شرح الأربعون النووية 42- يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني

تاريخ الإضافة 19 نوفمبر, 2024 الزيارات : 39
شرح الأربعون النووية
42- يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

شرح الحديث

هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام النووي رحمه الله والتي عرفت باسم (الأربعين النووية) وقال النووي وقد أنهى كتابه ” الأذكار” بكتاب الاستغفار: “اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب التي يعتني بها، وتحافظ على العمل به، وقصد بتأخيره التفاؤل بأن يختم الله الكريم لنا به”.. وفيه إشارة إلى تغليب حسن الظن بالله تعالى في آخر العهد بالدنيا وأول العهد بالآخرة.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله في شرح الأربعين النووية : هذا الحديث بشارة عظيمة، وحِلْمٌ وكرم عظيم، وما لا يحصى من أنواع الفضل والإحسان، والرأفة والرحمة والامتنان .
شرح الحديث

النداء الأول:(قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)

قوله: (يا ابن آدم) هذا نداء عام، لم يُقصَد به فرد بعينه، بل يشمل جميع بني آدم، وهذا النداء تكرر ثلاث مرات في الحديث:

النداء الأول: للتنبيه على الرحمة الواسعة.
النداءان الآخران: لتأكيد ما فُهِم من النداء الأول وزيادة التأكيد.

ما دلالة النداء بـ “يا ابن آدم” ؟

يدل على رفعة المنادى (ابن آدم)، لأن الله يدعوه للإقبال عليه، ولا يطلب الإقبال إلا من هو عظيم في المقام، وهذا هو سر التكرار في النداء، فهو لإظهار أهمية الرسالة المُلقاة إليه، ولفظ “الابن” يُستخدم بمعنى الولد، وهو شامل للذكور والإناث.
لماذا لم يُقل: “يا عبادي”؟
اختيار النداء “يا ابن آدم” يُظهر شرف الإنسان وتميزه عن سائر المخلوقات، والتعميم باستخدام “يا عبادي” قد يوهم دخول الملائكة، وهم غير معنيين بالاستغفار والمغفرة لأنهم معصومون.

معنى لفظ “آدم”: “آدم” هو اسم علم على أبي البشر عليه الصلاة والسلام؛ غير منصرف لعِلَميته ووزنه الذي يشبه وزن الأفعال.
أصله “أأدم” بهمزتين: الأولى متحركة، والثانية ساكنة للتخفيف أُبدلت الهمزة الثانية ألفًا.

أصل التسمية: “آدم” ليس اسمًا أعجميًا، بل هو مأخوذ من “أديم الأرض” (ظاهر وجهها)، لأن آدم عليه السلام خُلق من أديم الأرض.
يُروى عن ابن عباس وابن مسعود أن آدم خُلق من أديم الأرض، كما ورد في الحديث:“خلق الله آدم من أديم الأرض كلها، فخرجت ذريته على نحو ذلك؛ منهم الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، والسهل والحزن…” وقوله“الحزن”:الحزن هنا يشير إلى الشخص غليظ القلب القاسي، الذي لا يُرجى منه خير ولا يُؤمَن شره.

والمقصود بـ “أديم الأرض”:هو سطح الأرض الظاهر، ويُقصد به ما يبدو من وجهها، سواء كان ترابًا أو صخرًا، والكلمة تُستخدم للإشارة إلى الطبقة الخارجية أو الغطاء الذي يواجه الإنسان عند النظر إلى الأرض، من حيث الألوان والطبائع، فكما أن الأرض متنوعة في مكوناتها (طين، تراب، صلصال، حمأ مسنون، وكذلك الألوان الأبيض والأسمر والأصفر…)،وهذا يدل على تنوع البشر في صفاتهم وألوانهم وأحوالهم تبعاً لأصل الخلق.

و قوله: ” إنك ما دعوتني ورجوتني”: أي: إنك ما دعوتني في أي وقت من ليل أو نهار أو على أي حال من سر أو علانية غفر لك.

و(ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي، وقد تكون (ما) هنا شرطية، وفعل الشرط: (دعا) في قوله: “دَعَوتَنِي” وجواب الشرط: “غَفَرْتُ” وإذا أردنا أن نعرف: (ما) الشرطية نجعل مكانها: (مهما) فلو قلت: مهما دعوتني ورجوتني غفرت لك لصح المعنى .

وليس المقصود أن المغفرة تحتمل في وقت الدعاء ومدته، إنما المراد أي وقت دعوتني، لا تقييد المغفرة بزمن الدعاء .

