الدعاء بصلاح الدين والدنيا والآخرة
فضل الدعاء :
يقول الحق جل وعلا : -( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )- [غافر/60] هذا أمر ووعد من الله ، أمر من الله أن ندعوه وأن نسأله سبحانه وتعالى ، ووعد منه سبحانه وتعالى أن يستجيب لنا ، وبين أن من يستكبر عن دعائه ومسألته فإن ذلك يخرجه عن دائرة العبودية ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )- [غافر/60]
داخرين : أي صاغرين أذلاء .
وقال تعالى : -( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )- [فاطر/15]
كلنا لا نستطيع أن نعيش بعيدا عن الله، وعن الاحتياج إليه ومسألته والاستعانة به سبحانه وتعالى .
كلنا فقراء نحتاج إلى الله في كل أمورنا وأحوالنا ، حينما أقول يارب ، فهذا الدعاء هو افتقار وانكسار واحتياج وتضرع وابتهال ، وهذا مما يرضاه الله سبحانه وتعالى ، أما إذا تعالى المرء واستكبر عن دعاء ربه ومسألته فإن ذلك -كما قلت- يخرجه من دائرة العبودية لله .
الدعاء هو العبادة:
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (الدعاء هو العبادة ) كيف الدعاء هو العبادة رغم أن العبادة فيها الكثير من الصالحات التي نقوم بها ؟
هذا الحديث (الدعاء هو العبادة ) كقوله: (الحج عرفة) فكما أن عرفة هو ركن الحج الأكبر فإن الدعاء هو المظهر الذي تتمثل فيه العبودية لله عز وجل ، فأنا ربما أصلي ولا أخشع في صلاتي ، وربما أقرأ القرآن ولا تدخل معانيه إلى قلبي فأتدبرها …. ومن الممكن أن أفعل الكثير من الطاعات ولا أستشعر معنى العبودية ، فأنا حينما أقول : اللهم إني أحتاج إلى كذا وأرجوك في كذا ….اللهم إني أسألك كذا… فهذا هو معنى العبودية لله سبحانه وتعالى ، وهذا تحقيق لقولنا : -( إياك نعبد وإياك نستعين )- [الفاتحة/5] فحينما أقول : يارب أنا بذلك أحقق معنى لا إله إلا الله ، أنا أحقق معنى الإخلاص لله ، -( فادعوه مخلصين له الدين )- [غافر/65] له الدين له وحده سبحانه وتعالى فأنا أحقق بذلك التوحيد لله ، وأحقق الافتقار إلى الله بدعائي وأحقق معنى الرجاء في كرم الكريم بدعائي .
والله سبحانه وتعالى يرفع الضر عن العبد بالدعاء قال تعالى : -( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم )- [الأنعام/43] قست قلوبهم فأنزل الله بهم عاقبة أفعالهم ، فمفهوم المخالفة : أننا إذا تضرعنا إلى الله وافتقرنا إليه فإن الله سبحانه وتعالى يجعل عاقبة ذلك خيرا .
وفي سورة الأحزاب يقول تعالى : -( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )- [الأحزاب70/ 71] من ظن أنه يستطيع أن يعيش بعيدا عن الله أو مستقلا عن الله ، أو أنه لا حاجة له في الدعاء فهو واهم ، فلا غنى لنا عن الله سبحانه وتعالى ، ولا نستطيع أن نفعل شيئا إلا بأمره سبحانه وتعالى ، وهذا معنى لا حول ولا قوة إلا بالله .
اللجوء إلى الله :
والواحد فينا حينما تكثر مسؤولياته وصراعه وسعيه في هذه الدنيا يزداد تشتته وتزداد همومه وآلامه وآماله ، وتختلف أحواله فكان مما علّمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللجوء إلى الله، والدعاء له سبحانه وتعالى ، ودائما ما أحرص في دروسي وخطبي على تدبر أدعية الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى نفقه المعاني التي ندعو الله بها ، ونتعلم كيف ندعو لأن الكثير منا يحتاج أن يدعو لكن لسانه ربما يعجز عن البيان فهنا خير لنا أن نقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعواته ، وأحب الدعاء إلى الله ما كان فيه جوامع الكلم كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك.”
