تفسير سورة يس : 6- ( حال أهل الجنة وحال أهل النار)

تاريخ الإضافة 4 يونيو, 2025 الزيارات : 19

6- ( حال أهل الجنة وحال أهل النار)

الفصل الخامس

حال أهل الجنة وحال أهل النار

قال الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ* هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ* لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ* سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ* وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ* أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي  هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا  أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ* هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ* وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ* وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: 55-67]

قال تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ [يس: 55]

( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) كأنهم ملكوها، هذه الجنة جنتكم، هذه التي أعددناها لكم.

( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) نعيم عظيم ، يشغلهم عمّا سواه ، أي: منعمون، يعني: نفوسهم طيبة منعمة بالجنة؛ قد شغلوا بما في الجنة من نعيم.

(فَاكِهُونَ ) متنعمون متلذذون في النعمة التي تحيط بهم، مأخوذ من الفكاهة- بفتح الفاء- وهي طيب العيش مع النشاط، وسميت الفاكهة بذلك لتلذذ الإنسان بها، وكل أكل أهل الجنة فاكهة، لأنهم يأكلونه على سبيل التفكه لا على سبيل الحاجة والضرورة، ففي الدنيا قد نأكل أحيانًا تفكهًا، وأحيانًا للحاجة، وأحيانًا للضرورة، أما في الجنة فكل ما نأكله للتفكه؛ لأنه ليس هناك ضرورة أو حاجة، ولهذا يأكل الإنسان الأكل ويخرج هذا الأكل رشحًا مثل العرق، أطيب من ريح المسك، وليس فيها بول أو غائط.

قال تعالى:﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ* لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾ [يس: 56-57]

( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ) كل إنسان مع زوجاته في الجنة، له من الحور العين ما شاء الله تبارك وتعالى، كذلك زوجته التي كانت معه في الدنيا تكون من أجمل ما يكون في الجنة، فها هو وزوجه إذا دخلت معه الجنة كانوا منعمين.

(فِي ظِلالٍ ) جمع ظِلّ ، وهو ما لا تصيبه الشمس ، والظلة: الشيء الذي يجعل فوق رأس الإنسان، والجنة ليس فيها شمس تحرق أهلها، ولكن فيها نعيم الزينة فيزين لأهل الجنة مثلما تجد في الأفراح يعمل للعروسة شيء فوق رأسها، ليس لأنه يوجد مطر، وإنما زينة للعرس، وزينة أهل الجنة أعظم من ذلك بكثير، شبهوا بالعروس في الدنيا؛ لأن العروس في الدنيا تتزين لزوجها، فهؤلاء في الجنة زينت لهم الجنة على ما نسمع هنا.

(عَلَى الأَرَائِكِ ) الأرائك: جمع أريكة، وهو: الكرسي الكبير المتسع، أو العرش الذي يجلس عليه الملك، أو السرر في الحجال: جمع حجلة (يسمونه بمصر الناموسية).

أي : بيوت عظيمة جميلة مزينة لأهلها.

( مُتَّكِئُونَ ) يتكئ الإنسان أي: يجلس مسنداً ظهره ويده.

والإنسان المرفه يجلس متكئاً على اليمين أو الشمال يأكل، أما الجائع فهو مقبل على الطعام حامد لله سبحانه، شاكر له، لكن الإنسان البطر الذي عنده الأكل كثير يجلس هذه الجلسة، وهو في الدنيا ممنوع منها عند الطعام ، ولكن في الجنة اجلس كما شئت، اتكئ كما شئت، فالآن وقت الجزاء ووقت الثواب ووقت السرور والفرح فاجلس كما شئت.

(لهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، ليس محتاجاً إلى قطع الثمار من الأشجار ولكن يطلب ما يشاء وهو يأتيه، وإذا قطع الثمار من أشجار الجنة نبت مكانه غيره، فثمار الشجرة لا تنتهي، نعيم مقيم لا مقطوع ولا ممنوع.

(وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) ، ما يتمنّونه ويشتهونه ويطلبونه من أنواع الملذّات والنعيم .

فيطلبون الشيء مهما عظم، فيعطيهم الله ما شاء من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: 58]

(سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) وأعظم ما يتمنّون سلام الله تبارك وتعالى عليهم ، تكريماً لهم ورضواناً .[1]

والمعنى: يعطيهم الله تبارك وتعالى السلام والأمن، ويحييهم ربهم الحياة الطيبة والتحية العظيمة، سلام قولاً من ربكم سبحانه تبارك وتعالى، فيميز هذا التسليم بأنه قولاً من الله سبحانه سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ خالق مالك يملك كل شيء، رحيم بعباده تبارك وتعالى.

