7- ( ومن نعمره ننكسه في الخلق…)
الفصل السادس
دلائل النبوّة ومعالم الرسالة
قال تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ* وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ* لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ* وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ* لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ* فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [يس: 68-76]
قال تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68]
( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) ومن نعطيه عمراً يعيش حتى يجاوز الستين.. السبعين.. ، إذا عمرناه نكسناه، أي نرده إلى أرذل العمر ، فيصبح بعدَ قوّته وشبابه ضعيفاً هرماً .
والإنسان في حياته يمشي في منحنى سنه وهو صغير من الصفر، ثم يستمر في الزيادة إلى أن يعلو إلى أقصى قوته وشبابه وصحته، ومن ثم يأتي منحنى النزول بعد ذلك حتى يصل إلى الصفر، ويدخل إلى قبره.
فالإنسان كلما ازداد عمره في طاعة الله كلما كان خيراً له، فيستغل الإنسان حياته وصحته وشبابه في أن يعبد الله سبحانه.
وإذا اكتمل الشباب واكتمل للإنسان القوة فما بعد الكمال إلا النقصان، فبعدما كان يقدر على أن يصلي قائماً يصلي قاعداً، وبعدما كان يصلي قاعداً يصلي وهو مضطجع .
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر، ويقول: (أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)
وفي هذه الآية الاستدلال على أن قدرة الله تعالى لا يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غير خلقة المعمرين من قوة إلى ضعف، كأنه قيل: لو نشأ لطمسنا أعينهم ومسخناهم، لأنا قادرون على قلب الأحوال، ألا يرون كيف نقلب خلق الإنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولا.
وكذلك الاستدلال على قدرة الله على البعث : أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت.
قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ* لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: 69-70]
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) وما جعلنَا محمّداً قادراً على قول الشعر أو نظمه .
يخبر سبحانه وتعالى عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سبحانه ما علمه الشعر، وما من شيء تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم إلا وربه الذي يعلمه إياه سبحانه، فعلمه من الغيب ما شاء سبحانه وتعالى، وأخفى عنه من الغيوب ما شاء، فما من شيء تعلمه إلا من فضله سبحانه، ومنعه عن أشياء لا يتعلمها صلى الله عليه وسلم، ومنها: الكتابة والقراءة، وهذه للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة، أنه نبي أمي صلوات الله وسلامه عليه، هكذا وصفه ربه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلَ) [الأعراف:157].
فهو أمي صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الله يحفظه ويعلمه ما يشاء، فصفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر من معجزاته، من أنه تعلم هذا العلم كله وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه.
(وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) ليس النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة من يتعلم الشعر، وقد ينبغي لغيره أن يتعلمه، فيتعلم العلماء من الشعر ويدرسونه ويقولونه ويتكلمون به، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممنوع من ذلك، وانظر مثلاً في قول طرفة بن العبد قاله النبي: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
وهذا بيت مكسور، لكن انظر إلى صاحب البيت كيف قاله!
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فلما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ما اهتم أن يأتي به موزوناً.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) تذكير وموعظة من الله تعالى لعباده ، وفيه ذكر للعرب وشرف لهم بأن ينزل هذا القرآن على نبيهم صلى الله عليه وسلم.
(وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) كتاب مبيّن للأحكام والشرائع التي يكلّف الله بها عباده.
( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) والإنذار: الإعلام بأمر يجب التوقي منه، أي لينذر حيّ القلب مستنير البصيرة ، يعقل الحقّ ويستجيب له.
والمقصود منه: التعريض بالمعرضين عن دلائل القرآن بأنهم كالأموات لا انتفاع لهم بعقولهم كقوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) [النمل: 80] .
(وَيَحِقَّ) يجب العَذاب ويثبت، أي: لتكون النتيجة والعاقبة إحقاق ما قاله الله سبحانه على الكافرين أنه أقسم: (لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود:119]
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: 71-73]
(أولم يروا) أولم يعتقدوا فيما يرونه من آيات الله سبحانه التي ينظرون إليها، ويعتبروا بذلك ويتفكروا؟ هلا اعتبروا بذلك؟!