نأخذ اليوم دعاء من أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحاول فهم معانيه ونتدبرها .
اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي اَلَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي
في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي اَلَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ اَلَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي اَلَّتِي فيها مَعَادِي، وَاجْعَلْ اَلْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ اَلْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
هذا الدعاء من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، فجمع خير الدنيا والآخرة، والدين والدنيا، وفيه النظرة الشاملة الكاملة لدين الإسلام التي تجمع للعباد بين مصالح الدين والدنيا .
وقد تضمن هذا الدُّعاء المبارك خمسة أمور:
• الأمرُ الأوَّل: الدُّعاء بِصَلاح الدِّين.
• والأمرُ الثَّاني: الدُّعاء بِصَلاح الدُّنيا.
• والأمرُ الثَّالث: الدُّعاء بِصَلاح الآخرة.
• والأمرُ الرَّابع: الدُّعاء بأنْ تكون الحياة والعمر مزيدًا من الخيروالعمل الصَّالح.
• والأمرُ الْخامسُ: الدُّعاء بأن يكون الموتُ راحةً من الفتن والشُّرور الَّتي قدْ تُصِيبُ الأحياء.
هذه الأُمُور الْخمسة إذا حفظ الله المرء فيها نالَ سعادة الدُّنيا والآخرة، بلْ تلك هي السَّعادة الكبرى الَّتي لا تعدلها سعادة.
تعالوا لشرح المعاني الجليلة التي تضمنها الدعاء .
الإسلام فيه توازن بين الدين والدنيا والآخرة:
بداية أقول :الإسلام ليس دينا روحانيا فقط ينقطع به الإنسان عن الدنيا كالرهبانية كما قال تعالى عن النصارى : -( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها )- [الحديد/27] ولا إغراق في المادية حتى أن الإنسان يصيبه ما أصابه من أمراض العصر الحالية من الاكتئاب والقلق والتوتر ، إنما توازن بين الدين والدنيا والآخرة ، وقد تكلمنا في الأسابيع الماضية عن بناء شخصية المسلم من خلال :
1-العلاقة مع الله
2- العلاقة مع الناس .
3- العلاقة مع الذات أو النفس .
اليوم نتكلم عن التوازن من جانب آخر وهو التوازن بين الدين والدنيا والآخرة ، أن تكون دائما ساعيا بهذا الاتجاه .
والدين أغلى ما نملك ، وهذه الدنيا التي نحيا فيها ، والآخرة هي التي سنذهب إليها جميعا؛ فكان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- :
” اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي” فالدين هو أساس هذا الأمر ، وهو أغلى ما نملك فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بإصلاح الدين أولاً؛ وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- ( اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ) لأن المصيبة في الدين لا تعوض ، أما مصيبة الدنيا فإنها تعوض ،والله يجزي الصابرين عليها بغير حساب، لكن الدعاء بصلاح الدين هو أهم شئ.
ما معنى صلاح الدين ؟
صلاح الدين أن تعبد الله على وجه صحيح أن تعبد الله مخلصا ، متابعا للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا تعبد الله بالرياء ، ولا تعبد الله بجهل وبدعة، ولا تعبد الله سبحانه وتعالى بعيدا عن الحق ، وهناك من يمضي حياة طويلة وهو واقع في بدعة أو ضلالة أو جهالة ولا يسمع ولا يدري هل هو على الحق أم على الباطل .
