من مداخل الشيطان : ( الشيطان يعدكم الفقر )
ما زلنا نتكلم عن مداخل الشيطان الخفية التي يدخل بها على الناس فيضلهم .
ولقاؤنا اليوم سيدور حول قول الحق جل وعلا -( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم )- [البقرة/268]
الفقر هو قلة ذات اليد ،والشيطان لا يملك للإنسان رزقا ، ولا يملك له نفعا ولا ضرا ، فلا حول له ولا قوة ، فهو لا يقدر على أن يفقر أحدا أو يغنيه ، لكنه من وساوسه ومداخله على الإنسان ليسيء الظن بربه ، وليسخط على نعم الله ، وليظل في هم دائم .
فيدخل الشيطان على الإنسان من هذا المدخل ( الشيطان يعدكم الفقر)
( يعدكم ) أي شخص عندما يخبر بشيء فهذا يسمى “خبرا ” يقول لك : العام القادم كذا …الشهر القادم كذا …هذا خبر ، فإذا وقع الخبر كما قال نقول : هذا خبرصادق ، لكن لا يسمى هذا وعدا ، الوعد هو أن تعد بشيء أنت قادر على تنفيذه أو تسعى للوفاء به ، فهل الشيطان هنا وعد أم أخبر ؟
الشيطان هنا يخبر ، مجرد خبر يحتمل الصدق والكذب لكن لقوة تأثيره في النفس فإنه يصل عند البعض إلى مرحلة الوعد ، ويصدق الشيطان ويمنع يده عن الإنفاق ، هو يعدك بالفقر حتى لا تنفق شيئا ، فتستقل ما في يدك ، وتكون الدنيا أكبر همك وتكون مبلغ علمك فلا تسعى إلا للدنيا ولا تعمل إلا للدنيا ، فتصير إنسان أناني حريص على جمع المال لا تبالي بغيرك ولا بوسيلة جمع المال حلال أم حرام ؟ المهم أن المال ينمو ويزيد ، وأنا سعيد بهذا الذي يحدث.
ومن لفتات الإمام ابن القيم الرائعة في تفسير هذه الآية قال: فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم وهذا هو الداعي الغالب على الخلق فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير فغناك خير لك من غناه فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر الموارد كما قال:
دلاهم بغرور ثم أوردهم ** إن الخبيث لمن والاه غرار
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة ، فهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم .
( والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)
وفي المقابل يقول تعالى : ( والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) كثير منا بلسان حاله يصدق الشيطان فيما يعد وهو وعد كاذب ويتردد في وعد الله سبحانه وتعالى حينما قال ( والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) من نصدق ؟
هل نصدق الشيطان ووعده الكاذب؟
أم وعد الله الصادق المحقق بلا تردد ؟
إذن فمن أثر وسوسة الشيطان وتأثيره على بعض أصحاب الإيمان الضعيف ، أصبح خبر الشيطان عندهم كأنه وعد ، يوسوس لك : لو أكملت في هذا الطريق فهذا الطريق نهايته السجن ، نهايته الجنون …الخسارة والضياع …الموت والهلاك ….والشيطان لا يعلم الغيب ولا يعرف شيئا عن المستقبل فقط يوسوس ، ولايملك لأحد نفعا ولا ضرا ،لكن الناس يصدقونه ويستجيبون له .
من اللفتات البلاغية في الآية:
قال العلماء: إن ترتيب الجملة في اللغة العربية تبدأ بالفعل ثم الفاعل ، لكن هنا بدأ بالفاعل (الشيطان يعدكم) اسم الفاعل ابتدأت به الجملة وكأن المراد هو أن مصدر هذا الشيء المتصدر له هو الشيطان ، فحينما تجد توترا وقلقا وخوفا من المستقبل أومن خسارة مال أو فقر …الخ فاعلم أن مصدر هذه الهواجس هو الشيطان، فجاءت الجملة مصدرة باسم الفاعل للدلالة على أن الشيطان هو الذي يعد بالفقر.