(أنا خلقنا) والله سبحانه خالق كل شيء بـ(كن) فيكون ما شاءه الله سبحانه تبارك وتعالى.
(مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) أي: أوجدنا، وخلقنا هذه الأشياء التي يرونها أمامهم.
(أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) والأنعام جمع نعم، وتطلق على ثلاثة أشياء: على الإبل والبقر والغنم، وخصّها بالذكر لما فيها من بديع الفطرة وعظيم المنافع.
(فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) يملكون هذه الأشياء، وإن كان الملك الحقيقي هو لله سبحانه وتعالى، ولكن جعلهم يملكونها ويتوارثونها، يشتريها بعضهم من بعض فيملك في هذه الدنيا.
(وذللناها لهم فمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) والتذليل: جعل الشيء ذليلا، والذليل ضد العزيز وهو الذي لا يدفع عن نفسه ما يكرهه.
ومعنى تذليل الأنعام أن الله سخرها للإنسان، فعلى الرغم من قوتها كالجمل وغيره إلا أنها إذا زجرها الإنسان أو أمرها ذلت له وانطاعت.
ولهذا نجد الصبي الصغير يقود هذا الجمل الكبير، وقد ذلل له ويقوده حيث شاء، بل إن الإنسان يقود الجمل الكبير الجسم إلى مكان نحره وينقاد معه.
والرَكوب (بفتح الراء)غير الرُكوب (بضم الراء)، الرُكوب الفعل نفسه، والرَكوب: الدابة التي تركبها وهي فَعول بمعنى مفعول، أي: مركوبهم، فمنها ما يرَكبونه.
(وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ) من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، فضلاً عن لُحومها وألبانها فينتفعون بما شاء الله عز وجل منها.
(أَفَلا يَشْكُرُونَ ) هلا شكروا الله تبارك وتعالى على هذه النعم العظيمة التي سخرها لهم وذللها لهم؟
قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ* لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ [يس: 74-75]
(واتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ) فعبدوا غير الله سبحانه، ولماذا عبدوا غير الله؟
(لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ) يظنون أنهم ينتصرون بهؤلاء، فإذا خرجوا لقتال ذهبوا إلى أصنامهم يطلبون منها أن تنصرهم، وهم يعرفون أنهم هم الذين صنعوا هذه الأصنام.
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ) أين هذه الأشياء التي تنصرهم.
(وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ) هذه الأصنام لا تستطيع نصرهم، ولكن هؤلاء العابدين ينتصرون للأصنام ويكونون جندًا لها.
فهؤلاء العابدون يعبدون ما لا ينفعهم، والغالب أن الإنسان العاقل إنما ينتصر لمن ينفعه، وينتصر له، وأما من لا ينتصر له ولا ينفعه بشيء لا يمكن أن ينتصر له.
قال تعالى: ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [يس: 76]
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) أي لا يوقعك في الحزن، والحزن هو الندم والهم والتأسف لما مضى، والخوف هو الهم والترقب لما يستقبل.
يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا تحزن على هؤلاء: أي: قولهم إنك ساحر وكاذب وكاهن، فلا تحزن من أقوالهم فقد قيل هذا القول عن الأنبياء من قبلك.
ويجب هنا الوقوف على قوله: {قَوْلُهُمْ} لأننا في حال الوصل يوهم أن تكون جملة {إِنَّا نَعْلَمُ} من قولهم، وليست كذلك بل هي جملة استئنافية لبيان حال هؤلاء الذين يقولون ما يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وحالهم أنهم مهددون بعلم الله عز وجل لما يسرون وما يعلنون، ما يسرونه فيما بينهم، وما يعلنونه للناس، ما يسرونه في أنفسهم، وما يبدونه لغيرهم.
(إنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) يعني: هم وإن أعلنوا لك أنك كاذب فنحن نعلم أنهم في سرهم يعتقدون أنك صادق، ولكن الغيرة والحسد دفعهم إلى هذا الشيء.
المعنى الإجمالي للآيات :
1- ومن نطل عمره حتّى يهرم نردّه إلى حالة ضعف العقل وضعف الجسد التي ابتدأت بها حياته ، أفلا يعقلون أنّ من فعل بهم مثل هذا – سبحانه- قادر على بعثهم وحسابهم .؟!
2- وما علّمْنا محمّداً قولَ الشعر ، وما ينبغي له أن يكون شاعراً ومن هذا القبيل ما أثر من قول الإمام الشافعيّ رحمه الله :
ولولا الشعرُ بالعلماءِ يُزري لكنتُ اليوم أشعرَ مِن لبيدِ
3- وأمّا هذا القرآن الذي جاء به محمد فهو وحيٌ منزّل من السماء ، وذكر لأولي الألباب ، وهو قرآن مبين في أحكامه وحكمه ومواعظه ؛ أنزله الله لينذر من كان حيّ القلب مستنير البصيرة ، ينتفع بالموعظة والذكرى ، ويحقّ العذاب على الكافرين بالله ؛ فتقوم عليهم حجة الله البالغة بالقرآن ، فهو كلّه حكمٌ وعقائد وشرائع .
4- فإذا انتفت الريبة بهذا القرآن ، وبمن جاء به من عند الله ، فلم يبق للكافرين المكذّبين إلاّ العناد والمكابرة ، وهو ما يوجب عليهم العذاب العاجل بجهاد المؤمنين لهم بأنواع الجهاد ، والعقاب الأخرويّ بعذاب الجحيم .
5- ومن أدلة وجود الله ووحدانيته : خلق الإنسان والحيوان والنبات ، فقد خلق الله سبحانه كل ذلك ، وأبدعه من غير واسطة ولا شركة .
6- ومن فضله ونعمته على الناس تذليل الأنعام لهم ، حتّى إنّ الصبيّ الصغير يقود الجمل العظيم ، ويضربه ويوجهه كيف يشاء ، وهو له طائع ، ومن نعمته تسخيرها لمنافعهم في الركوب ، والأكل من لحمها ، والشرب من حليبها وألبانها ، وصنع الجبن والسمن منها ، وكلّ ذلك مما يوجب شكر الخالق المنعم على نعمه ، بعبادته وطاعته ، وإخلاص العمل له .
7- وعلى الرغم من وجود الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ووحدانيّته ، فقد اتخذ الكفار من دون الله آلهة ، لا قدرة لها على فعل ، طمعاً في نصرتها ، وأملاً في مساعدتها لهم إن وقعوا في شدّة ، أو نزل بهم عذاب .
8- ثمّ سلّى الله عز وجل نبيّه محمداً فقال له : لا يحزنك قولهم : ساحر ، شاعر، كاهن ؛ فكذّبهم الله تعالى ، ونفى ذلك عن رسوله e ، وبيّن سبحانه أنّه مطلّع عليم بما يُسرّ الكافرون ، أو يظهرون من القول والعمل ، فيجازيهم بذلك يوم القيامة .
الدروس والعبر :
- ليس القرآن شعراً ، وليس محمد شاعراً ، فلا يقول الشعر ولا يزنه ، وكان إذا حاول التمثّل ببيت من الشعر كُسِرَ وزنه على لسانه ، وذلك من أعلام نبوته .
- إنّ القرآن الذي يتلوه النبي على الناس أنزله الله تعالى حجّة على العالمين ، فيه الذكر والمواعظ ، والآداب والأخلاق ، والحكم والأحكام ، والتشريع المحقق لسعادة البشر .
- سخر الله الكون للإنسان وهيأ له معاشه في هذه الدنيا فلا يليق به أن يتغافل عن نعم الله فيشكر غيره ويكفر بالله .