و”الدعاء”: رفع الحاجات إلى رفيع الدرجات، وإظهار العجز والمسكنة بلسان التضرع.

تفسير آخر في معنى “ما دعوتني”: أي: ما دمت تعبدني، لأن الدعاء هو العبادة، وقد فسر الدعاء في القرآن بالعبادة، كما قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر:90]

دفع شبهة: فإن قيل فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟

فالجواب ما قاله الغزالي: “فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب خروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم؛ كذلك الدعاء يرد البلاء”، وقال السندي: “يكفي في فائدة الدعاء أنه عبادة وطاعة، وقد أمر به العبد، فكون الدعاء ذا فائدة لا يتوقف على ما ذكر ” أ.هـ من شرح السندي لسنن ابن ماجة.

ويشهد لذلك: حديث سلمان قال: قال رسول الله : ” لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر” أخرجه الترمذي وحسنه الألباني 

وقال العز بن عبد السلام: “من زعم أنه لا يحتاج إلى الدعاء فقد كذب وعصى، ويلزمه أن يقول: لا حاجة لنا إلى الطاعة والإيمان؛ لأن ما قضاه الله تعالى من الثواب والعقاب لابد منه، وما يدري هذا الأحمق أن الله تعالى قد رتب مصالح الدنيا والآخرة على الأسباب، ومن ترك الأسباب بناء على أن ما سبق به القضاء لابد منه ألزمه ألا يأكل إذا جاع ولا يشرب إذا عطش، ولا يلبس إذا برد، ولا يتداوى إذا مرض، وأن يلقي الكفار بلا سلاح ويقول في ذلك كله: ما قضاه الله تعالى لا يرد وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل” شرح الجرادني (ص 279).

(ورجوتني) في اللغة: الرجاء بالمد: الأمل، واصطلاحا: تعلق القلب بمرغوب في حصوله في المستقبل مع الأخذ في أسباب الحصول.

 وما الفرق بينه وبين الطمع؟

الطمع ليس فيه أخذ بالأسباب، وهو مذموم، وقل أن يظفر صاحبه بمقصوده.

قال ابن الجوزي: (مثل الراجي مع الإصرار على المعصية كل من رجا حصادا أو ولدا وما زرع وما نكح).

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها      إن السفينة لا تجري على اليبس

وقد يطلق الرجاء على الخوف ومنه قوله تعالى: (وارجوا اليوم الأخر ) [العنكبوت:36] و (ما لكم لا ترجون لله وقارا) [نوح:13]؛ أي: لا تخافون عظمة الله.

وقد يستعمل الطمع بمعنى الرجاء في قوله: (والذي أطمع أن يغفر إلى خطيئتي يوم الديني [الشعراء:82]

مسألة: وهل الأفضل للشخص تغليب الرجاء لئلا يغلب عليه داء اليأس من رحمة الله؟ أو تغليب الخوف لئلا يغلب عليه داء الأمن من مكر الله؟

الراجح عند الشافعية أن يكون رجاؤه وخوفه مستويين، وإن كان مريضا فالرجاء أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله “رواه مسلم.

وعند الحنفية: إن كان عاصيا فالخوف أفضل، وإن كان مطيعا فالرجاء أفضل، أو إن كان قبل الذنب فالخوف أفضل، وإن كان بعده فالرجاء أفضل، أو إن كان صحيحا فالخوف أفضل)

قوله: (غفرت لك على ما كان منك): أي: من المعاصي غير الشرك، حيث سيأتي في النداء الثالث تقييد المغفرة بعدم الشرك.

(على ما كان منك): أي غفرانا مشتملا مستعليا لسعته على ما كان منك.

(ولا أبالي):  تعني أن الله تعالى لا يكترث أو يستكثر الذنوب التي يغفرها؛ فمهما تنامت في كثرتها لا تتعاظم الله سبحانه وتعالى فهوغني عن خلقه، لا يُعجزه شيء، ولا تؤثر كثرة الذنوب في قدرته على المغفرة؛ كما قال تعالى:﴿مَا خَلَقَكُمْ وَلَا بَعْثَكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28].أي أن خلق الجميع وبعثهم جميعًا بالنسبة إلى الله كخلق نفس واحدة.

لماذا خُصَّت المغفرة بالذنوب؟ مع أن الله يجيب دعاء عباده في كل الأمور؟
من أعظم ما يُسأل الله في الدعاء هو مغفرة الذنوب، لأن المغفرة تستلزم:النجاة من النار، ودخول الجنة.

