3- قصة أصحاب القرية

الفصل الثاني
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ
قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ* قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ* قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ* وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ* إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ* وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ* إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ* يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ* أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ* وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ*﴾ [يس: 13-32]
قال الله تعالى : ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ١٣﴾ [يس: 13]
هل هناك فرق بين القرية والمدينة في القرآن؟
ورد في نصوص الوحي إطلاق اسم ” القرية” واسم “المدينة” على مسمى واحد.
كقوله تعالى في سورة الكهف: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ [الكهف: 77]، ثم قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ [الكهف: 82]
وفي السورة هنا قال: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ١٣﴾ [يس: 13] ثم قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ٢٠﴾ [يس: 20]
قال الشوكاني: ( وأما الجدار ) يعني: الذي أصلحه ( فكان لغلامين يتيمين في المدينة )هي القرية المذكورة سابقا، وفيه جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة) [1]
وقال القرطبي: ودل قوله: ( في المدينة ) على أن القرية تسمى مدينة، ومنه الحديث ( أمرت بقرية تأكل القرى) -أي المدينة-، وفي حديث الهجرة ( لمن أنت ) فقال الرجل: من أهل المدينة، يعني مكة .[2]
وقال ابن كثير: في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولا ( حتى إذا أتيا أهل قرية )، وقال هاهنا: ( فكان لغلامين يتيمين في المدينة )، كما قال تعالى: ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك )، ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم )، يعني: مكة والطائف . [3]
ثانيا: التفريق الذي يفرقه الناس بين القرية والمدينة، إنما تفريق عرفي، بحسب ما يغلب عليه الإطلاق بين الناس، لا أن أصل الوضع اللغوي يقتضي ما ذكر من الفروق ، أو غيرها .
لكن هذا من حيث اللغة لا اشكال فيه، فتطلق القرية على المدينة، والعكس.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:” فالقرية ليست هي البلد الصغير كما يظن كثير من الناس، بل القرية تكون مدينة، لأن أصل القرية معناه مأخوذ من القرى، وهو التجمع فإن الناس يجتمعون فيها، فإذا كانت بلدة كبيرة سميت في عرف الناس مدينة، وإن كانت دون ذلك ، سميت في عرف الناس قرية، فالتفريق بين القرية والمدين ما هو إلا اصطلاح عرفي فقط .[4]
قصة أصحاب القرية
قال تعالى:﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 13]
يذكر القرآن قصة لأناس سبقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى:
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ﴾: أي : شبّه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين .
﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 13] وهي مدينة أبهم القرآن الكريم اسمها ، كما أبهم اسم المرسلين إليها ، ولم يرد في صحيح السنّة أو الآثار ما يعيّن شيئاً من ذلك ، وقد دأب كثير من المفسّرين على أنّها مدينة أنطاكية ، جنوبيّ تركيا ، وشماليّ بلاد الشام وهذا غير صحيح ، إذن فهي قرية ما ولو كان في ذكرها فائدة لذكر الله ذلك في كتابه .
من هم الرسل الثلاثة؟
اختلف المفسرون في هؤلاء الرسل الثلاثة الذين ضرب الله بقصتهم مثلا في سورة ” يس “، هل هم من رسل الله عز وجل ، أم من أصحاب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، وذلك على قولين :
القول الأول : أنهم رسل الله تعالى ، ورسله عز وجل كثيرون ، كما قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ٧٨﴾ [غافر: 78]، واختار هذا القول من المحققين شيخ الإسلام ابن تيمية ، والحافظ ابن كثير . [5]
ويمكن أن يستدل له بما يأتي :
أولا : جواب أهل القرية لهؤلاء المرسلين كان بقولهم : ( ما أنتم إلا بشر مثلنا )، وهذا الجواب حكاه القرآن الكريم عن تكذيب الكفار لرسل الله ، فقد كانوا يريدون إرسال الملائكة بدلا من البشر ، ولو كانوا رسلا لعيسى عليه السلام لم ينكر أصحاب القرية رسالتهم بهذه الحجة .
ثانيا : ظاهر القرآن الكريم يدل على أنهم رسل الله مباشرة ، وذلك في قوله تعالى : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) فنسب الإرسال إلى نفسه عز وجل بضمير الجمع ( أرسلنا )
ثالثا: ومما يقطع في المسألة ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال ) :أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيني وبينه نبي.”
فقوله: (وليس بيني وبينه نبي) دليل واضح أن عيسى عليه السلام هو آخر نبي قبل محمد ﷺ، فلا يوجد نبي بينهما.
القول الثاني : أنهم رسل المسيح عيسى بن مريم ، بعثهم إلى مدينة ” أنطاكية “، وقد روى هذا القول جماعة من العلماء عن قتادة فيما بلغه ، واعتمده أكثر المفسرين وقدموه في تفسيرهم للآيات ، بل قال ابن كثير: “هو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره” [6]
ودليل هذا القول هو النقل عن قتادة فقط ، وإلا فليس في سياق القصة في القرآن الكريم تصريح ولا تلميح بذلك .
قال قتادة رحمه الله : ” ذكر لنا أن عيسى ابن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية -مدينة بالروم- فكذبوهما فأعزهما بثالث ” [7]
ثم أجابوا عن أدلة القول الأول بما يأتي :
أولا : اعتراض أصحاب القرية بكون الرسل بشرا هو من التعنت الذي اعتاده المكذبون ، والمتعنت لا فرق عنده بين رسل الله المباشرين ورسل عيسى عليه السلام ، فهو يبحث عن الجدال العقيم ، ويتذرع بأي شبهة ليكذب بها الرسل ، فيستعمل هذا الجواب الداحض لكل من ذكره بالله ، وأمره بالإيمان به وحده لا شريك له .
ثانيا : أما الإسناد إلى ضمير الجمع ( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) قالوا هو على سبيل المجاز ، فإن رسل عيسى هم رسل الله عز وجل أيضا ، ولكن بالواسطة ، فجاز في اللغة نسبتهم إلى المرسل الأول .
مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للمسألة:
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مناقشة هذا الموضوع في كتابه ” الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح “، وذلك في معرض الجواب عن دعوى من يقول إن الحواريين أصحاب عيسى عليه السلام كانوا من الرسل أو من الأنبياء ، وبعضهم يستدل بهذه الآيات في سورة يس ، فبين بوجوه كثيرة أن الرسل الثلاثة الوارد ذكرهم في سورة يس هم رسل الله أرسلوا إلى تلك القرية قبل بعث المسيح عليه السلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :” بعضهم يقول : إن المسيح أرسلهم في حياته ، لكن المعروف عند النصارى أن أهل أنطاكية آمنوا بالحواريين واتبعوهم ، لم يهلك الله أهل أنطاكية ، والقرآن يدل على أن الله أهلك قوم هذا الرجل الذي آمن بالرسل .
وأيضا فالنصارى يقولون : إنما جاءوا إلى أهل أنطاكية بعد رفع المسيح ، وأن الذين جاءوا كانوا اثنين لم يكن لهما ثالث ، قيل : أحدهما شمعون الصفا ، والآخر بولص ، ويقولون إن أهل أنطاكية آمنوا بهم ، ولا يذكرون حبيب النجار ، ولا مجيء رجل من أقصى المدينة ، فالأمر المنقول عند النصارى أن هؤلاء المذكورين في القرآن ليسوا من الحواريين ، وهذا أصح القولين عند علماء المسلمين وأئمة المفسرين ، وذكروا أن المذكورين في القرآن في سورة يس ليسوا من الحواريين بل كانوا قبل المسيح ، وسموهم بأسماء غير الحواريين ; كما ذكر محمد بن إسحاق .
وهذا القول هو الصواب ، وأن هؤلاء المرسلين كانوا رسلا لله قبل المسيح ، وأنهم كانوا قد أرسلوا إلى أنطاكية ، وآمن بهم حبيب النجار ، فهم كانوا قبل المسيح ، ولم تؤمن أهل المدينة بالرسل ؛ بل أهلكهم الله تعالى كما أخبر في القرآن ، ثم بعد هذا عمرت أنطاكية وكان أهلها مشركين حتى جاءهم من جاءهم من الحواريين ، فآمنوا بالمسيح على أيديهم ، ودخلوا دين المسيح .
ويقال إن أنطاكية أول المدائن الكبار الذين آمنوا بالمسيح – عليه السلام – وذلك بعد رفعه إلى السماء ، ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المذكورين في القرآن هم رسل المسيح وهم من الحواريين ، وهذا غلط لوجوه :
منها : أن الله قد ذكر في كتابه أنه أهلك الذين جاءتهم الرسل ، وأهل أنطاكية لما جاءهم من دعاهم إلى دين المسيح آمنوا ولم يهلكوا .
ومنها : أن الرسل في القرآن ثلاثة ، وجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى ، والذين جاءوا من أتباع المسيح كانوا اثنين ، ولم يأتهم رجل يسعى ، لا حبيب ، ولا غيره .
ومنها : أن هؤلاء جاءوا بعد المسيح ، فلم يكن الله أرسلهم .
ومعلوم عند الناس أن أهل أنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح ، بل آمنوا قبل أن يبدل دينه ، وكانوا مسلمين مؤمنين به على دينه إلى أن تبدل دينه بعد ذلك .
ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم ; كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم ، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار ; كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة ، وهذه القرية أهلك الله أهلها بعذاب من السماء ، فدل ذلك على أن هؤلاء الرسل المذكورين في يس كانوا قبل موسى عليه السلام .
وأيضا فإن الله لم يذكر في القرآن رسولا أرسله غيره ، وإنما ذكر الرسل الذين أرسلهم هو، وأيضا فإنه قال : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ) [يس/14] فأخبر أنه أرسلهم ; كما أخبر أنه أرسل نوحا وموسى وغيرهما .
وفي الآية : ( قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء ) [يس/15] ومثل هذا هو خطاب المشركين لمن قال : إن الله أرسله وأنزل عليه الوحي لا لمن جاء رسولا من عند رسول .
وقد قال بعد هذا : ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) [يس/30.]، وهذا إنما هو في الرسل الذين جاءوهم من عند الله ، لا من عند رسله ، وأيضا فإن الله ضرب هذا مثلا لمن أرسل إليه محمدا صلى الله عليه وسلم يحذرهم أن ينتقم الله منهم ؛ كما انتقم من هؤلاء ، ومحمد إنما يضرب له المثل برسول نظيره ، لا بمن أصحابه أفضل منهم ، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا أفضل من الحواريين باتفاق علماء المسلمين ، ولم يبعث الله بعد المسيح رسولا ، بل جعل ذلك الزمان زمان فترة .
وأيضا فإنه قال تعالى : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ) [يس/14 ]، ولو كانوا رسل رسول ، لكان التكذيب لمن أرسلهم ، ولم يكن في قولهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) شبهة فإن أحدا لا ينكر أن يكون رسل رسل الله بشرا ، وإنما أنكروا أن يكون رسول الله بشرا .
وأيضا : فلو كان التكذيب لهما وهما رسل الرسول ، لأمكنهما أن يقولا : فأرسلوا إلى من أرسلنا أو إلى أصحابه ، فإنهم يعلمون صدقنا في البلاغ عنه ، بخلاف ما إذا كانا رسل الله .
وأيضا فقوله : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) [يس/14] صريح في أن الله هو المرسل ، ومن أرسلهم غيره إنما أرسلهم ذلك لم يرسلهم الله ؛ كما لا يقال لمن أرسله محمد بن عبد الله إنهم رسل الله ، فلا يقال لدحية بن خليفة الكلبي أن الله أرسله ، ولا يقال ذلك للمغيرة بن شعبة وعبد الله بن حذافة وأمثالهما ممن أرسلهم الرسول .
ومعلوم أنه لا يقال في هؤلاء : إن الله أرسلهم ، ولا يسمون عند المسلمين رسل الله ، ولا يجوز باتفاق المسلمين أن يقال هؤلاء داخلون في قوله : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ) [الحديد/25.]
فإذا كانت رسل محمد صلى الله عليه وسلم لم يتناولهم اسم ” رسل الله ” في الكتاب الذي جاء به ، فكيف يجوز أن يقال : إن هذا الاسم يتناول رسل رسول غيره ” انتهى[8]
قال تعالى: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ [يس: 14]
أرسل الله سبحانه وتعالى إلى هذه القرية ثلاثة من الرسل لدعوة أهل هذه القرية.
فتوجه اثنان منهم إلى هذه القرية يدعوان ملكها إلى دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فكذبوا هذين الاثنين.
(فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون) والتعزيز بمعنى الشد والتقوية، يعني: شددنا الاثنين بثالث، يقويهما ويتكلم معهما، ويدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فقالوا لهم: (إنا إليكم مرسلون) ، أرسلنا الله إليكم لندعوكم إلى عبادة الرب سبحانه، وعلى عادة أهل الكفر بالتكذيب والإعراض قالوا:
﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ [يس: 15]
أي: فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟
قالت الرسل: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ*﴾ [يس: 16-17]
يعني: نحن صادقون فيما نقول، والله يشهد علينا بأنا صادقون فيما نقول، وما علينا إلا أن نبلغ رسالة الله سبحانه بلاغا بينا واضحا، ونريكم آيات الله سبحانه وتعالى.
فكان رد القوم كما ذكر الله تعالى :﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يس: 18]
(إنا تطيرنا) تشاءمنا بكم ، مبالغة منهم في استقباح ما يدعون إليه ، ونفورهم منه .
والتطيّر في الأصل : تكلّف معرفة دلالة الطير على خير أو شرّ ، بالنظر إلى نوع الطير ، وصفة اندفاعه وجهة اندفاعه أو مجيئه ، ثمّ أطلق على كلّ حدث يتوهّم منه أحد أنّه كان سبباً في لحاق شرّ به فصار مرادفاً للتشاؤم .
أي: نحن تشاءمنا منكم، فإما أن تنتهوا عن هذا الذي تدعوننا إليه، وتذهبوا بشؤمكم، أو نرجمكم، والرجم هو القذف بالحجارة حتى القتل، كأنهم يهددونهم بأن يقتلوهم رميا بالحجارة، سنعذبكم، إما أن تنتهوا عما أنتم فيه أو سنفعل بكم ونفعل من ألوان العذاب.
فقالت الرسل: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [يس: 19]
طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ : سبب شؤمكم يعود عليكم ، وهو الكفر والتكذيب ،
أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ : أئن وعظناكم وذكّرناكم بالله تعالى ، ودعوناكم إلى الحقّ ونصحناكم تشاءمتم بنا وبما ندعوكم إليه .
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ : متجاوزون الحدّ في الشرك ومخالفة الحقّ .
قصة مؤمن القرية:[9]
قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: 20]
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) أَقْصَى الْمَدِينَةِ : أبعد مواضعها .
(يَسْعَى) : والتعبير بقوله: يَسْعى: يدل على صفاء نفسه، وسلامة قلبه، وعلو همته، ومضاء عزيمته، حيث أسرع بالحضور إلى الرسل وإلى قومه، ليعلن أمام الجميع كلمة الحق، ولم يرتض أن يقبع في بيته- كما يفعل الكثيرون- بل هرول نحو قومه، ليقوم بواجبه في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
فقال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) الذين جاءوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم، ولإنقاذكم من الضلال المبين الذي انغمستم فيه.
ثم قال لهم كما ذكر الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ* إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 21-24]
(اتبعوا من لا يسألكم أجرا) كرر الأمر بالاتباع من باب التأكيد، أي: اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير، ولا يريد منكم أجرا على نصحه لكم وإرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه.
(وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) وقوله {وَمَا لِيَ} الاستفهام هنا بمعنى الإنكار، يعني أي شيء يمنعني أن أعبد الله وحده، يتكلم عن نفسه.
وقوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} أي خلقني لأول مرة، والفطر والإبداع بمعنى الإيجاد لأول مرة،
ولم يقل: لا أعبد الله ليقرن بين الحكم والدليل؛ لأن قوله: “أعبد الذي فطرني” مقتضى لكونه هو المعبود، إذ إنه هو الخالق، فلزم أن يكون هو المعبود وهذا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] فقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} كتعليل للأمر بعبادته وحده، كما أنَّه الخالق وحده، فيجب أن يكون المعبود وحده.
والمعنى: لماذا أنا لا أدخل في دين هؤلاء؟ لم لا أعبد الذي فطرني وهم يدعونني إليه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، سوف نرجع إلى الله سبحانه وتعالى مرة ثانية.
(أَأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) هل أعبد آلهة من دون الله سبحانه، وماذا تنفع هذه الآلهة؟
(إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ ) أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟
والمقصود: التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى.
ولو أني عبدت هذه الأصنام من دون الله سبحانه: (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي.
ثم قال لهم كما ذكر الله تعالى: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 25-27]
( إنيَ آمنت بربكم فاسمعون * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وكأن هنا شيئاً محذوفاً في السياق، وكأنه أول ما قال إنه مؤمن قاموا إليه فقتلوه، فكان شهيدا عند الله سبحانه، فأدخله الله عز وجل الجنة.
(قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) أي فلما دخل الجنة وعاين ما أكرمه الله بها لإيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعملون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم . [10]
قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته.
قال الإمام القرطبيّ رحمه الله : ” وفي هذه الآية تنبيه عظيم ، ودلالة على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترأف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار ، وأهل البغي ، والتشمّر في تخليصه ، والتلطّف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به أو الدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنّى الخير لقتلته ، والباغين له الغوائل ، وهم كفرة عبدة أصنام .”
قال تعالى:﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾ [يس: 28]
يعني: هؤلاء أحقر من أن ننزل عليهم جنداً من السماء لإهلاكهم وما كنا لنفعل ذلك بهم؛ فما كان الأمر إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً من جبريل عليه السلام فهلكوا.
قال تعالى:﴿ ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ* يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [يس: 29-30]
(إن كانت إلا صيحةٌ واحدةٌ) صَيْحَةً وَاحِدَةً : صوتاً مهلكاً من السماء .
(فإذا هم خامدون) ميّتون لا حراك بهم ، كما تخمَد النار .
والمعنى: ووقعت صيحة واحدة على هؤلاء فإذا هم خامدون، والإنسان عندما تكون فيه النفس يكون حياً، فإذا خرج روحه من جسده همد وخمد، وذهبت منه الحياة، فإذا بصيحة من جبريل على هؤلاء أخمدتهم جميعهم.
انظر كيف أخمدهم الله سبحانه وتعالى بصيحة واحدة، ولم ينزل عليهم ملائكة .
(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) يا ويلاً أو يا تندّماً ! على الخلق أن يكفروا ، فتكون تلك عاقبتهم ، والحسرة : شدّة الغمّ والندم مشوباً بتلهّف على نفع فائت ، وجاء التحسر على وجه النداء كأنه قال: يا حسرة أقبلي، والحسرة الندامة والتلهف على الشيء الذي يفوت، ففاتهم الإيمان.
أي: تعجبوا لأمر هؤلاء العباد الذين يستحقون أن يتحسروا على أنفسهم وينادوا على الحسرة وعلى الندامة حين لا تنفعهم.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ* وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: 31-32]
أي ألم يتعظ هؤلاء المشركين بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم؟
وهذا دليل على أنه لا أحد يموت فيرجع إلى الدنيا مرة ثانية إلا أن تكون معجزة لنبي من الأنبياء، فيحيي ميتاً ثم يموت مرة ثانية، كما كانت للمسيح عليه الصلاة والسلام. وما يذكره البعض من الناس من رجوع روح فلان وما أشبه ذلك كله من الكذب والخرافات.
(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبيناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.
المعنى الإجمالي للآيات :
- واضرب يا محمّد لمشركي مكّة ، الرادّين لدعوتك اضرب لهم مثلاً بأصحاب مدينة فيه عبرة لهم ، حين ذهب إليهم المرسلون ، فلقد أرسلنا إليهم رسولين لدعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى ، وترك عبادة من سواه ، فكذّب أهل القرية الرسولين ، وأبوا الاستجابة لدعوة الحقّ ، فقوّينا دعوتهم برسُول ثالث ، فقال الثلاثة لأهل القرية : إنّا مرسلون إليكم من ربّ العالمين .
- فقال أهل القرية للمرسلين : ما أنتم إلاّ أناس مثلنا ، لا مزيّة لكم علينا ، وما أنزل الرحمن شيئاً من الوحي ، وما دعوتكم لنا إلاّ كذب وافتراء .
- فقال المرسلون : إنّ ربّنا الذي أرسلنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون ، وما علينا إلاّ أن نبلّغكم رسالة ربّنا كما أمرنا ، ولا نملك هدايتكم ، فالهداية بيد الله وحده .
- قال أهل القرية : إنّا تشاءمنا منكم ، لئن لم تكفّوا عن دعوتكم لنقتلنّكم رمياً بالحجارة ، وليصيبنّكم منّا عذاب أليم موجع .
- فقال المرسلون : إنّما شؤمكم وأعمالكم من الشرك بالله تعالى والشرّ معكم ، ومردودة عليكم ، هل لأننا وعظناكم بما فيه خيركم وصلاحكم تشاءمتم بنا ، وتوعدّتمونا بالرجم والتعذيب ؟! بل أنتم من عادتكم الإسراف في التكذيب والعصيان .
- وهيّأ الله تعالى رجلاً مؤمناً صالحاً ، فجاءهم من مكان بعيد من أقصى المدينة ، بعدما سمع بخبر المرسلين ، وأنّ قومه يهمّون بقتل الرسل أو تعذيبهم ، فنصح قومه بقوله : يا قومي اتّبعوا المرسلين إليكم من الله ، إنّهم لا يطلبون منكم أموالاً على تبليغ الدعوة ، ممّا يدلّكم على صدقهم وإخلاصهم ، وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده ، وفي هذا بيان فضل من سعى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- ثمّ قال لهم: كيف أعبد من دونِ الله آلهةً ، لا تملك من الأمر شيئاً ؟! إن قدّر الرحمن عليّ شيئاً من السوء، فهي لا تستطيع دفعه أو منعه، ولا تستطيع إنقاذي ممّا أنا فيه؟ إنّي إن فعلت ذلك لفي انحراف عن الحقّ واضح ، إنّي آمنت بربّي وربّكم ، فاستمعوا ما قلته لكم ، واستجيبوا للإيمان كما استجبت .. فلمّا قال لهم ذلك ، وثب إليه قومه فقتلوه ، فأدخله الله الجنّة ، فقال وهو في النعيم والتكريم ، متأسّفاً على حال قومه ، مشفقاً على مصيرهم : يا ليت قومي يعلمون ، بغفران ربّي لي ، وإكرامه إيّاي بسبب إيماني بالله ورسله ، وصبري في سبيله ، ليتهم يعلمون ذلك فيستجيبوا كما استجبت ، ليدخلوا الجنّة كما دخلت ، وينالوا من الكرامة ما نلت .
- وما احتاج عذاب هؤلاء المكذّبين المعاندين إلى إنزال جند من السماء ، فهم أهون على الله وأضعف من ذلك ، وما كنّا ننزل الملائكة على الأمم إذا أردنا إهلاكهم ، بل نبعث عليهم عذاباً يدمّرهم ، ويقضي عليهم ، لقد جاءت هؤلاء صيحة واحدة ، فإذا هم ميّتون ، لم تبق منهم باقية .
- فيا أسفاً على هؤلاء المكذّبين والمستهزئين بالرسل ، لما حلّ بهم من العذاب في الدنيا ، وما سيعاينون بأعينهم يوم القيامة .! حين يرون العذاب فلا تنفعهم الندامة .
- ألم ير هؤلاء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى هذه الدنيا ؟
- ولكنّ كلّ هذه القرون التي أهلكها الله وغيرها سيحضرهم جميعاً يوم القيامة للحساب والجزاء ، فليس إحضارهم في أوقات مختلفة ، ولا في أماكن متعدّدة ، كما قضت بذلك حكمته وعدله وفضله ، لينال كلّ مكلّف جزاءه ، ولا يظلم ربّك أحداً .
أهم ما يستفاد من الآيات :
- لقد نوّع الله تعالى في القرآن أساليب الدعوة إلى دينه : بسوق الأدلة والبراهين ، أو بالحثّ على النظر في خلق السموات والأرض ، وما بثّ فيهما من دابّة ، وإعمال العقل والفكر ، أو بضرب الأمثال ، وذكر قصص الأنبياء والمرسلين ، وما كان من أخبار أقوامهم معهم ، وكلّ ذلك ليتّضح الحقّ وتقوم الحجّة على الناس .
- قضت حكمة الله تعالى أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، كيلا يبادر الناس إلى الاعتراض بحجة المغايرة والمخالفة ، فتكون اعتراض الكافرين ببشرية الرسل نوعاً من المعاندة والاستكبار .
- إنّ تشاؤم أصحاب القرية بالرسل دليل على فساد تفكيرهم وإفلاس حجتهم ، ولكنّ الشؤم الحقيقي هو من أهل القرية لشركهم بالله تعالى وكفرهم ، وتكذيبهم للرسل عليهم السلام ، وعنادهم للحقّ .
- قضت حكمة الله تعالى ألاّ يرجع أحد إلى الدنيا بعد موته ، وإنّما موعد الخلق جميعاً هو يوم القيامة ، لفصل القضاء بين الناس ، وإقامة العدل بين العباد ، وفي الآيات تكذيب وردّ على من يقول بتناسخ الأرواح أو بالرجعة بعد الموت إلاّ ما كان من ذلك خصوصيّة من الله لبعض عباده ، أو معجزة وتكرمة ، كقصّة عزير ، أو إحياء الموتى لعيسى عليه السلام أو ما أشبه ذلك .
- على المؤمن الداعية أن يوطّن نفسه على الابتلاء في سبيل دينه ، وقد يبلغ به الابتلاء القتل في سبيل الله ، أو السجن ، أو التشريد في الأرض ، ولكنّ جزاءه عند الله هو النعيم المقيم ، والتكريم في جنان الخلد .
- المؤمن الحقّ يحبّ للناس ما يحبّ لنفسهِ ، ويكره لهم ما يكره لها ، وهذا المؤمن ، أبلغ في النصح لقومه ، حتّى نال شرف الموت في سبيل الله تعالى .
[1] “فتح القدير” (3 / 419 – 420).
[2] “تفسير القرطبي” (13 / 354).
[3] تفسير ابن كثير” (5 / 185).
[4] تفسير سورة يس” (ص 72).
[5] يروى هذا القول عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه ، لكن الإسناد إليهم لا يصح ، حيث يرويه الطبري في ” جامع البيان ” (20/500) وفي إسناده انقطاع ظاهر ، ونقله ابن تيمية في ” الجواب الصحيح ” (2/247) من كلام أبي العالية حيث قال عنهم : ” قالوا : نحن رسل رب العالمين “
[6] ” تفسير القرآن العظيم” (6/573) وانظر : ” تفسير البغوي ” (7/10)، ” الكشاف ” (4/7)، ” التسهيل لعلوم التنزيل ” لابن جزي (2/180)، “إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم” لأبي السعود (7/161)، “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” للبيضاوي (4/ 264)، “مفاتيح الغيب” للرازي (26/260)، “فتح القدير ” للشوكاني (4/417)
[7] رواه الطبري بإسناده في ” جامع البيان ” (20/500)
[8] باختصار من ” الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ” (2/245-255)، وقد اختصر ابن كثير كلام شيخه ابن تيمية ، وأعاد صياغة الردود ، وذلك في ” تفسير القرآن العظيم ” (6/573-574) .
[9] يروى في كتب التفسير أن هذا الرجل كان اسمه حبيب النجار، لأنه كان يشتغل بالنجارة، وأرى أنه لا حاجة إلى ذكر ذلك، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه فيما ذكروه عنه، ويكفيه فخرا هذا الثناء من الله- تعالى- عليه بصرف النظر عن اسمه أو صنعته أو حاله، لأن المقصود من هذه القصة وأمثالها في القرآن الكريم هو الاعتبار والافتداء بأهل الخير.
[10] روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام، فقال له صلى الله عليه وسلم «إني أخاف أن يقتلوك» ، فقال: يا رسول الله، لو وجدوني نائما ما أيقظوني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «انطلق إليهم» فانطلق إليهم، فمر على اللات والعزى فقال: لأصبحنك غدا بما يسوؤك، فغضبت ثقيف فقال لهم: يا معشر ثقيف: أسلموا تسلموا- ثلاث مرات-. فرماه رجل منهم فأصاب أكحله فقتله- والأكحل: عرق في وسط الذراع- فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا مثله كمثل صاحب يس قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)