فأنت تسأل الله أن يصلح دينك فتكون عبادتك كما يحب الله ويرضى ، يصلح دينك فتقبل على الله بالطاعة ويبغض إليك المعصية ، يصلح دينك فتكون عالما بالحلال والحرام لا واقعا منغمسا في الحرمات ، يصلح الله دينك فيبعدك عن فتن الشبهات التي راجت وذاعت في زماننا هذا ، الناس يتكلمون كثيرا عن الشبهات …..الشبهات وكأن الأصل أن دين الإسلام كله شبهات ، ورد الشبهات ، والدفاع عن الإسلام ، وكأن الإسلام متهما نسعى للدفاع عنه وتبرئته ، وهذا كله مقصود لزعزعة الدين وهز هيبته في القلوب فيهون على أهله ، وتزال القدسية عن منهج الله ودينه ، أنا عندي الدين مقدس قال الله قال رسوله ، فيأتي من يطعن في هذا ويهز الثوابت ويزلزل ما بني عليه القلب من اعتقاد ، فيصبح الناس في تشتت بسبب هذه الشبهات ، فأنت تسأل الله أن يعصمك من الجهل ومن البدعة ومن فتنة الشبهات وأن يصلح دينك بالإخلاص له واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-
” اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي” معنى العصمة: المنع والحفظ، والعاصم المانع، أمري: الأمر: الشأن والحال .
يعني إذا سمعت بشبهة يلقيها البعض أو فتنة ، أو بدعة ما الذي يزن التفكير عندي ؟ هل الهوى والمزاج الشخصي ؟
كلا الشرع هو الذي يحكمني هذا حلال وهذا حرام ، ماذا قال الله في هذه المسألة ؟
ماذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ ماذا يقول العلماء الذين فهموا الكتاب والسنة ؟
فالدين عاصم مانع من الفتن ، والبدع والضلالات والشبهات.
ولما جاء رجل للإمام مالك وقال له ناظرني قال : أرأيت إن كنت ألحن مني في الكلام (ألحن يعني يجيد الكلام ) هل علي أن أتابعك ؟ قال : نعم .
قال فإن كنت ألحن منك هل عليك أن تتابعني ؟ قال : نعم .
قال: فإن جاء من هو ألحن منا هل علينا أن نتابعه ؟ قال نعم .
قال : فمتى نهتدي إلى صراط مستقيم ؟!!!
فالمسألة ليست فيمن يجيد الكلام والعرض ، ويستولي على عقول الناس بأفكار وشبهات .
فالدين عاصم من الفتن والشبهات والشهوات ، أو حينما تحدثك نفسك بأمر حرام (معصية) تتذكر أن الله يراك ، وأنه نهى عن ذلك ، فالدين عصمة من الفتن والضلالات ، فكان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ” اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي”
ما معنى صلاح الدنيا :
«وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي» معاشي: أي عَيشي
صلاح الدنيا كيف يكون ؟ صلاح الدنيا بأن يرزقك الله رزقا طيبا حلالا ، أن يرزقك الله راحة البال -( سيهديهم ويصلح بالهم )- [محمد/5] صلاح الدنيا أن يرزقك الله التوفيق في الأعمال ، صلاح الدنيا أن يرزقك الله برا بوالديك ، وبرأبنائك بك ، صلاح الدنيا أن يرزقك الله زوجة صالحة ، أو يرزقكِ زوجا صالحا ، صلاح الدنيا أن يهيئ الله لك المعاش بلا تعب ولا قلق ولا توتر ، ولا مكسب حرام ولا سعي حرام .
«وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي» المعاش هو السعي في طلب الرزق أخذا بالأسباب كما علمنا الله سبحانه وتعالى أن نسعى ، لكن الناس انشغلوا بالسعي ، ونسوا أن الله هو الرزاق ، فانشغلوا بأكل ما فيه شبهة أو حرام وأقبلوا على هذه الأمور ونسوا أن الرزق سيأتيك سيأتيك ، وأن العبرة ليست بكثرة المال ، إنما بأن يجعل الله في المال بركة ، العبرة ليست بكثرة ما أطعمه أولادي ، إنما بأن يجعل الله أولادي صالحين نافعين ، أنا لا أفتح معلفا أعلف فيه أبنائي إنما أربي وأوجه وأعلم ؛ لا يضرني إن أكلوا قليلا أو كثيرا ؛ إنما يضرني إذا قصروا في طاعة الله، ومعرفة دينهم ، فأنت تسأل الله «وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي»
الحياة الطيبة :
وقد وعد الله سبحانه وتعالى من يعمل العمل الصالح بالحياة الطيبة فقال تعالى :﴿ -( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )- [النحل/97] قوله: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾: حياة طيبة أي فيها الأمن والأمان والسكينة والطمأنينة ، فيها راحة البال .
يا إخواني نحن الذين نجني على أنفسنا بنسياننا لهذه الثوابت ، لو أنك عندك الثوابت التي تعلمناها أن الرزق بإذن الله تعالى مقسوم ، ولن يفوتك رزق فتطمئن وتهدأ وتعلم أن عليك واجبات كلفك الله بها ، وضمن لك أمور ، لكن الكثير منا انشغل بما ضمنه الله عما طلبه الله منا سبحان الله العظيم!!!
كما قال بعض العلماء: الله تعالى قال : -( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )- [الملك/15]
وقال : -( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )- [آل عمران/133] فانشغلنا بالرزق فسارعنا إليه وتصارعناعليه وتنافسنا ، ثم في قوله: (وسارعوا) تباطأنا وتثاقلنا وضيعنا وفرطنا ، فالله ضمن لك الرزق وأمرك بالمسارعة إلى مرضاته وما فيه مثوبة الجنة .
وفي سورة الأنفال : -( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم )- [الأنفال/24] فحياتك الحقيقية ليست بكثرة الأكل والشرب والترفه والتنعم ، حياة قلبك باستجابتك لله ، ورحم الله الإمام ابن القيم حينما قال : “اعلم أن حياتك بقدر استجابتك ”
إذا أردت أن تستشعر معنى حياة القلب والشعور بالسكينة والأمان والطمأنينة هذا يكون بقدر استجابتك ، ومصداق هذا قول الحق سبحانه وتعالى : -( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى )- [طه123 /124] ) فلا يضل بسعي خائب في معصية أو بدعة أو ضلالة أو فتنة ، ولا يشقى من الشقاء وهو ضد السعادة ، ومن جعل دينه وراء ظهره، وفرط وضيع فإن له معيشة ضنكا، والضَّنَّكُ : الضِّيِّقُ من كلِّ شيءٍ ،المعيشة الضنك هي معيشة الشقاء ، معيشة القلق ، معيشة الضياع ، معيشة الإحباط ، معيشة اليأس ، والمكاره و الاكتئاب ،وتواصل الهم والغم والحزن ، والتسخط من القضاء والتبرم بأقدار الله ، والقلق ، والاضطراب ، وتمني الموت ، والإشراف على الانتحار، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة ؛ جزاء له على إعراضه عن كتاب الله جل وعلا، لأنه ترك الهدى فوقع في الضلال ووقع في الحرج ، نسأل الله عفوه وعافيته .
الدعاء بصلاح الآخرة :
«وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي» ماذا بعد الدنيا ؟ الدنيا ليست النهاية ، نحن لسنا مخلدون في هذه الدنيا قال تعالى : -( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون )- [الأنبياء/34] وقال : -( إنك ميت وإنهم ميتون )- [الزمر/30] فأنت تسأل الله بعد صلاح الدين وصلاح الدنيا تسأل الله صلاح الآخرة.
ما معنى صلاح الآخرة ؟
صلاح الآخرة بداية من خروج الروح وحسن الخاتمة ، صلاح الآخرة في الحياة البرزخية أن يجعلك الله من المنعمين ، فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار ، صلاح الآخرة أن تكون يوم الفزع من الآمنين ،صلاح الآخرة أن يدخلك الله الجنة بغير حساب، ولا سابقة عذاب ، صلاح الآخرة أن تلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحوض فيناولك بيده الشريفة شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدا ، صلاح الآخرة أن تدخل الجنة فتكون جار النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس الأعلى من الجنة ، صلاح الآخرة أن يمتعك الله بالنظر إلى وجهه الكريم .
«وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي» لأن الله خلقنا من الأرض ثم ردنا بالموت إلى الأرض فنقبر فيها، ثم يخرجنا منها ، فنحن إلى الله راجعون نحن هنا في الدنيا بشكل مؤقت ؛ لسنا هنا للخلود ما خلقنا لنخلد في الدنيا وجودنا في الدنيا له تاريخ ميلاد معلوم لنا ، وعند الله تاريخ وفاة ، يوما ما ستكون المرحوم فلان الفقيد فلان …. وسنلقى الله بأعمالنا ، فنحن في دار اختبار ، فأنت تسأل الله أن يصلح آخرتك التي فيها المعاد والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والجزاء على الأعمال ، ولذلك الواحد فينا لما يصاب بمصيبة يسترجع ويقول : -( إنا لله وإنا إليه راجعون )- [البقرة/156] يعني إنا ملك لله فنحن عبيده طوع أمره نافذ فينا قضاؤه -سبحانه وتعالى – ثم بعد حياتنا التي سنحياها راجعون إلى الله -سبحانه وتعالى – أنا أخرج من بيتي وأرجع إليه فهذا بيتي ، فكذلك أنا خرجت إلى هذه الدنيا وسأعود إلى الله ، فتسأل الله«وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي»
كل يوم جديد زيادة في الخير :
«وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ» كل يوم يمر علي يارب اجعله زيادة في الخير ، والطاعات ، والبر والحسنات .
«وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» البعض منا حينما تضيق به الدنيا يدعو على نفسه بالموت ، يتعجل الموت، ويظن أن الموت فيه الراحة والمنتهى، وينسى أن زرعه في الدنيا هو سبب راحته في الآخرة .
كلنا سنموت ، لكن مرة واحدة فلا تتعجل الموت ، أنت تمر بجميع الاختبارات في هذه الدنيا وكلما زاد الله في عمرك كلما زاد عملك ، وهذا ما قاله المعصوم -صلى الله عليه وسلم-: “خيركم من طال عمره وحسن عمله” ، لما الإنسان فينا يمد له يوم هذا اليوم كم فيه من الصلوات؟ وكم فيه من السنن؟ والذكر والبر ؟ وكم فيه من حسن الخلق ؟
كل هذا ثواب يحسب لك فإذا مد الله لك عاما أو أعواما فلماذا تستعجل الأمر ؟ لماذا تستعجل الوفاة حتى وإن ابتليت أو ضيق عليك فصبرت فأنت تحتسب صبرك عند الله -( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )- [الزمر/10] بغير حساب أجر جزيل لمرارة الصبر وشدته على النفس ، إذا مر بك يوم وكانت حسناتك أكثر من سيئاتك فاحمد الله وسل الله القبول واستغفر الله من أي تقصير في حق الله .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله : الْمُؤْمِن يَعْمَل بِالطَّاعَاتِ وَهُوَ مُشْفِق وَجِل خَائِف وَالْفَاجِر يَعْمَل بِالْمَعَاصِي وَهُوَ آمِن.
وعن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قَدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي .
قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون ؟
فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخِر الجنةَ قبله !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ قالوا: بلى .
قال : وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ؟ قالوا: بلى.
قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم : ” فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض “
«وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» هذا ليس دعاء بالموت إنما حينما تتوفني يارب اجعل الموت راحة لي من الدنيا وعنائها وتعبها كما في حديث أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: ( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: ( العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ )
فعلينا أن نداوم الدعاء بهذه الكلمات المباركات سائلين الله من فضله العظيم «اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِنا دِينِنا اَلَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِنا دُنْيَانا اَلَّتِي فِيهَا مَعَاشِنا، وَأَصْلِحْ لِنا آخِرَتِنا اَلَّتِي فيها مَعَادِنا، وَاجْعَلْ اَلْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ اَلْمَوْتَ رَاحَةً لِنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ» اللهم آمين