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل وتلا النبي صلى الله عليه وسلم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26])

 هذا أعظم ما يؤتاه أهل الجنة، لذة النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، ويزيد على ذلك أن ينظروا إلى وجهه سبحانه وتعالى.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم، وأن يرينا وجهه الكريم سبحانه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، ونسأله أن يزيننا بزينة الإيمان، ويجعلنا هداة مهتدين.

قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ* أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: 59-62]

( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) تميّزوا وانفردوا عن المؤمنين .

والمعنى: وقيل للمجرمين: تميزوا، تعالوا من هذه الناحية، يقال: ميزت الناس بعضهم عن بعض إذا فرقت بينهم، فيقال لهم: ابتعدوا عن المؤمنين، لستم معهم في الجنة، ولا لكم نور من نورهم، انحازوا إلى ذات الشمال، فيؤخذون إلى النار والعياذ بالله.

(أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) أجرموا في حق دينهم.. أجرموا في حق ربهم سبحانه.. أجرموا في حق المؤمنين.. أجرموا في حق نبيهم عليه الصلاة والسلام، فقيل لهم: انحازوا إلى هاهنا، اجتمعوا إلى النار والعياذ بالله.

( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) والعهد بالشيء: الوصية به، والمراد به هنا: وصية الله- تعالى- للناس على ألسنة رسله، أن يخلصوا له العبادة والطاعة، وأن يخالفوا: ما يوسوس لهم به الشيطان من شرك ومعصية.

والمراد بعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم، ويزينه لهم، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها .

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) عداوته ظاهرة بينة واضحة ، وقد أعذرنا إليكم فلا عذر يقبل منكم اليوم.

والمعنى: لقد عهدت إليكم- يا بنى آدم- عهدا مؤكدا على ألسنة رسلي، أن لا تعبدوا الشيطان وأن لا تستمعوا لوسوسته، وأن لا تتبعوا خطواته، لأنه لكم عدو ظاهر العداوة، بحيث لا تخفى عداوته على أحد من العقلاء.

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) اعبدوا ربكم وحده لا شريك له.

(هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) يعني: طريق الله سبحانه طريق لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ومن تابع دين الله سار إلى جنة الله سبحانه.

 والإشارة في قوله: (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) تعود إلى إخلاص العبادة لله- تعالى-.أى: هذا الذي أمرتكم به من إخلاص العبادة والطاعة لي هو الطريق الواضح المستقيم، الذي يوصلكم إلى عز الدنيا، وسعادة الآخرة.

( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً) (جبلاً) الجبلة الخلقة، معناه: الخلق الكثير، ملايين من الخلق أضلهم الشيطان وأغواهم عن طريق الرحمن.

(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ألا يوجد عندكم عقل تعقلون وتعرفون أن هذا هو الحق من عند الله، تركتم هذا واتبعتم الشيطان من دون الله تبارك وتعالى.

قال تعالى:﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ٦٣ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ٦٤﴾ [يس: 63-64]

(هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) جهنم اسم من أسماء النار.

(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ ) يصلى الشيء بمعنى: يحترق فيه، فيقول: عانوا حرارتها، قاسوا من لهيبها.

في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال عنها: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)

 تخيل هذا العدد الضخم! هذه جهنم خلقها الله سبحانه وتعالى، وجعلها عذاباً لمن عصاه سبحانه، هي عظيمة، وقد وعدها الله عز وجل أن يملأها ممن كفر وممن عصاه سبحانه وتعالى، ولا تشبع أبداً، كلما ألقي فيها فوج تقول: هل من مزيد، حتى يسكتها الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط)، حينها تسكت ولا تطلب المزيد.

قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) والختم الوسم على الشيء بطابع ونحوه، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه للاستيثاق، لكيلا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخله ما هو خارج عنه.

(وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وتشهد أرجلهم) تنطق الأيدي، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ، وهذا من التفنن في القرآن العظيم، لم يقل: تكلمنا أيديهم وتكلمنا أرجلهم، ولكن ذكر أن كل عضو ينطق ويتكلم، ففصل فذكر أن الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد، كأنه أقامها مقام الشاهد؛ لأن الإنسان غالباً ما يصنع أفعاله بيده، فكأن اليد بعيدة عن الرجل، والرجل شاهدة على اليد بما فعلته، وعلى الفم بما قاله، فتقول : ضربت فلاناً، أخذت مال فلان، سفكت دم فلان، والرجل تشهد على هذا الإنسان وعلى هذه اليد بما صنعت .

(يَكسِبُونَ ) يقترفون من الإثم والفجور .

والمعنى: أنهم حضروا الموقف أمام رب العالمين، فلما سألهم أجابوا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، ومن حاول أن يكتم الله حديثاً أنطق عليه أعضاءه فاعترفت عليه يوم القيامة.

