا صفي له ومن خلط خلط عليه.
وقال يحيى بن معاذ : الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم:
ويروى عن بعضهم قال: غزوت في البحر فعرض بعضنا مخلاة فقلت: أشتريها فأنتفع بها في غزوي فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها فاشتريتها …..
فرأيت تلك الليلة في النوم كأن شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: اكتب الغزاة فأملي عليه خرج فلان متنزهاً وفلان مرائياً وفلان تاجراً وفلان في سبيل الله ثم نظر إلي وقال: اكتب فلان خرج تاجراً!!!
فقلت: الله الله في أمري! ما خرجت أتجر وما معي تجارة أتجر فيها ما خرجت إلا للغزو فقال: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح بها فبكيت وقلت: لا تكتبوني تاجراً فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى فقال: اكتب خرج فلان غازياً إلا أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عز وجل فيه بما يرى.
قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.
وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل فإن الالتفات إلى الإخلاص والنظر إليه عجب وهو من جملة الآفات والخالص: ما صفا عن جميع الآفات فهذا تعرض لآفة واحدة.
وقال سهل رحمه الله تعالى: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة .
وقيل له: أي شيء أشد على النفس فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب.
وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص بأن يعافيك الله منهما.
وقال ابن القيم رحمه الله : (أجمع العارفون بالله على أن ذنوب الخلوات هي أصل الإنتكاسات وأن عبادة الخفاء من أعظم أسباب الثبات )
وقال بعض العلماء : إن الله قد يقبل نصف الجهد في سبيله، ولكنه لا يقبل نصف النيّة، إما أن يخلص القلب كله له، وإما أن يرفضه كله.
وقال محمد بن منصور : كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها إلى الأرض -يعني: في المسجد- فرأيت البخاري ينظر إليها وينظر إلى الناس، فلما غفل الناس عنه رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها إلى الأرض. سبحان الله!! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفاءها بدقة رحمهم الله تعالى
وجاء في ترجمة الإمام الماوردي رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه: وفيات الأعيان قال: إن الماوردي لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه: إن الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة،
قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي؛ فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده.
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء ، في ترجمته لمحمد بن المنكدر قال -أي محمد بن المنكدر -:كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس أصلي إليها الليل، فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فتساندت إلى ساريتي، فجاء رجل أسود تعلوه صفرة متزر بكساء، وعلى رقبته كساء أصغر منه، فتقدم إلى السارية التي بين يدي وكنت خلفه، فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال:
أي رب.. أي رب! خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم -يعني إلا أن تسقيهم-
يقول ابن المنكدر: فقلت: مجنون! قال: فما وضع يده حتى سمعت الرعد، ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي -يعني: من كثرة المطر-
فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، قال: ثم قال: ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكن عذت بحمدك وبطولك.
ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزراً به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل قائماً يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه،
فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب.
فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها، وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائماً حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه،
فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل داراً عرفتها من دور المدينة، ورجعت إلى المسجد.
فلما طلعت الشمس وصليت؛ خرجت حتى أتيتُ الدار فإذا أنا به قاعد يخرز، وإذا هو إسكاف -يعني: يرقع الأحذية- فلما رآني عرفني وقال: أبا عبد الله مرحباً، ألك حاجة؟
تريد أن أعمل لك خفاً؟
فجلست فقلت: ألست صاحبي بارحة الأولى؟!
فاسود وجهه وصاح بي وقال: ابن المنكدر ما أنت وذاك؟!
قال: وغضب ففرقت والله منه -أي خفت والله من غضبه- وقلت أخرج من عنده الآن،
فلما كانت الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجئ، فقلت: إنا لله ما صنعت! إنا لله ما صنعت!
فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح، وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟!
قلت: ما له؟ قالوا: لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلداً ولا قالباً إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب،
يقول ابن المنكدر : فما تركت في المدينة داراً أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله.
سبحان الله خشية أن يشتهر بعمله ولأجل أنه عرف خرج من المدينة كلها، فهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله.
ذكر ابن أبي الدنيا عن معقل بن عبيد الله الجزري قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: مَن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومَن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه.
ومَن علم الله صدق باطنه أعانه على ظاهره، وبلغه المراد؛ فإنما يتعثر مَن لم يخلص. والصادق الموفق يزين سريرته للحق كما يزين علانيته للخلق.
فأسـاسُ أعمــالِ الورى نِـيَّــاتُــهم وعلى الأسـاسِ قواعــدُ البُـنيـانِ.
قال ابن القيم في مدارج السالكين [ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء.
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: “والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كـل وقت، وما أسلمتُ بعد إسلامًا جيدًا”!! وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسيكين فى مجموع حالاتى
أنا الظلوم لنفسى وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده ياتى
لا أستطيع لنفسى جلب منفعة *** ولا عن النفس لى دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يدبرني *** ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتى
إلا بإذن من الرحمن خالقنا *** إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات
ولست أملك شيئا دونه أبدا *** ولا شريك أنا فى بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به *** كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لى وصف ذات لازم أبدا *** كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم *** وكلهم عنده عبد له آتى
فمن بغى مطلبا من غير خالقه *** فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه *** ما كان منه وما من بعد قد ياتى
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت “فضيلاً” ليلة وهو يقرأ سورة “محمد” ويبكي، ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]
وجعل يقول: (ونبلو أخباركم)، ويرددها، ويقول: وتبلو أخبارنا..؟! إن بلوتَ أخبارنا فضحتَنا، وهتكتَ أستارنا.. إن بلوتَ أخبارنا أهلكتَنا وعذبتَنا..
وسمعته يقول: تزينتَ للناس، وتصنعتَ لهم، وتهيأتَ لهم، ولم تزل ترائي حتى عرفوك؛ فقالوا: رجل صالح.. فقضوا لك الحوائج، ووسعوا لك في المجلس، وعظَّموك..! خيبة لك..! ما أسوأ حالك؛ إن كان هذا شأنك!
وسمعته يقول: إنْ قدرتَ أنْ لا تُعرَف فافعل. وما عليك أن لا تُعرَف؟! وما عليك إنْ لم يُثنَ عليك؟! وما عليك أنْ تكون مذمومًا عند الناس إذا كنتَ عند الله محمودًا؟! [التوابين]
ونزل الإمام أحمد إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب، وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس، ترك أهل المتاجر متاجرهم، وتوقف المارة في طرقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب.. فهز يده، واحمر وجهه، ودمعت عيناه وقال: نحن قوم مساكين؛ لولا ستر الله لافتضحنا..!