من السنن الإلهية: قانون الهدى والضلال
ما زلنا نواصل الحديث عن السنن الإلهية؛ وقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن سنة الله في قانون الأخذ بالأسباب، وأن عبادة القلب هي التوكل على الله، وعبادة الجوارح هي التفاعل مع الكون بالأخذ بالأسباب. اليوم نتحدث عن :
قانون الهداية والضلال
قانون الهداية والضلال من القوانين التي جاء ذكرها في القرآن الكريم في آيات عدةوكذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أولاً/ هدى الله هو الهدى:
فمصدر الهدى لا يكون إلا من الله، قال تعالى: (وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)[الحج :54] فليس هناك هدى إلا هدى الله، “قل إن هدى الله هو الهدى”[البقرة، الآية 120]، وهدى الله عز وجل جاء في الدين والشريعة الخاتمة التي ارتضاها الله تعالى لعباده، قال جل وعلا: “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله”[سورة التوبة، الآية 33، أو سورة الفتح، الآية 28.]
فمن ادّعى أن الهدى في غير طريق الله فإنه كاذب وواهم.
فإما هدى مرتبط بمنهج الله، وإما اتباع هوى مرتبط بالشيطان، قال تعالى: “فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم”[سورة القصص، الآية 50.] إما أن تتبع الهدى ودين الحق، وإما أن يكون الشخص متبعاً لطريق الضلالة، ليس هناك شيء آخر. “يا داوود، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله”[سورة ص، الآية 26.]
هداية البيان وهداية التوفيق:
الله سبحانه وتعالى تكفل بأن يجعل لعباده جميعاً هداية البيان. ما معناها؟
أن يرسل رسولاً يبين للناس مراد الله من خلقه؛ فيكون الرسول حجة الله على جميع خلقه كما قال تعالى: “رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل”[سورة النساء، الآية 165] و “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً”[سورة الإسراء، الآية 15.]
فهذه هداية بينها الله تعالى، أنه لن يؤاخذ أحداً ولن يعاقب أحداً إلا إذا بلغته الحجة وتبين له السبيل. فمن استجاب لهداية البيان، فإن الله وعده بهداية التوفيق والإعانة، ومن أعرض عن الله ومنهجه، فإن الله توعده بالخذلان والإضلال.
من قبل هداية البيان سدده الله تعالى بهداية التوفيق والإعانة، وهذا معنى قول الحق تبارك وتعالى: “والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم”[سورة محمد، الآية 17] وبيّن الله عز وجل عن عباده المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، قال: “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم”[سورة محمد، الآية 2]
وفي الحديث القدسي، بيّن الله عز وجل أن العبد إذا أقبل على الله تعالى أقبل الله عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.”رواه البخاري ومسلم.
وليس المقصود هنا حقيقة الذراع والشبر، وإنما المقصود أنك كلما أقبلت على الله أقبل الله عليك بالعون والمدد والإعانة والتوفيق.
وهكذا لما أُهبط آدم وحواء من الجنة وكلمهم الله عز وجل، قال: “قلنا اهبطوا منها جميعاً، بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً”[سورة طه، الآيات 123-124.]
إذن هنا هداية الإعانة والتوفيق؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى نفى أن من يتبع هدى الله يضل، أنت على الطريق الصحيح، فلا تضل ولا تشقى.
هذا قانون عام لجميع البشر، من اتبع الله وطريق الله فلا يخطئ طريق السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، ولا يشقى في الدنيا ولا في الآخرة.
والشقاء نوعان:
- شقاء الجسد
- وشقاء الروح.
شقاء الجسد: يشترك فيه جميع الخلق، الشقاء هو التعب الشديد كما يقول المفسرون، فالإنسان يصيبه الجهد والتعب في المعيشة والسعي في طلب الرزق وما شابه ذلك، هذا يشترك فيه الجميع المؤمن والكافر، لأن الله تعالى قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد 4]
كبد يعني في مشقة ومعاناة من ساعة ميلاده إلى أن يموت، لأن الدنيا ليست دار السلام وليست دار النعيم، والجسد حينما يشقى ويتعب يحتاج إلى الراحة، يحتاج إلى الطعام والشراب، يحتاج إلى النوم، يحتاج إلى أن يرد عن نفسه ما يؤذيه، وأن يجلب ما ينفعه، وهذه مسألة فطرية، الخلق جميعا يسعون إليها ويطمعون فيها.
أما شقاء الروح: فهذا لا يشعر به إلا من كفر بالله وأعرض عن طريق الله، أما سعادة الروح فإنها سعادة لا يجدها إلا من سلك طريق الله، وهذا معنى الآية: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) هذه الآية في سورة طه، في أول السورة رب العالمين قال لنبينا: ﴿طه مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ﴾ [طه: 1-2] فالشقاء هنا المقصود به الروح، شقاء الدنيا والآخرة بأن يظل الإنسان في حالة ضيق دون أن يعرف السبب.