وجاء في صحيح مسلم من حديث أنس : (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، انظروا العبد يوم القيامة، ما زال يجادل ربه: يا رب! ألست حرمت الظلم على نفسك، وأنت أجرت من الظلم عبادك؟ فيقول الله سبحانه: (بلى، فيقول هذا العبد: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ) يعني: لا أريد ملائكة تشهد علي، أنا أشهد على نفسي، يظن أن ذلك ينفعه. قال: (فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فِيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام)، شهدت عليك أعضاؤك بما عملت في الدنيا، فيقول وهو يدعو على نفسه: (بعداً لكُنّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل) يعني: كان يدافع عن نفسه، عن أعضائه التي أوبقته وشهدت عليه.

قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ* وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: 66-67]

(وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) الطمس: إزالة الأثر، تقول: طمست الريح الأثر، بمعنى: أزالت الأثر، والمعنى: أعميناهم أو صيّرناها ممسوحة لا يرى لها شقّ .

وقد ذهب أكثر المفسّرينَ إلى أنّ المراد بالآية الحديثُ عنْ حال الكافرين في الدنيا ، ففسّروا الصراط بالطريق المعروف ، مع أنّ سِياقَ الآية في الحدِيثُ عن مشهد مِن مشاهد يوم القيامة ، بدءاً من قوله تعالى: { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64)

فكان الأصحّ والأرجح أن تفسّر الآية بما يعرض للكافرين من أهوال يوم القيامة ومواقفه ، فالكافر الذي عاند الحقّ في هذه الحياة ، وطمس بصيرته عن رؤية آيات الله تعالى في نفسه ، وفي الآفاق من حوله ، يعاقب يوم القيامة بأن يطمس بصره وهوَ في أشدّ الحاجة إليه ، عندما يقدّم إلى الصراط ليجتازه ، فيفاجأ بطمس بصره ، ويحاول أن يبادر قبل ذلك ، فهيهات هيهات .!

ويؤيّد ذلك عموم ما جاء في قول الله جلّ وعلا : { ومَن أعرضَ عنْ ذِكري فإنّ لهُ مَعِيشةً ضَنكاً ، ونحشرُه يومَ القيامةِ أعمَى }

 وقد نقلَ الإمام القرطبيّ في تفسيره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه ما يؤيّد هذا القول ويعضده : يقول الإمام القرطبيّ : وقد روي عن عبد الله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدّم ، وتأوّلها على أنّها في يوم القيامة ، وقال : إذا كان يوم القيامة ، ومدّ الصراط ، نادى منادٍ : ليقم محمّد e وأمّته ، فيقومون برّهم وفاجرهم ، يتبعونه ليجوزوا الصراط ، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجّارهم ، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتّى يجازوه .؟ ثمّ ينادي منادٍ ليقم عيسى  وأمَّته ، فيقوم فيتّبعونه برّهم وفاجرهم ، فيكون سبيلهم تلك السبيل ، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام . [2]

ويؤيّد هذه الرواية ما جاء في صحاح الأحاديث من أنّ مرور الناس على الصراط إنما هو على حسب أعمالهم ؛ فمنهم من يمرّ كالبرق الخاطف ، ومنهم كراكب الجواد السريع ، ومنهم من يحبو على الصراط حبواً ، ومنهم مخدوش مسلّم ، ومنهم من تتخطفه كلاليب جهنّم .

(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ) والمسخ: تبديل الخلقة وتحويلها من حال إلى حال، ومن هيئة إلى هيئة.

(عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) المكانة: المكان الذي يزاولون فيه معصيتهم ويمكثون فيه، أي في مكان معاصيهم أو في منازلهم .

والمعنى: لو أردنا كنا مسخناهم قردة وخنازير، وقد فعل ذلك ببعض عباده الذين غضب عليهم، ولو شاء لفعل بهؤلاء أيضاً من كفار قريش.

(فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) فَلم يقدروا على ذهاب أو عودة .

أى: وفي قدرتنا إذا شئنا، أن نغير صورهم الإنسانية إلى صور أخرى قبيحة، كأن نحولهم إلى قردة أو حيوانات وهم عَلى مَكانَتِهِمْ أى: وهم في مكانهم الذي يقيمون فيه فَمَا اسْتَطاعُوا بسبب هذا المسخ مُضِيًّا أى: ذهابا إلى مقاصدهم وَلا يَرْجِعُونَ أى: ولما استطاعوا- أيضا- إذا ذهبوا أن يرجعوا.

أى: في إمكاننا أن نمسخهم وهم جالسون في أماكنهم، فلا يقدرون أن يمضوا إلى الأمام، أو أن يعودوا إلى الخلف.

فالمقصود بالآيتين الكريمتين تهديدهم على استمرارهم في كفرهم، وبيان أنهم تحت قدرة الله- تعالى- وفي قبضته، وأنه- سبحانه- قادر على أن يفعل بهم ما يشاء من طمس للأبصار، ومن مسخ للصور، ومن غير ذلك مما يريده- تعالى-.

المعنى الإجمالي للآيات :

  1. وإنّ أهل الجنة في ذلك اليوم مشغولون عن غيرهم بأنواع النعيم التي يتفكّهون بها ويتنعّمون ، إنّهم هم وأزواجهم يتنعمون بالجلوس على الأسرة المزيّنة ، تحت الظلال الوارفة ، ولهم في الجنة أنواع الفاكهة اللذيذة ، ولهم كلّ ما يطلبون من أنواع النعيم ، ولهم فوق ذلك نعيم آخر أكبر ، حين يكلّمهم ربّهم ، وهو الرحيم بهم ، ويسلّم عليهم ، فتحصل لهم السلامة التامّة والسعادة ، ويحظون بتكريم ما بعده من تكريم .!
  2. وفي ذلك اليوم يقال للكفار : تميّزوا عن المؤمنين ، وانفصلوا عنهم ، ويقول الله لهم توبيخاً وتذكيراً : ألم أوصكم على ألسنة رسلي ألاّ تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه ؟ إنّه لكم عدوّ ظاهر العداوة لا يريد لكم إلاّ الشقاء والوقوع فيما يغضب الله ، ولقد أمرتكم بعبادتي وحدي ، فعبادتي وطاعتي ، ومعصية الشيطان هو الدين القويم الموصل لمرضاتي وجنّتي . ولقد أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً عن الحقّ ، أفما كان لكم ـ أيها المشركون ـ عقل ينهاكم عن اتّباعه وطاعته .؟!
  3. ثمّ يقال لهم : هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله تعالى وتكذيبكم لرسله ، ادخلوها اليوم وقاسوا حرّها ؛ بسبب ما كنتم عليه من الكفر والجحود .
  4. وفي ذلك اليوم نطبع على أفواه المشركين فلا ينطقون ، وتكلمنا أيديهم بما بطشت به ، وتشهد أرجلهم بما سعت إليه في الدنيا ، وكسبت من الآثام ، فلا يستطيعون التنصّل من جرائمهم ، وما كانوا عليه من الظلم والفساد .
  5. ولو نشاء لطمسنا على أعينهم بأن نذهب أبصارهم ، كما ختمنا على أفواههم ، فإذا بادروا إلى الصراط ليجوزوه لم يستطيعوا ، إذ كيف يتحقق لهم ذلك ، وقد طمست أبصارهم ؟! فتخطفهم كلاليب جهنّم ، ويسقطون فيها .
  6. ولو شئنا لغيرنا خلقهم ، وأقعدناهم في أماكنهم ، فلم يستطيعوا المضي أمامهم ، ولا أن يرجعوا وراءهم .! أفلا يعتبرون بذلك ويتّعظون .؟!

الدروس والعبر :

  1. الحساب حق وعدل ، والجزاء قائم على العدل المطلق فلا ينقص من ثواب العمل أي شيء مهما قل ، ولا يجزى الناس إلاّ بما عملوا من خير أو شرّ .
  2. إن أصحاب الجنة يتنعّمُون فيها نعيماً ماديّاً ، وليس روحيّاً فقط ، فهم في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي في النار ، وما هم فيه من أليم العذاب ، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم .
  3. يتنعّمُ أهل الجنة بأنواع النعيم هم وأزواجهم ، تحت ستور تظلّلهم ، وعلى الأرائك متكئون ( أي السرر في الحجال ، كالناموسيات أو الكوشة التي تهيأ للعروس) .
  4. ولهم في الجنّة أنواع من الفاكهة لا تعد ولا تحصى ، ولهم كلّ ما يتمنّون ويشتهون ، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذّ .
  5. ولهم أكمل الأشياء وأعلاها الذي لا شيء فوقه وهو السلام من الله الربّ الرحيم ، إمّا بوساطة الملائكة ، أو بغير وساطة ، مبالغة في تعظيمهم ، وذلك غاية ما يتمنّونه وما يكرمهم الله به .
  6. وفي الآخرة يميّز المجرمون عن المؤمنين ، ويعزلون تحقيراً لهم ، وإعداداً لسوقهم إلى نار جهنم ، وذلك حين يؤمر بأهل الجنّة إلى الجنّة ، فيقال للمجرمين : اُخرجوا من جملتهم .

[1] وللمفسرين في إعراب قوله: سَلامٌ أقوال منها: أنه مبتدأ خبره الناصب للفظ قَوْلًا أى: سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم. والمعنى: أن الله- تعالى- يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تكريمهم.

[2] انظر تفسير القرطبي 15/50

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14108 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع