(26) يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة
في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
هذا الحديث، يخبر فيه نبينا صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ من الأمور الكائنة بين يدي الساعة، حينما يأذن الله بنهاية هذا الكون وزواله، (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) [إبراهيم: الآية 48]، فلا أرض ولا سماء، الكل قد فني، الكل قد انتهى، كما قال تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين) [الأنبياء: الآية 104]
ما هو أول الخلق؟
العدم لا شيء، لا سماوات ولا أرض، لا إنس ولا جن ولا ملائكة، وكل هذه المخلوقات ستفنى (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص: الآية 88]
الطي معروف، لو أن عندك صفحة تضم أطرافها ثم تطويها، ولذلك قال: كطي السجل للكتاب سبحان الله!
هذا الحديث إشارة إلى قدرة الله وعظمته وجلاله هذه السماوات العظيمة الكبيرة الممتدة تُطوى كما تُطوى صفحة من كتاب، وهذه الأرضين السبع كلها تُطوى كما تُطوى صفحة من كتاب جل جلاله!
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم.
الله أكبر! هذا الكون، سماوات وأرض، في كف الرحمن جل وعلا لا شيء.
ولذلك نحن نقول دائمًا: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: الآية 11] لأن هذا أمر يعجز الإنسان عن تخيله وتصوره سبحان الله العظيم!
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله تعالى يطوي السماوات، ثم يأخذهن بيمينه، ثم يقول: أنا الملك
وهذا اليوم لا ملك إلا لله عز وجل.
في الدنيا هناك ملوك ومالكون: ملوك يحكمون الأرض، ومالكون يملكون أشياء مثل الأراضي أو الأموال، وفي سورة الفاتحة قال الله: (مالك يوم الدين) [الفاتحة: الآية 4]
لماذا قال مالك يوم الدين والله مالك الدنيا والآخرة؟
قالوا: لأن في الآخرة لا ينازع الله في ملكه أحد لا أحد يأتي ويقول: أنا أملك كذا أو أنا كنت حاكمًا على دولة كذا كل هذا قد زال، انتهى.
كل الأرض انتهت، ليس لها وجود فهنا، يوم الدين، لا مالك ولا ملك إلا الله سبحانه وتعالى.
ثم ينادي بعزته وجلاله، والاستفهام هنا للتحدي:
أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
أين الذين كانوا يتكبرون على خلق الله أو يتجبرون بقوتهم وما آتاهم الله من سلطان؟
النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن المتكبرين يوم القيامة يُحشرون كأمثال الذر
تأمل، رب العزة يحقرهم إلى هذا الحد! الذرة، وهي النملة الصغيرة، يُصبحون أقل منها سبحان الله! تُطؤهم أقدام الناس.
هذا الذي ملأ الأرض ضجيجًا وتكبرًا، والناس تركع بين يديه أو تسجد، يُصبح في ذلك الموقف لا شيء.
هذا سؤال تحدٍّ: أين الجبارون؟ أين ملكهم؟ أين سلطانهم؟ أين جنودهم؟ سبحان الله!
هارون الرشيد ساعة الموت:
لما أخبر الطبيب هارون الرشيد أنه اقترب أجله، قال: احملوني إلى قبري فحملوه، والجند مصطفون، ورجال الدولة والحاشية والبطانة معهم فلما نظر إلى قبره بكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.
ثم نظر إلى حاشيته وجنوده وقال: (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) [الحاقة: الآيتان 28-29]
الله جل في عليائه ينادي:
أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
(لمن الملك اليوم)
فلا يُجيب أحد من الخلق؟ فالكل قد فني.
يجيب الله نفسه بنفسه (لله الواحد القهار) [غافر: الآية 16]
فكتب الله الفناء على كل خلقه، وهو المتفرد بالبقاء جل جلاله!
ثم يطوي الله تعالى الأرضين ثم يأخذهن بشماله:
بكل ما فيها وكل ما تحمله من مخلوقات، وكائنات ومبانٍ، وكل هذا يطويه الله عز وجل. بقدرته العظيمة جل جلاله!
ثم يأخذهن بشماله
هذه اللفظة، بعض العلماء توقفوا عندها هناك حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)
هل وصف الله بأن له يد شمال فيه نقص؟
بعض العلماء استنكروا هذه اللفظة، لكن الرواية في صحيح مسلم، وهي من أعلى درجات الصحة، فوصف الله بأن له يدًا شمالًا ليس فيه نقص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلتا يديه يمين، وهذه إشارة إلى الكمال المطلق في صفات الله عز وجل، أي أن الله سبحانه وتعالى منزّه عن صفات النقص التي في المخلوقين ففي المخلوقات تكون اليد اليمنى غالبًا أقوى من اليد اليسرى، لكن عند الله كلتا يديه يمين، وهذا يعني أن كل أفعاله عظيمة ومليئة بالخير والكمال والقوة، ولا نقص فيها.
فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، كما قال في كتابه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: الآية 11]، وهذا يعني أنه لا يمكننا أن نقيس الله عز وجل بصفات المخلوقين، فكل ما يخطر في بالنا من صفات فهو مخلوق، والله خالق كل شيء، لذلك لا يمكننا أن نقارن قدرة الله بقدرة مخلوقاته أو صفاته بصفاتهم.
فالحديث عن أن الله يقبض الأرض بيمينه ويأخذ السماوات بشماله لا يحمل أي نقص، طالما أن الحديث قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث يماثل قول الله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) [الزمر: الآية 67]
روى البخاري في قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد: إنا نجد الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يقبض الله تعالى الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله ﷺ المنبر حتى قلنا: لَيَخِرَّن به رواه مسلم
إنه مشهد نهاية الدنيا ونهاية الكون تتمثل في هذه الآية وهذه الأحاديث، حيث يظهر صغر وضآلة حجم هذا الكون العظيم، على الرغم من امتداده واتساعه، أمام قدرة الله عز وجل فالسماوات والأرضين السبع بكل ما فيها تصبح كأنها لا شيء مقارنة بعظمة الله وجلاله.
وهذا الحديث يبين لنا أن الجبارين والمتكبرين الذين كانوا يملؤون الأرض ظلمًا وجبروتًا وسلطانًا سيحشرون يوم القيامة أذلاء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم.
فهذه رسالة لكل إنسان أن يتواضع لله عز وجل، وأن يعلم أن كل ما يملكه من مال أو قوة أو سلطان زائل، ولن يبقى إلا الله سبحانه وتعالى.
الله عز وجل قادر على إفناء الجميع وتفرده بالبقاء سبحانه وتعالى فهو يتحدى الذين كانوا يدّعون الكبرياء، وملأوا الأرض ضجيجًا وكفرًا وكبرًا.
يتحداهم الله يوم القيامة: هل يستطيعون فعل شيء؟
لا يملكون جوابًا، ولا يستطيعون أن يأتوا بأنفسهم فلا جبارون، ولا متكبرون وإنما يُحشرون على صورتهم كأمثال الذر، والعياذ بالله.
******
نسأل الله سبحانه وتعالى
أن يجعلنا من عباده الصالحين،
القانتين، المتواضعين،
وأن يجعلنا يوم القيامة في زُمرة الصالحين
اللهم آمين