وَلِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا كَانَ بِقَدْرٍ كَانَ نَافِعًا مُنْبِتًا، وَإِذَا جَاوَزَ الْمِقْدَارَ كَانَ ضَارًّا مُهْلِكًا، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا الْكَفَافُ مِنْهَا يَنْفَعُ وَفُضُولُهَا يَضُرُّ.
ربيع العمر :
والإنسان فينا -كما قلت- حينما يرى هذا المشهد يرى أيضا مع حقيقة الدنيا حقيقة عمره، فالإنسان فينا يبدأ ضعيفا ثم يقوى ويصير شابا، ثم يبدأ في الضعف مرة أخرى، سنة الله عز وجل، حتى في التعبيرات الشائعة بيننا نقول عن الشباب: ربيع العمر، ونقول عن التأخر في السن: خريف العمر سبحان الله العظيم !!!
وفي القرآن قوله تعالى : -( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير )- [الروم/54] فالمسلم فينا حينما يرى نضرة الشباب والصحة والقوة فلا يغتر بما أعطاه الله عز وجل ، إنما يدخر في شبابه لهرمه كما قال النبي في الحديث السابق (اغتنم شبابك قبل هرمك )، وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عباس فقال : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ) فإذا حفظت الله في شبابك حفظك الله في شيخوختك، إذا حفظت أعضاءك في الشباب حفظها الله عليك في الكبر، والعكس من ذلك إذا خالفت وفرطت وضيعت فإن الله -سبحانه وتعالى – يجعل جزاء ذلك في شيخوختك، ويتوب الله على من تاب ، لما كان محب الدين الطبري في الثمانين من عمره وثب يوما وثبة شديدة من السفينة دون أن ينتظر أن يضعوا شيئا ليمر الناس عليه ، فعوتب في ذلك فقال : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر .
فهذه أمانة في الشباب ربيع العمر أن تحافظ على ما أعطاك الله فلا تجعل نعمه في معصيته ، ولا تجعل أمانته التي ائتمنك عليها أمانة جسمك أمانة صحتك أن تفعل أشياء تهلك بها صحتك أو تضيع بها عافيتك، ثم بعد ذلك يكون الحصاد في خريف العمر سبحان الله العظيم !!!
فمن حفظ الله في شبابه وصباه حفظه الله في شيخوخته سبحان الله العظيم !!! وهذه مسألة عجيبة رأيناها بأعيننا ، رأينا من ضيع وفرط كيف صار في شيخوخته لا حول له ولا قوة ، ورأينا من حفظ واتقى كيف صان الله له عقله وحفظ عليه صحته ، وهذا كله من فضل وبركة الطاعة والعمل الصالح في الصغر.
خريف العمر:
ليس معنى كلامي أننا نقول :إن من بلغ خريف العمر تسود الدنيا في وجهه، ويغلق على نفسه باب بيته، وانتهت الحياة بالنسبة له ، وهذه ثقافة موجودة عندنا في بلادنا العربية أن الرجل إذا بلغ الخمسين ، أو تجاوزها بقليل يشعر وكل من حوله يشعرونه باقتراب الموت، وحسن الختام ، بينك وبين القبر خطوة ، أغلق باب بيتك ، استعد للقاء الله ، أنا أريد أن أفعل آخر أمنية في حياتي أن أحج بيت الله الحرام ايه حسن الختام ، الله المستعان
وتجد حتى بعد أن تفرق أبناؤه كلُّ تزوج وصارت له حياة يطمئنون عليه؛ ليس من باب الاطمئنان على صحته وكذا؛ إنما يطمئنون هل مات أم ما زال حيا ، ما زال الوالد بخير ما زال حيا يرزق ؟؟؟ لا إله إلا الله .
فهذه الأمور عجيبة في بلادنا وثقافتنا أننا ظننا أن الإنسان إذا بلغ خريف العمر انتهت حياته ، كلا الله عز وجل قال -( ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر )- [الحج/5] فهناك من يموت شابا وهناك من يموت شيخا أو هرما ، والأعمار كلها بيد الله -سبحانه وتعالى –
تعلمنا من الناس هنا بكندا أن الحياة لا تتوقف؛ في عواصف في ثلوج في حر أو برد الحياة لا تتوقف ، تعلمنا مهما بلغ الإنسان من العمر فما زال في الدنيا يلعب رياضة يجري ، يركب دراجة ، يتعلم يحصل على شهادات إنجازات …يكوّن شركة مشروع جديد …وهكذا إلى أن يموت ، رأينا من يبلغ سن التقاعد في هذه البلد ستين أو خمسة وستين سنة ويرفض أن يترك العمل، ويجلس في بيته، حتى لا يكون ذلك سببا في اكتئابه وانعزاله عن الدنيا ، بل يريد أن تستمر حياته وتتجدد، حتى وإن بلغ ما بلغ من العمر ، فالحياة لا تتوقف الحياة لا تنتهي الحياة مستمرة .
وهكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه الوحي وهو ابن الأربعين وظل بمكة حتى سن الثالثة والخمسين بعدها هاجر إلى المدينة فأسس دولة كبيرة ضخمة خاض فيها ثمانية وعشرين غزوة جاب الأرض شرقا وغربا وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الثالثة والستين وقد بسط الله عز وجل بفضله وكرمه الإسلام على شبه الجزيرة العربية، وصارت كلمة الإسلام مسموعة، وكلمة دولة الإسلام مرهوبة من الجميع، ثلاثة وستين سنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعرف يوما معنى أن يكل أو يهدأ ، أو يأخذ إجازة أو يتقاعد ويجلس في بيته، أو أن يوكل غيره للعمل سبحان الله العظيم !!! وهذا كله تعليم وتربية لنا .
وعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) فسيلة غرس نخلة لن تثمر إلا بعد عشرين سنة تقريبا ، اغرسها حتى وإن قامت القيامة،إذا يئست من ثمرة العمل أن تحصلها ؛ فلا تترك العمل ، عسى أن تنفع ثمرته غيرك ، فلا يقتصر همك في الحياة على مجرد حاجاتك ، ولكن اعمل لك ولمن بعدك ،ولا تفرط في خير تقدر أن تفعله .
إذن الشاهد من هذا الكلام أن الإنسان فينا إذا أنعم الله عليه الآن بنعمة الشباب فلا يغتر بهذه النعمة ويفرط ويضيع فإن العمر أمامه سيجني فيه حصاد ما زرع، وإذا كنت في مرحلة خريف العمر فليس معنى ذلك أنك تكتب شهادة وفاتك بيدك، أو تسجل وصيتك استعدادا لأنك ستموت غدا إنما اعمل، وكن عالي الهمة، فالمسلم لا يعرف الكسل، ولا النوم في العسل، لا يعرف التثاقل ولا التكاسل، ولا أن يأخذ من الدنيا إجازة وينعزل منتظرا ملك الموت أن يدق عليه الباب فيفتح له فيلبي نداء الله، كلا إنما لآخر نفس نعمل حتى نكون في مرضاة الله ويتوفنا الله حين يتوفنا وهو راض عنا .
وورد في الأثر وهي كلمة تنسب لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)
فلولا الأمل عند الإنسان لضاقت به الحياة ، اعمل واجتهد واسعَ .
الفرق بين الطموح والطمع :
الطموح أن تحب الزيادة في مالك ممتلكاتك تأمن مستقبلك ومستقبل عيالك ، تخطط لعشر سنين لعشرين ، لا حرج في ذلك ولا حرمة .
أما الطمع أنك مهما أعطاك الله فلا تقنع، مهما ينعم الله عليك تسخط، لا ترضى عن الله، ولا عن أوضاعك، ولا عن رزقك، فهذا الطمع الذي نهينا عنه عافنا الله من سيء الأخلاق .
أما الطموح والهمة العالية والتخطيط للمستقبل واستشرافه بالإعداد والتدبير هذا كله مع ما تعلمناه من نبينا -صلى الله عليه وسلم-
إذن إخواني وأحبابي فحينما يبلغ الإنسان خريف العمر صارت عنده خبرة في الحياة ، وتغيرت نظرته للحياة لم يعد عنده غرور الشباب ، وصارت له بصيرة في الأمور ورؤية في علاج المشكلات وتجاوزها ، وصارت الدنيا هينة عنده لا شيء بالنسبة له يمر على الأمور فلا يبالي ولا يغتم الليالي على كلمة قيلت له أو خسارة تعوض أو شيء يدرك إنما صار عارفا بالدنيا كالواقف على قمة جبل ينظر وراءه فيرى سنينه التي مرت فيستفيد منها ويعتبر وينظر أمامه فيرى المستقبل المشرق ويرى التخطيط والإعداد للمرحلة القادمة من حياته بلا تباطؤ ولا تكاسل .
بلغ أشده وبلغ أربعين سنة:
وقد ذكر الله في سورة الأحقاف مرحلة بلوغ الأربعين وأرشدنا إلى ما نفعل فيها فقال تعالى : -( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين )- [الأحقاف/15]
بلغ أشده سن العشرين أو الخامسة والعشرين ، والبعض يفهم أن بلوغ الأشد يكون في سن الأربعين ؛ هل معنى ذلك أن ما قبل الأربعين كنا في سن الطفولة ؟ أبدا لأن الواو في اللغة العربية تفيد التغاير، فسن الأربعين غير بلوغ الأشد ، فلما يبلغ العبد سن الأربعين ينظر فيجد نعم الله عليه ، نعمة الإسلام والحمد لله ، ومن نعم الله عليك أن يكون والديك ما زالا على قيد الحياة، فإن كان والديك أحدهما أو كليهما على قيد الحياة فانعم ببرهما وفز بدعواتهما، واحرص على ألا يتركا الدنيا إلا وهما راضيان عنك، طوبى لمن مات والداه وهما راضيان عنه يدعوان له الوالد كنز كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (الوالد أوسط أبواب الجنة ) ولفظ الوالد يشمل الأب أو الأم، فبر الوالدين يستوجب به العبد دخول الجنة من أوسط أبوابها ،فإذا أنعم الله عليك بوالديك أحدهما أو كليهما ما زالا على قيد الحياة فاظفر ببرهما وفي الحديث ( رغم أنف امريء أدرك والديه أحدهما أو كليهما ولم يدخلاه الجنة ) ومعنى رغم أنفه يعني ألصقت بالرغام وهو التراب إشارة إلى الخسران .
(قال رب أوزعني )أوزعني: ألهمني، أو وَفِّقني ( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه )أن أستقبل ما تبقى من حياتي بالعمل الصالح فإن كنت فرطت وضيعت في القديم فإني إن شاء الله أدرك قيمة العمر وأدرك قيمة الوقت فيما استقبله من حياتي .
لا إله إلا الله، كنا في الصغر نستعجل أن نكبر، وأن يكون الواحد منا مسؤولا عن بيت وأسرة ، الآن بعد أن تجاوزت الأربعين تمسك بعمرك حتى لا يفلت منك ، أيام تجري سريعا سريعا سنوات تمر سريعا، فيرى الإنسان منا عمره يجري دون أن يدري .
ثم تدعو لأولادك، فأنت في هذه السن أولادك الآن في مرحلة المراهقة أو الشباب صاروا رجالا والحمد لله فتدعو لذريتك (وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين )- [الأحقاف/15] تدعو الله لهم أن يصلحهم دنيا ودين وأن يصلح الله بهم وأن يجعلهم صالحين مصلحين .
خريف الدول والأمم:
أخيرا إخواني ، ينبغي على المسلم أن يعلم أن الخريف كما أنه في الزمان، وكذا في عمر الإنسان؛ فإن الخريف أيضا يكون في الأمم، فلا تبقى أمة قوية دائما وكذلك لا تبقى أمة ضعيفة دائما ، وما نراه من ظلم أو طغيان أو فجور في بعض من ولاهم الله الأمور فهذا حال لن يدوم ، فالله تعالى له تدبير يعجز البشر عن إدراكه أو وعيه ، لكن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن الله لا يعجل بعجلة أحدكم ) الله له تقدير وتدبير ، لكن ما نوقن به أن الله جعل سنة التداول -( وتلك الأيام نداولها بين الناس )- [آل عمران/140] تجد أمة في ربيعها وقوتها ، ثم تدور الأيام فتراها في مرحلة الخريف ضعف وتساقط وتلاشي بظلمهم ومعاصيهم وتقصيرهم في حق الله -سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: -( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون )- [الأنعام/42] أخذهم الله بسننه التي تجري على جميع العباد .
على الهامش(لم تذكر في الخطبة)
ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه
عندما فتح المسلمون جزيرة قبرص بكى أبو الدرداء ، فقيل له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله!
فقال أبو الدرداء: بينما هذه الأمة قاهرة ظاهرة، إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى، ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه.
نعم ما أهونهم على الله ، لو أضاعوا أمره..!! فبينما هم في عزة وتمكين وقوة وجبروت صاروا إلى ما ترى.