النداء الثاني: ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك) 

قوله : (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك) العنان بفتح العين هو السحاب، والمعنى: أن الخطايا لو صارت جسما له حجم وكتلة فبلغت بحجمها إلى أن ملأت الأرض بل ووصلت للسحاب إشارة إلى كثرتها.

(ثم استغفرتني) أي: طلبت مني مغفرتها بصدقٍ وإخلاص وافتقار، وقد امتدح الله عز وجل عباده المتقين بقوله:  (‏‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون‏‏.) آل عمران 135.

وهذا الاستغفار هو المقرون بالعزم على ترك الذنب وعدم الإصرار عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)، فإذا أقلع العبد عن الذنب وعزم على عدم العود إليه واستغفر الله عز وجل غفر الله له؛ ولهذا في حديث أبي بكر الصديق عن النبي  قال: (ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة) أخرجه أبو داود والترمذي.
(غفرت لك) إياها غير مبالٍ بكثرتها؛ أي: سترت عليك ذنوبك بعدم العقاب، وذلك لأن كرم الله تعالى وفضله ورحمته لا تتناهى؛ فهي أكثر وأوسع مما ذكر.

فلا ينبغي لعبد أن يستعظم ذنبا بجانب عفو الله ، فيقول: لن يغفر الله لي، لن يقبلني الله عز وجل ، فمهما كان ذنبك وخطؤك طالما دعوته واستغفرته فإنه يغفر لك ، قال تعالى:( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [الزمر/53]

وعد العلماء من جملة الكبائر اليأس من رحمة الله كما قال يعقوب لبنيه  -( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )- [يوسف/87] فالله يغفر الذنوب جميعا ولا يرد سائلا أبدا .

وفي الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ )
لو أساء إنسان في حق أحد يحمل ألف هم كيف يقابله وكيف يعتذرله ويسترضيه ، لكن  -سبحان الله العظيم- علمنا الله ألا نستعظم ذنبا بجانب عفوه  -سبحانه وتعالى- فمهما أذنبت أقبل على ربك وتب إليه ،واستغفره فإنه يغفر ولا يبالي ، فليس هناك ذنب عظيم على ألا يغفره الله .
وصدق الشاعر حينما قال:
أنا خاطئ أنا مذنب أنا عاص     ***   هو راحم هو غافر هو كافي 
قابلتهن ثلاثة بثلاثة     ****       ولتغلبن أوصافه أوصافي
 
فأنا عبد خاطئ مذنب عاص أما هو الله جل جلاله فهو راحم غافر كافي فهذه الأوصاف الثلاثة من العبد يقابلها تلكم الثلاثة صفات لله ، ولا شك أن صفاته أعظم وأكمل وأتم ، فبرحمته سبحانه يغفر ويستر ويرحم، ولتغلبن أوصافه أوصافي.
يقول ابن القيم : ” إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّة الله والإنابة إليه ودوام ذكرِه وصدق الإخلاص له، ولو أعطِي العبد الدنيا وما فيها لم تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا.
فليتك تَحلـو والْحيـاة مريـرة        وليتك ترضـى والأنام غضاب 
وليـت الـذي بينِي وبينك عامر       وبيني وبين العـالَمين خـراب 
إذا صحّ منك الـود فالكـل هين       فكـلّ الذي فوق التراب تراب
 
قال ابن سعدي رحمه في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) هو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب، وهو الودود الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء، فكما أنه لا يشبهه شيء في صفات الجلال والجمال فمحبته في قلوب خواص خلقه لا يشبهها شيء من أنواع المحاب”.
ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهو تعالى الودود الوادُّ لأحبابه، والمودّة هي المحبة الصافية، وفي هذا سرّ لطيف حيث قرنَ الودود بالغفور ليدل ذلك على أن أهلَ الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا غفَر لهم ذنوبهم وأحبَّهم، فلله الحمد والثناء وصفو الوداد، ما أعظمَ برَّه وأكثر خيرَه وأغزرَ إحسانه وأوسعَ امتنانَه، وسعت رحمته كلَّ شيء، وعمّ بفضله كلَّ حيّ.

الشافعي عند موته: 

دخلوا على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقيل له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟

قال: أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولا أدري إلى الجنة تصير روحي فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها.

ثم قال:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي              جعل الرجا مني لعفوك سلما

 تعاظمني ذنبي فلما قرنته                بعفوك ربي كان عفوك أعظم

فضل الاستغفار :

تعهد سبحانه أن يغفر لمن استغفره کما في هذا الحديث، وكما قال تعالي: “ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (النساء:110) ،وأمر به في مواضع؛ كقوله سبحانه: ” واستغفروا الله إن الله غفور رحيم “[البقرة:199] ، ومدح المستغفرين بالأسحار فقال سبحانه : “والمستغفرين بالأسحار” [آل عمران:17]

وكثيرا ما يقرن الاستغفار بالتوبة، كما في قوله سبحانه :  (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) (هود:3] فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح.