والعلماء قالوا : في ترتيب الآية (يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) قالوا إن الأمر يشبه العصا ، فالعصا لها طرفان ( يمين ويسار) ووسط :
فاليمين: تمثل الرجل السابق بالخيرات الذي ينفق مما أعطاه الله سبحانه وتعالى كما في حديث ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)
الوسط : هو الذي ينفق الفضلة أو الرديء من ماله .
اليسار : هو الذي يمنع نهائيا.
فالشيطان يبدأ بالوسوسة لنقل المؤمن من درجة المسارع بالخيرات لدرجة الوسط الذي ينفق الرديء من ماله أو الفضلة ، تخلصا من تأنيب الضمير ، ثم يوصلك لتصديق وعده أن الفقر مقبل فيدفعك للمنع نهائيا فتصل بتصديق وعده الكاذب للمرحلة النهائية (ويأمركم بالفحشاء ) فتمنع كل واجب كالزكاة ونحوها.
فإذا أردت الإنفاق قال موسوسا لك : الأقساط كثيرة والديون والفواتير والحقوق وكذا ….فتستجيب لذلك مصدقا: نعم نعم أنا بالكاد أكفي نفسي !!!
فالشيطان يزحزحك من مرحلة السابق بالخيرات إلى الذي ينفق الرديء من ماله إلى مرحلة المنع النهائي لكل إنفاق .
معنى كلمة “الفحشاء”:
ومن هنا فسر كثير من العلماء معنى كلمة “الفحشاء” بالآية إلى أن المقصود بها هو البخل ، طبعا أول ما يرد على البال كلمة “الفحشاء” نفهمها سريعا على أنها الزنا ، لكن لغويا كلمة “الفحشاء” تطلق على كل ما فحش من القول والفعل السيء بدليل قوله تعالى : -( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم )- [آل عمران/135] ففسرها العلماء هنا بكبائر الذنوب ، ونقول : هذا أمر تفاحش ، أي كبر.
فالشيطان يتدرج بك من ترك الإنفاق المستحب إلى منع إخراج الواجب الذي افترضه الله عليك ، وهذا معنى ” ويأمركم بالفحشاء ” لأن منع الزكاة كترك الصلاة فهو كبيرة من الكبائر ، وكذلك منع النفقة الواجبة عليك لزوجتك وأولادك هو منع لفريضة افترضها الله عليك.
وأود أن أنبه على أمر وهو أننا من كثرة كلام علمائنا الأجلاء عن الترغيب في النفقة والصدقة المستحبة يظن أن الصدقة المستحبة أعلى أجرا من الزكاة ، كلا ، الفريضة أعظم أجرا من السنة ، الزكاة فريضة ، الإنفاق على الزوجة والأولاد فريضة ، وبالتالي فالأجر في هذه النفقة أعلى أجرا من الصدقات المستحبة .
فالتطوع في الصيام أو الصدقات أو الصلاة مهما بلغ لن يغني أبدا عن أداء الفريضة التي أوجبها الله ، وفي الحديث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كفى بالمرء أثما أن يضيع من يعول )
ولذلك من الحرمة بمكان أنه عند حدوث الطلاق يمنع الرجل نفقته على أولاده نهائيا ، رغم أنه مسؤول عنهم أمام الله ومأمور بالإنفاق عليهم ، لكن للأسف هناك من يحاول الانتقام من زوجته بالامتناع عن النفقة على أولاده فيمنع النفقة أو يقللها ، وينسى أن هؤلاء الذين ينتقم منهم هم أولاده!!!
وهنا يأتي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليوضح أن أعظم النفقة أجرا نفقتك على أولادك وأهلك يقول : (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ ) لماذا ؟ لأن النفقة على المسكين وفي سبيل الله تطوع ؛أما النفقة على الاهل فهي فريضة ، ولذلك أنت حينما تذهب لشراء طعام أو ملابس أو ما شابه ذلك من نفقات المعيشة احتسب هذه النفقة عند الله ، فهي أعظم أجرا من النفقة لإطعام مسكين أو فقير لأنها نفقة واجبة ، أوجبها الله عليك .
والرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لسعد بن أبي وقاص : (وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجهَ اللَّه إلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فيِّ “فم” امرأَتِكَ ) فإذا كان لك في اللقمة أجرا فما بالك بتكاليف المعيشة والنفقة على زوجتك وأولادك .
والنفقة تكون بلا إسراف ولا تقتير كما قال تعالى : -( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما )- [الفرقان/67]
عمل الزوجة :
وبعض الأزواج يمتنع عن النفقة على أولاده لأن الزوجة تعمل فكلما طلبت منه شيئا قال لها أنت معك أنفقي أنت !!
طبعا لا مانع من التفاهم بين الرجل وزوجته على المشاركة في نفقات البيت لكن يكون ذلك بالتراضي والتشاور ، ولا يتحصل على مالها بسيف الحياء أو يهددها بالطلاق !!!
فأنت أمام الله المسؤول عن هذه الأسرة ، والزوجة ليست مسؤولة أن تنفق على نفسها ولا على أولادها.
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا :
نضرب مثلا لرجل معه ألف أخرج زكاتها 2.5% فمعنى ذلك أن الألف نقصت 25، لكن هذا النقص الظاهر هو بركة للمال كله فقد وعد الله المنفقين بالتوسعة والخلف قال تعالى -( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين )- [سبأ/39] فعندنا في الصدقة أجران : دنيوي وأخروي.
دنيوي : وهو الخلف والبركة، وتطهير النفس من الصفات الذميمة كالبخل والكبر والأنانية ، وهذا معنى قول الله تعالى -( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)- [التوبة/103] فالتزكية هنا بتطهير النفس وتطهير المال مما قد يشوبه من الحرام بدون قصد.
الغني الذي يعيش وهو يمنع ويبخل هذا يعيش تعيسا لأنه خائف من إخوته أن يحسدوه ، أو أنهم يتمنون موته ، أو يتآمرون على سرقته ، يخاف من أصدقائه من عماله ، لكن السعادة الحقيقية أن ينفق ويخرج حق الله الواجب عليه فيسعد بسعادة من أحسن إليهم ويكون بين الناس محبوبا، فمن أسعد خمسة تضاعفت سعادته خمس مرات ومن أسعد عشرة أو مئة وهكذا كلما أسعدت الناس أسعدك الله ، وهذا الأمر توصل إليه الأطباء حديثا أن من أسباب علاج الاكتئاب إدخال السعادة على الآخرين .
ربح البيع أبا يحيى :
لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، قائلين أتيتنا صعلوكا( فقيرا) ، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى، ربح البيع» قال: وتلا عليه الآية التي نزلت فيه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [البقرة: 207]
أما الثواب الأخروي: فهو الثواب الجزيل من الله ، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- “إنَّ اللهَ يقبلُ الصدقةَ ويأخذها بيمينِهِ فيُرَبِّيها لأحدكم كما يُرَبِّي أحدكم مهرَهُ حتى إنَّ اللقمةَ لتصيرُ مثلَ أُحُدٍ “
رؤيا صادقة لرسول الله :
حكى لي أحد الإخوة الصادقين هذه الرؤيا قال : ” رأيت كأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في مكان والناس يأتون فيستأذنون للدخول عليه، وحينما أردت أن أدخل عليه إذا بالواقف على الباب زميلي في العمل، فاستأذنته فأذن لي فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلست مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مدة من الوقت ، ثم استيقظت وأنا أتساءل ماذا بينك وبين الله يا فلان ؟ أقصد زميلي الذي كان يقف بوابا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا، فلما أصبحت وذهبت إلى العمل ، قلت له عندي لك بشارة كبيرة فقد رأيت لك رؤيا طيبة لكن أخبرني ما هو العمل الذي تقوم به حتى صار لك مكانة كبيرة عند الله ؟ فقال له : أنا كما تراني إنسان عادي ، لكن أخي توفى منذ عدة سنوات فلما توفى ضممت عيال أخي إلى عيالي أنفق عليهم كما أنفق على أولادي بلا تفرقة ، فبشره بالرؤيا قائلا : بهذه بلغت درجة أن تكون بوابا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إذن فنحن نصدق وعد الله لا وعد الشيطان ، ونبذل مالنا لله ونحن على يقين أن الله هو المعطي ونحن أسباب نناول المال لمن يحتاجه أو أوجب الله علينا نفقته .