رسالة إلى من بلغ الأربعين من العمر
سن الأربعين هو سن اختصه الله تعالى بالذكر في سورة الأحقاف، فقال:﴿حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]
ما هو الأشد؟
بلغ أشده سن العشرين أو الخامسة والعشرين، أو الثالثة والثلاثين على أقوال عدة للمفسرين، وقد جمع بينها الإمام الزهري بقوله : بُلُوغ الأشد يكون من وقت بُلُوغ الإنْسان مبلغ الرِّجال إلى أرْبَعِينَ سنة.
والبعض يفهم أن بلوغ الأشد يكون في سن الأربعين ؛ هل معنى ذلك أن ما قبل الأربعين كنا في سن الطفولة ؟
كلا لأن الواو في اللغة العربية تفيد التغايرفي المعنى؛ فبلوغ الأشد غبر بلوغ الأربعين.
(وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ) لماذا سن الأربعين بالذات؟
اختصاص سن الأربعين بالذكر في هذه الآية الكريمة دليل على أنه سن النضوج العقلي وكمال العقل والفهم، وذروة تمام نعمة الله على الإنسان في كمال القوى التي منحه الله إياها، ومعناه أنك قطعت شوطا كبيرا في الحياة، بداية من الطفولة والصبا إلى الشباب حتى تصل إلى آخر مراحل الشباب وبداية مرحلة الشيخوخة.
ليس المقصود من الكلام أنك أصبحت عاجزا ضعيفا، إنما المقصود أنك الآن تنظر إلى الدنيا نظرة غير النظرة اللي كانت من قبل، فعندك الآن نضج في الفكرة، ونضج في الرؤية، وعندك بصيرة تنظر إلى ما مضى من عمرك وقد أدركت الصواب من الخطأ، أدركت العجلة من الأناة أدركت أنك الآن لن يمضي عليك بعد الأربعين مثل ما انقضى من عمرك.
وهذا أيضا سن تنزل الوحي على النبي- صلى الله عليه وسلم-.
والإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- ظل يجمع الحديث ولم يجلس للتحديث إلا بعد أن بلغ سن الأربعين، قال هذه السن التي أوحي فيها إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
سن الأربعين أنت كالواقف على قمة جبل، ينظر مرة إلى الطفولة والصبا وينظر مرة إلى ما يستقبله من عمره.
في سن الأربعين بدأ الشيب يخط في لحيتك وفي شاربك وفي رأسك.
في سن الأربعين عندك أسرة وعندك أولاد فهل أديت حقهم ورعيتهم كما ينبغي؟ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
في سن الأربعين وقد اقتربت من لقاء ربك ماذا قدمت لآخرتك؟ ماذا قدمت لدينك؟
الإنسان يسأل نفسه هذه الأسئلة ماذا أنجزت وحققت؟
سبحان الله، كنا في الصغر نستعجل أن نكبر، وأن يكون الواحد منا مسؤولا عن بيت وأسرة ، الآن بعد أن تجاوزت الأربعين تمسك بعمرك حتى لا يفلت منك ، أيام تجري سريعا سريعا سنوات تمر سريعا، فيرى الإنسان منا عمره يجري دون أن يدري .
(قال رب أوزعني ) أوزعني: ألهمني، أو وَفِّقني.
( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي، من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والغنى وغيرها.
(وعلى والدي) فمن جملة ما وصي به الإنسان، أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد.
فالمعنى: ووصينا الإنسان حسنا بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما.
وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه التكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفترا عن الإحسان إلى الوالدين.
فمن نعم الله عليك أن يكون والديك ما زالا على قيد الحياة، فإن كان والديك أحدهما أو كليهما على قيد الحياة فانعم ببرهما وفز بدعواتهما، واحرص على ألا يتركا الدنيا إلا وهما راضيان عنك، طوبى لمن مات والداه وهما راضيان عنه يدعوان له، فالوالد كنز كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (الوالد أوسط أبواب الجنة ) ولفظ الوالد يشمل الأب أو الأم.
فبر الوالدين يستوجب به العبد دخول الجنة من أوسط أبوابها ،فإذا أنعم الله عليك بوالديك أحدهما أو كليهما ما زالا على قيد الحياة فاظفر ببرهما.
وفي الحديث ( رغم أنف امريء أدرك والديه أحدهما أو كليهما ولم يدخلاه الجنة ) ومعنى رغم أنفه يعني ألصقت بالرغام وهو التراب إشارة إلى الخسران .
(وأن أعمل صالحا ترضاه ) أن أستقبل ما تبقى من حياتي بالعمل الصالح فإن كنت فرطت وضيعت في القديم فأعنى فيما استقبله من حياتي .
(وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓ) الدعاء لذريته استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه، وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد.
وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة.
وفي حديث أبي هريرة عن النبيء ﷺ: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»، وفي رواية لولده وهو حديث حسن متعددة طرقه.
فتدعو لأولادك، فأنت في هذه السن(الأربعين) أولادك الآن في مرحلة المراهقة أو الشباب صاروا رجالا والحمد لله فتدعو لذريتك أن يصلحهم الله دنيا ودين وأن يصلح الله بهم وأن يجعلهم صالحين مصلحين .
(إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ) توسل إلى الله بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية.
والمراد بالتوبة: الإيمان لأنه توبة من الشرك، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال.
وفي ذلك إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها.
قال الشوكاني في تفسيره: في هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات.
ماذا أنوي أن أفعل؟
في ثقافتنا العربية أي شخص يبلغ الخمسين ويبدأ الشيب ينتشر بوضوح عنده يقول الناس له: حسن الختام إن شاء الله وتتوقف عنده الحياة.
وقد تعلمنا من الناس هنا بكندا أن الحياة لا تتوقف؛ سواء في عواصف في ثلوج في حر أو برد الحياة لا تتوقف ، تعلمنا مهما بلغ الإنسان من العمر فما زال من أهل الدنيا لا تتوقف الدنيا عنده فتراه يلعب رياضة يجري يمشي، يركب دراجة ، يتعلم يحصل على شهادات إنجازات …يكوّن شركة مشروع جديد …وهكذا إلى أن يموت ، رأينا من يبلغ سن التقاعد في هذه البلد خمسة وستين سنة ويرفض أن يترك العمل، ويجلس في بيته، حتى لا يكون ذلك سببا في اكتئابه وانعزاله عن الدنيا ، بل يريد أن تستمر حياته وتتجدد، حتى وإن بلغ ما بلغ من العمر ، فالحياة لا تتوقف الحياة لا تنتهي الحياة مستمرة .
وهكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه الوحي وهو ابن الأربعين وظل بمكة حتى سن الثالثة والخمسين بعدها هاجر إلى المدينة فأسس دولة كبيرة ضخمة خاض فيها ثمانية وعشرين غزوة جاب الأرض شرقا وغربا وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الثالثة والستين وقد بسط الله عز وجل بفضله وكرمه الإسلام على شبه الجزيرة العربية، وصارت كلمة الإسلام مسموعة، وكلمة دولة الإسلام مرهوبة من الجميع، ثلاثة وستين سنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعرف يوما معنى أن يكل أو يهدأ ، أو يأخذ إجازة أو يتقاعد ويجلس في بيته، أو أن يوكل غيره للعمل سبحان الله العظيم !!! وهذا كله تعليم وتربية لنا .
وعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) فسيلة غرس نخلة لن تثمر إلا بعد عشرين سنة تقريبا ، اغرسها حتى وإن قامت القيامة،إذا يئست من ثمرة العمل أن تحصلها ؛ فلا تترك العمل ، عسى أن تنفع ثمرته غيرك ، فلا يقتصر همك في الحياة على مجرد حاجاتك ، ولكن اعمل لك ولمن بعدك ،ولا تفرط في خير تقدر أن تفعله .
إذن الشاهد من هذا الكلام أن الإنسان فينا إذا أنعم الله عليه الآن بنعمة الشباب فلا يغتر بهذه النعمة ويفرط ويضيع فإن العمر أمامه سيجني فيه حصاد ما زرع، وإذا كنت في مرحلة خريف العمر فليس معنى ذلك أنك تكتب شهادة وفاتك بيدك، أو تسجل وصيتك استعدادا لأنك ستموت غدا إنما اعمل، وكن عالي الهمة، فالمسلم لا يعرف الكسل، ولا النوم في العسل، لا يعرف التثاقل ولا التكاسل، ولا أن يأخذ من الدنيا إجازة وينعزل منتظرا ملك الموت أن يدق عليه الباب فيفتح له فيلبي نداء الله، كلا إنما لآخر نفس نعمل حتى نكون في مرضاة الله ويتوفنا الله حين يتوفنا وهو راض عنا .
وورد في الأثر وهي كلمة تنسب لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)
فلولا الأمل عند الإنسان لضاقت به الحياة ، اعمل واجتهد واسعَ .
محمد بنفضيل
حفظك الله يا شيخنا نسالكم الدعاء اخوكم محمد بنفضيل من اسبانيا
abojannah
بارك الله فيك شيخنا الحبيب