وأفضل الاستغفار: ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نصوح.

ويستحب الاستغفار على الدوام؛ كما ورد في حديث أبي هريرة به عن النبي صلى الله عليه وسلم : “أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فيعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، فقال: رب أذنبت آخر فاغفره لي، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، قال:: رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي فليعمل ما شاء”أخرجه مسلم.

و قال الحسن: “أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متی تنزل المغفرة.

قال النووي رحمه الله: واعلم أن الاستغفار معناه طلب المغفرة وهو استغفار المذنبين وقد يكون عن تقصير في أداء الشكر وهو استغفار الأولياء الصالحين، وقد يكون لا عن واحد منها بل يكون شكرا وهو استغفاره واستغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

والاستغفار التام الموجب للمغفرة: هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح أهله، ووعدهم المغفرة، قال بعض العارفين: “من لم يكن ثمرة استغفاره تصحیح توبته؛ فهو كاذب في استغفاره”، وقال بعضهم: “استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير”، وهذا هو استغفار من استغفر بلسانه وقلبه مصرّ على المعصية.

مسألة: وهل التوبة والاستغفار بمعنى واحد أم لا؟ 

الذي يظهر من النصوص الواردة في الباب أن التوبة والاستغفار يفترقان في المعنى عند اجتماعها، ويغني أحدهما عن الآخر عند الانفراد، فإذا قال الشخص أستغفر الله؛ فهذه توبة، وإذا قال: أتوب إلى الله أو رب تب علي فهذا شامل للاستغفار وطلب العفو والمغفرة.

وشروط التوبة : الإخلاص ، والندم على ما حصل ، والإقلاع عن المعصية التي تاب منها ، والعزم على أن لا يعود، وأن تكون التوبة وقت قبول التوبة ، ومن الإقلاع عن المعصية تدارك الواجبات و إرجاع الحقوق لأصحابها .

وأفضل أنواع الاستغفار : أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت” أخرجه البخاري

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: “قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم”.أخرجه البخاري ومسلم

ما العلاقة بين الغفران والعفو؟

قيل: مترادفان. وقيل: الغفران لما لم يطلع عليه أحد، والعفو لما اطلع عليه، ويشهد لذلك سياق الآية:” واعف عنا واغفر لنا ” [البقرة : 286]؛ فإنه يقتضي المغايرة بينها، وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه. فإن المغفرة من الغفر وهو الستر، والعفو بمعنى المحو، ولا يلزم من الستر المحو ولا عكسه، لكن الله تعالى إذا ستر عفا.

النداء الثالث: (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)
قوله : (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة) قوله: “لَوْ أَتَيْتَنِيْ” أي جئتني بعد الموت.

“بقراب الأرض”:  بضم القاف أشهر من کسرها؛ أي: بقرب ملئها أو بملئها، وهو أبلغ في سعة العفو.

“خَطَايا “ جمع خطيئة وهي الذنوب ، وهذه مبالغة أيضا فلو أن الذنوب تجسمت وبلغت ما يقارب ملء الأرض، ثم لقيت الله على التوحيد لا تشرك به شيئا،(لأتيتك بقرابها مغفرة) يعني مغفرة تمحو كل هذه الذنوب، وعبر بقرابها للمشاكلة وإلا فمغفرة الله سبحانه أعظم وأوسع من ذلك.
وفي هذا يقولُ بعضُهُم:
يَاكبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللَّهِ ** مـنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرُ
أَعْظَمُ الأَشْيَاءِ فِي جَنْبِ ** عَفْوِاللَّهِ يَصْغُرُ
وقالَ آخَرُ: 
يارَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِيَ كَثْرَةً ** فَلَقَدْ عَلِمْتُ بأنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إنْ كَانَ لا يَرْجُوكَ إلاَّ مُحْسِنٌ ** فمَن الَّذِي يَرْجُو وَيَدْعُو المُجْرِمُ
مَالي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الرَّجَا ** وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثمَّ أَنِّي مُسْلِمُ

 