ما هو الفارق بين الأمرين؟
الفارق بين الأمرين أن شقاء الجسد كما قلت ذهاب هذا الشقاء في الراحة والاستجمام وإذا كان جائعا يطعم إذا كان في برد يستدفئ إلى آخر هذه الأمور.
أما شقاء الروح فإنه متعلق ببعدها عن الله- عز وجل-، ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا ﴾ [طه: 124] والأعراض هنا هو أعراض الكفر والعصيان، والضنك هو الشيء الضيق، والمقصود هنا أن معيشته تكون خانقة، دائما يشعر بالضيق يشعر بالقلق بالتوتر يفكرفي الانتحار يفكر في الموت يفكر في الخلاص من هذه الحياة المجهدة رغم أنه ربما يملك من المال الكثير ومن أسباب الرفاهية الكثير والكثير، وهذه النقطة مهمة جدا غفلت عنها البشرية في عصرنا الحالي، كل المشاكل تفسر تفسيرات مادية بحتة، ونغفل عن أهم جانب وهو جانب الروح، هذه الروح صلاحها وعلاجها بأن تأخذ بهداية ربها( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)
“ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً”.هذه عقوبة الخذلان؛ ما معنى الخذلان؟ أن الله يكلك إلى نفسك، والعياذ بالله. نسأل الله العافية؛ فتكون المعيشة ضنكاً، والضنك هو الضيق الشديد من كل شيء، فتجده دائماً، مهما نجح، يشعر أنه فاشل، ومهما حقق من ثراء وغنى، يشعر أنه فقير، ومهما قام بإنجازات كثيرة وكثيرة، يشعر أن هناك شيئاً كبيراً ينقصه ولا يجد طعماً للسعادة، ولا هدوء، ولا راحة بال.
قال تعالى: “من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون”[سورة النحل، الآية 97.]
الحياة الطيبة ليست كما يظن البعض أنها تكون بالغنى والكثير من المال ووسائل الراحة والترفيه، فهذه راحة الجسد التي جعلها الله بقانون الأخذ بالأسباب.
أما الحياة الطيبة فهي مرتبطة بالله وبمنهج الله سبحانه وتعالى؛ الحياة الطيبة هي السكينة في القلب، الحياة الطيبة هي الطمأنينة، الحياة الطيبة هي الارتباط بالله عز وجل في كل أحوالك وفي كل أمورك، فانت سعيد بالله وبصلتك بالله عز وجل.
“ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم”[سورة الحجرات، الآية 7.]
إذن القرب من الله سبحانه وتعالى معناه السعادة في الدنيا والآخرة، فلا يضل ولا يشقى، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. “فلنحيينه حياة طيبة”، وهكذا الآيات كثيرة في القرآن تبيّن أن القرب من الله سبحانه وتعالى مصدر للراحة والأمن والطمأنينة والسعادة في هذه الدنيا، بل وفي الآخرة إن شاء الله.
أما الإعراض عن منهج الله، “فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، نسوا الله فنسيهم”[سورة الصف، الآية 5.] و “ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون”[سورة الحشر، الآية 19.] و “ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً”[سورة الكهف، الآية 17.]
والآية التي معنا: “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً”.
الشكر عند النعمة والصبر عند المصيبة:
ليس معنى كلامي أن المؤمن حياته كلها رغد وحياة جميلة وطيبة بالمعنى الظاهر الدنيوي، إنما أقصد أنه حتى وإن تعرض المؤمن للشدائد، فهو مرتبط بالله، وهذه سنة الله أن الابتلاء يسري على الجميع.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: “عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” رواه مسلم
تأملوا يا إخواني، الرسول يقول: “وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن”، سبحان الله، سبحان الله!
يعني لو جئنا بأحد الإخوة في غزة وقد أصابهم ما أصابهم، صبّ عليهم البلاء صبًّا، ما من أسرة إلا وفيها ليس شهيد واحد، بل شهداء، تتحدث عن شهداء، تتحدث عن مئات، ما من أسرة إلا وصبّ عليها البلاء صبًّا.
والله لولا أن الإيمان في قلوبهم كالجبال لانتهوا منذ زمن. أي رجال هؤلاء! أي قوم هؤلاء! يثبتون تحت قصف وابل النيران والتجويع والحصار، والعالم – للأسف الشديد – ضدهم، يمنع عنهم كل وسائل الحياة.
ينتقلون من هنا إلى هناك، والموت يطاردهم، ويتناقص عددهم حينًا بعد حين، يومًا بعد يوم، وتجد كلمات الحمد والشكر والطمأنينة على ألسنتهم.
والله تعجب لحال هؤلاء.
لعل الكثير منا عاش لحظات موت حبيب أو قريب له، وفاة والد، وفاة الوالدة، وفاة أخ، وفاة صديق، وفاة حبيب. فما بالنا بهم وهم يوميًا إمّا أن يودعوا أباهم أو أمهم أو إخوتهم أو أبناءهم، أو أن الزوجة تودع زوجها أو أقاربها. هكذا يوميًا، شهداء، شهداء، شهداء. فلولا أن الله ربط على قلوبهم، ورزقهم اليقين بأن هؤلاء الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، لانتهى أمر أهل غزة منذ زمن. لكنه الإيمان، يا إخواني.
الإيمان حينما يتمكن من القلوب يجعل الله به السكينة، ولذلك قال النبي: “وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن”.
أما الآخر، الذي ليس في قلبه إيمان بالله، فإن أصابته ضراء، ماذا يفعل؟ يسخط ويقنط ويجزع ويبذل ماله، فإذا فشل في ذلك، أول أو أسرع شيء يفكر فيه هو الانتحار.
منذ عدة سنوات كان هناك ملياردير في سويسرا أصيب بالسرطان من المرحلة الرابعة؛كما تعلمون، ساعاته وأيامه معدودة؛ فجمع الأطباء الذين يعالجونه وقال: “إلى متى سأعيش على المورفين؟ إلى متى؟” قالوا: “إلى الموت، ليس هناك حل.” قال: “فالآن، الآن، أريد أن أموت الآن. لم تغنني أموالي ولا كنوزي عني شيئا”، فأخذ الحقنة التي يسمونها “حقنة الرحمة”، وهي طبعاً قتل للنفس.
لكن ما الذي يستدعي أن يعيش هذا الرجل من أجله؟ هو غير مؤمن بالله، فلماذا يعيش أصلاً في نظره هذه الحياة القاسية؟ لم تنفعه أمواله بشيء.
الدكتور خالد حنفي ذكر مرة أن ممرضة في ألمانيا جاءت لتعلن إسلامها، فسألوها عن السبب. فقالت: “كانت عندنا في المستشفى امرأة مغربية، أصيبت بالسرطان من الدرجة الرابعة وكانت تتألم أشد الألم. ومع ذلك، كنت أسمع منها كلمة واحدة: ‘الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.’ كنت أدخل لأثبتها أو أعطيها بعض الكلمات الإيجابية، فلا أجد منها إلا الرضا على لسانها وأنها راضية عن الله وعن قضاء الله، حتى لقيت ربها عز وجل. رحم الله جميع موتانا.
فقذف الله الإيمان في قلب هذه الممرضة لما رأته من ثبات هذه المرأة، وجعلها تتساءل: “امرأة في قمة الألم الشديد المتواصل ليل نهار وتحمد ربها وتشكره، كيف ذلك؟ ما هذا الدين العجيب الذي يصل بالإنسان إلى أن يتعايش مع الألم بل ويرضى ويحمد الله عليه؟” فعلمت ما هو الإسلام وجاءت لتعلن إسلامها.
فإذاً “ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن”. لو قرأتم أسباب الانتحار مثلاً والأمراض النفسية الكثيرة في عصرنا، ستجدون أنها قد تكون بسبب فشل في التجارة، أو خسارة كبيرة، أو فشل في التعليم، أو فشل في الحياة، أو الإصابة بمرض لا علاج له، أو فقدان حبيب، أو خيانة. هؤلاء لا يجدون للحياة معنى؛ فالأمل عندهم كان تحقيق النجاح بالمكاسب، والآن خسروا كل شيء.
أما المؤمن، فهو يعلم أن هذه الدنيا ليست الجنة، فوطن نفسه على الابتلاء. في النعمة يحمد الله ويشكره، وإن أصابته المصيبة يمجد الله ويحتسب ما هو فيه عند الله. اشتد المرض، اشتد البلاء، ذهب المال، يعلم أن كل هذا يدخره الله عنده أجراً مضاعفاً في الجنة: “إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب”.
ولذلك كان النبي ﷺ يعزي من أصيب بمكروه قائلاً: “إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى”. هو الذي أعطى هذه النعمة، وهو الذي أخذها. هو المالك جل جلاله لكل شيء: “إن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار”. فلتصبر ولتحتسب، اصبر لله واحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
ولما فقد النبي ﷺ ولده إبراهيم، قال: “إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي الله”. هذا الطفل الصغير، ابن النبي ﷺ، يقبض الآن بين يديه، ومع ذلك يقول: “ولا نقول إلا ما يرضي الله”، ثم يعلن الاستسلام الكامل لله: “إنا لله وإنا إليه راجعون”. كلنا ملك لله، وكلنا راجعون إليه.
الخلاصة:
قانون الهدى: من اهتدى وأقبل على الله أقبل الله عليه، ووعده بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ووعده بألا يخاف مما يستقبله من أمر الآخرة، وألا يحزن على ما مضى من الدنيا، ووعده الله بالسكينة والطمأنينة، ووعده ألا ضلال ولا شقاء.
أما الإعراض عن الله عز وجل، فالله بيّن أن من أعرض، أعرض الله عنه، وأن من خالف هدى الله فقد سلك طريق الضلالة، وأن هذا المعرض عن الله يصيبه الله بالخذلان وعدم التوفيق، وتتبعه الشياطين وأصدقاء السوء، وتراه دائماً في ضيق وشقاء وهمّ لا ينقضي ولا ينتهي.
هذا هو قانون الهداية والضلال كما بيّن لنا الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا هداةً مهتدين، لا ضالين ولا مضلين. اللهم آمين.