ثمرة الصيام الغالية : (لعلكم تتقون)

تاريخ الإضافة 27 مارس, 2025 الزيارات : 964

ثمرة الصيام الغالية : (لعلكم تتقون)

 يقول الله في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)  [ البقرة: 183]

 هذه أول جمعة من الشهر المبارك فالحمد لله الذي بلغنا رمضان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من خير عباده في خير شهر، وأن يوفقنا الى العمل الصالح الذي يرضيه عنا.

عناصر الخطبة:

أولا/ إدراك رمضان نعمة عظيمة.

ثانيا/ ثمرة الصيام الغالية : (لعلكم تتقون)

ثالثا/ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ.

 

أولا/ إدراك رمضان نعمة عظيمة

نحمد الله تعالى أن بلغنا رمضان ونحمد الله أن وفقنا لصيامه ونسأله أن يعيننا على صيام الشهر كله وعلى قيامه وعلى إدراك فضله جل وعلا.

فقد ثبت في الحديث عن طلحة بن عبيد الله: أن رجلين من بلي ( حي من قضاعة ) قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون؟

فقالوا: يا رسول الله؛ هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض.

وفي رواية: ( أَليسَ قد صام بعده رمضان ، وصلى ستَّة آلاف ركعة وكذا ركعة صلاة سنة ؟! ) . رواه أحمد بإسناد حسن وابن ماجه ، وصححه الألباني.

فقوله: (فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض) يعني من الأجر والفضيلة فهذه نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى.

 وقد سمعنا عن عدد من الوفيات في آخر أسبوع من شهر شعبان، فمد الله في أعمارنا وساقنا إلى هذا الفضل وبلغنا رمضان.

ثانيا/ ثمرة الصيام الغالية : (لعلكم تتقون)

إخواني والصيام ليس توفيرا للطعام ولا للشراب فالله سبحانه وتعالى قال في حكمة الصيام (لعلكم تتقون) وكثيرا ما نقرأ هذه الآية دون أن ننتبه لمعناها ما العلاقة بين الامتناع عن الطعام والشراب والتقوى؟

 هنا مسألة لابد من الانتباه اليها وهي مسألة مراقبة الله تعالى في السر التقوى معناها: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وهذا لا يكون إلا بأن تفعل ما أمرك الله به وتنتهي عما نهاك الله عنه.

 قد يكون الخوف من الرقيب البشري في بعض النفوس أعظم من رقابة الله- سبحانه وتعالى- لكن نحن نتربى في هذا الشهر على تقوية هذا المعنى أنت مع طول اليوم ربما تشعر بالحاجة إلى الطعام، ولكنك لا تستطيع أن تمتد يدك إلى طعام أو شراب ما الذي يمنعك؟ وأنت في بيتك لا يراك أحد إلا الله- سبحانه وتعالى- ما الذي يمنعك؟

 هذا هو الرقيب الإيماني هذه هي التقوى في أوضح صورها.

والناس هذا العام قاموا بضجة كبيرة على بداية الصيام متى نصوم ؟ متى الهلال؟ متى وقت الفجر؟ ومتى وقت المغرب؟ لماذا كل هذا التحري؟

 حتى يكون أمر الصيام منضبطا في أعلى درجات الضبط ؛ أمسك في الميعاد الذي أمرنا الله به، وأفطر في وقت المغرب بالضبط، أنا أحتاج إلى أن تكون عبادتي منضبطة إلى أقصى حد.

 بعد الفجر بخمس دقائق قمت من النوم لم تتسحر اشرب قليلا من الماء!!

 لا ما ينفع… لا أحد يراك… كلا ما ينفع.

 وحينما يطول النهار ويشتد الحر قبل المغرب بدقائق أمامك الماء البارد أمامك الطعام الشهي مد يدك … لا لا لا ينفع، لماذا؟ لم يؤذن للمغرب إلى الآن.

 هذه هي التقوى، فالتقوى أن يكون بينك وبين الحرام حاجز.

 ليس هناك شرطة لتطبيق الصيام على الناس في أي دولة من الدول من صائم؟ ومن مفطر؟ لا يستطيع أحد أن ينقب عن بواطن الناس صاموا أو أفطروا، فرقيبك هو الله- سبحانه وتعالى

هذا المعنى نستطيع بكل سهولة أن نفعله في كل أمورنا سواء رآنا الناس أو لم يرنا الناس، كنا في السر، أوكنا في العلن، هل أستطيع أن أمتنع عن الحرام؟

فرب العزة أراد أن يربينا على معنى تقوية الإرادة، لأن الإنسان عنده نوازع أو غرائز تتنازع معه فيما يحبه وما يألفه وما يكرهه وأصعب شيئا على النفس أن تفطمها عما ألفته، وأي واحد فينا لو امتنع عن الحرام لن يضره يعني -عافانا الله – نحن ما نشرب الخمر هل في واحد عنده مشكل في هذا الأمر يشتاق أو يتشوف إلى هذا الحرام؟ كلا ونعوذ بالله من ذلك.

 الخنزير حرمه الله، أكل الميتة (الحيوان غير المذبوح ذبحا شرعيا)، هل عندك مشكل في أن تأكل أو لا تأكل؟ هل عندك ضرر بالامتناع؟ كلا أنا لا أتضرر لكن الضرر يقع بالامتناع عن الحلال الذي ألفته النفس.

لماذا يكون الرجيم (النظام الغذائي للتخسيس) يكون صعبا وقاس عند الكثير من الناس؟

لأنه أمامه الطعام ولا يمد يده له، بإمكانه أن يأكل كما كان يأكل لكن يحاول ويجاهد حتى لا يفسد الرجيم الذي نواه لإنقاص وزنه، فالأمر صعب لأن فطم النفس عن مألوفاتها ليس سهلا، لكن إذا تعلق الأمر بطاعة الله فأنا كمسلم استجيب وأطيع وأصبر على طاعة الله، وعندي وقت أترقبه للإمساك ووقت للإفطار، وهناك مرضى وكبار سن يصومون بالكاد، ويتحملون ذلك طاعة لله، ويقول أحدهم أنا أستحي أن أفطر في الشهر الكريم.

فهذا كله تربية على التقوى أن أقدر على الحرام ولا أفعله، اتركه أو أتعفف عنه طاعة لله، فلا آخذ حقا ليس لي ولا أسرق ولا أغش لماذا؟ تقوى الله، خشية الله بالغيب.

ثالثا/ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ

ولذلك تأملوا معي قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ٩٤ [المائدة: 94]

كما نعلم يحرم على من أحرم بالحج أو العمرة أن يصطاد أي صيد فكان الصيد ابتلاء من الله، وكان الصيد سهل المنال (تناله أيديكم) أي يمسك الصيد بيده، ولكنه في الإحرام ممنوع من هذا الأمر فرغم قدرته على أن يمسك الصيد بيده ويذبحه ويأكله إلا أن الله حرمه عليه فامتنع.

 ما الحكمة من ذلك؟

 الجواب ) : ليعلم الله من يخافه الغيب) فمن أراد المعصية يذهب إلى مكان كذا، من أراد أي شيء فيه حرمة يذهب إلى كذا، الآن معنا الهواتف الذكية المتصلة بالإنترنت وفيها ما فيها من الحلال والحرام والخير والشر والأذى، وفيها ما فيها من الصور والمقاطع إلى آخره، أمامك بلمسة يد تفتح كذا وتغلق كذا وتتنقل من إلى … وتشاهد ….، ولا أحد سيقول لك ماذا تفعل؟

نفس الحال صيد تناله يدك ليس بعيد المنال لا يطلع عليك أحد إلا الله- سبحانه وتعالى- فصرنا في زمان الحرام فيه سهلا والفتنة في هذا تقع للصغير والكبير فهنا الابتلاء، نسأل الله تعالى أن يعافينا.

ولذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل: (اتق المحارم تكن أعبد الناس) من السهل أن أصلي، ومن السهل أن أصوم، ومن السهل أن أقرأ القرآن، وأتصدق لكن أصعب شيئا أن تحجز النفس عن الحرام!!

 هناك من نجح كثيرا في الصلاة وتلاوة القرآن والعمل الصالح ولم ينجح في معاملة الناس، لم ينجح في حسن المعاملة مع جاره مع والديه مع أخيه مع الناس في التجارة- سبحان الله-!

إذا قدر أن يظلم سيظلم ثم يقول: أنا حججت بيت الله الحرام!!

 يا أخي ما أسهل الحج لكن ما أصعب أن تتعفف عن المال الحرام ولذلك كان العلماء يقولون: ( ترك دانق من حرام أفضل عند الله من سبعين حجة نافلة ) دانق: الدرهم ستة دوانق (مثل السنت والدولار هنا) فترك ذلك يعني شيئا يسيرا يعني مثل خمسة سنتات.

فترك دانق من حرام أفضل عند الله من سبعين حجة نافلة!!! لماذا؟ لأن هذه أشد.

الحج سهل وجميل وروحانيات وإحرام: لبيك اللهم لبيك لكن أن تقدر يدك على الحرام وتمنعها هذا هو الصعب، أن تقدر عينك على الحرام وتمنعها هذا هو الصعب، أن يقدر لسانك على الحرام كالغيبة أو الكذب وتمتنع هذه هو الصعب.

فإذا كان البعض يقول ما أسهل الحرام في أيامنا تلك؟ أقول ما أعظم التقرب إلى الله بالتعفف عن الحرام هذا باب من أبواب العبادات العظيمة في زماننا النبي- صلى الله عليه وسلم- بيّن أن المتمسك بدينه في هذا الزمن كالقابض على الجمر.

 روى الترمذي وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم (. وفي رواية (قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون على الخير أعوانا)[1]

 لماذا لأن الحرام يغازل شهوات النفس وغرائزها ويحركها، ما الذي يحجزك؟ ما الذي يمنعك؟ رقابة الله خوفك من الله- سبحانه وتعالى فما أحوجنا في الصيام أن نتربى على هذا المعنى؟

 إذن تقوى الله في السر والعلن أن تجعل بينك وبين الحرام حاجزا أن تقدر على الحرام وتمسك نفسك عنه، هذا هو الهدف من الصيام. 

وقال النبي- صلى الله عليه وسلم– «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» وفي رواية أخرى: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل» والجهل أي: السفه وعمل أهل الجهالة.

 إذن الصيام ليس صيام البطن فقط بل كما علمنا العلماء أن يصوم سمعك وبصرك ويدك عن كل ما فيه أذى أو معصية

فمعنى الحديث أن الإنسان إذا صام ولم يدع الزور – وهو قول الباطل والكذب – وقول الزور والعمل بالزور؛ فليس لله حاجة في أن يمتنع عن الطعام والشراب وهو يقارف هذه الخطايا؛ لأن المقصود بالصيام هو حصول التقوى لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ١٨٣ [البقرة: 183] فإذا لم يثمر هذا العمل تقوى الله – عز وجل -؛ فإن الله – عز وجل – ليس محتاجًا لأن يعذب الإنسان نفسه بالامتناع عن الطعام والشراب وهو يقارف الخطايا.


[1] قال الحافظ ابن حجر :حديث ” للعامل منهم أجر خمسين منكم ” : لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية ، وأيضاً : فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل ، فأما ما فاز به مَن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم مِن زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة . ” فتح الباري ” ( 7 / 7 )

وقال شيخ الإسلام رحمه الله : وقد يكون لهم – أي : للمتأخرين – من الحسنات ما يكون للعامل منهم – أي : من الصحابة – أجر خمسين رجلاً يعملها في ذلك الزمان ؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك ، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا مَن يعينهم على ذلك لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقي يحصل مثله لأحد كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم ” لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه ” . ” مجموع الفتاوى13 / 65 ، 66

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 يناير, 2025 عدد الزوار : 14027 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

فقه الصيام

شرح مدارج السالكين