هل معنى ذلك أن لو مات المسلم على التوحيد فقط يكفيه ليغفر الله له؟

هناك فارق بين من فعل الصغائر ومن فعل الكبائر، فالصغائر لا يخلو منها إنسان، وقد وعد الله بمغفرتها فقال تعالى: -( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) – [النساء/31]
أما الكبائر فمن مات موحدا لله لكنه مصرا على كبيرة فإن عبارة أهل السنة تقول: (من مات على كبيرة فهو واقع في خطر المشيئة إن شاء الله عذبه بعدله وإن شاء عفا عنه بفضله)
وقد يجعل الله للعبد مكفرات دون أن يشعر بأن يرزقه التوبة النصوح فيبدل الله سيئاته حسنات قال تعالى: -( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) – [الفرقان/70]
 أو يوفقه لعمل صالح قبل الموت كما في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله) قالوا: كيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
 
أو تكون هناك شدائد كالمرض قبل الموت، أو شدة خروج الروح أو في القبر وكذلك بين يدي يوم القيامة حين يغرق الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فعن المقداد – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما “، وأشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيده إلى فيه. رواه مسلم.
 
فهذه كلها للتنقية والتطهير من الذنوب ، أيضا لا ننس شفاعة الأنبياء والشهداء والصالحين ، فإن كانت ذنوبه أكثر من ذلك غمس في النار بمقدار ما يطهر من ذنوبه ثم يخرج منها لأن الجنة دار الأبرار الأطهار لا يدخلها إلا كل من طهُر من الذنوب ، فهو لا يدخل الجنة أولا وإنما يدخلها آخرا ولذلك يقول علماؤنا (لا يخلد موحد في النار)
 
ومن لقي الله مشركا يخلد في النار، قال تعالى :  -( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )- [النساء/48]
وقال تعالى :  -(  إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )- [المائدة/72]
وهذا جمع وتوفيق بين النصوص الواردة .
 
الإسراف في الترهيب :
والحديث يفتح باب الأمل دائما لكل من عصى وأسرف وقصر في حق ربه، وبعض الخطباء يسرف في جانب الترهيب ولو بالقصص المكذوبة ناسيا الترغيب في رحمة الله الواسعة .
ومن ذلك : الأثر المروي عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه ” لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله ” : فمع أنه أثر مشهور متداول، إلا أني لم أقف عليه مسنداً لا بسندٍ صحيح ولا ضعيف ،وهو يتنافى مع ما ورد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) فلا يتصور مؤمن أبدا أن عبدا من عباد الله وضع أحد قدميه في الجنة ثم يقول له الله ارجع فلن تدخلها !!!
ثم إن مكر الله يكون بالعاصين والكافرين وليس بالمؤمنين .
 
ويذكرون عن البعض أنه بكى من خشية الله حتى أصابه العمى !!!
ومنهم من كان يبكي حتى تجري دموعه من الميزاب!!!
وفي الصحيح من كتاب الله وهدي رسول الله غنية عن هذا كله من المبالغات والقصص التي لا أساس لها من الصحة قال تعالى :  -( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )- [الأعراف/156]  
ويقول  عمر بن عبد العزيز : “اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك ، فإن رحمتك أهل أن تبلغني ، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء ، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين”
فهذا الحديث ليس لفتح باب التكاسل عن أداء العبادات وتسويف التوبة والتواكل على المغفرة ؛ كلا بل هو لفتح أبواب الرحمة والأمل في وجه العصاة عساهم يتوبوا ويرجعوا إلى الله -سبحانه وتعالى-

 أسباب المغفرة الواردة في الحديث:

الله سبحانه وتعالى ذكر في الحديث ثلاثة أسباب رئيسية لغفران الذنوب، حتى لو بلغت عنان السماء، وهي:

1- الدعاء مع الرجاء بحسن الظن بالله ورجاء رحمته.

2-الاستغفار: الصادق الذي يعبر عن التوبة النصوح.

3- التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى.

 فوائد من الحديث

1- بين الحديث أن أسباب المغفرة ثلاث :1- الدعاء مع الرجاء. 2- الاستغفار. 3- التوحيد ونفي الشرك.

2- الحديث أصل في باب التوبة والحث عليها، وطلب العفو والمغفرة منه سبحانه.

3- أن الذنوب وإن عظمت إذا استغفر الإنسان ربه منها غفرها الله له. 

4- فضل الدعاء والرجاء في طلب المغفرة.
5- فضل التوحيد، وأنه سبب لمغفرة الذنوب؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 116].
6- الحديث يبين ضعف الإنسان، وكثرة ذنوبه، وعِظَمَ الله وسَعةَ رحمته.

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 ديسمبر, 2024 عدد الزوار : 13941 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع