قوانين السعادة
(25) تخلق بخلق التغافل

تعريف التغافل:
الغفلة : عدم إدراك الأشياء حولك ، أما التغافل: فهو تعمد الغفلة، أو تكلف الغفلة مع العلم.
فمن الحكمة أن ترى الأشياء، وتبصرها لكنك تتغافل عنها؛ فلا تلتفت إليها ؛ فمن تمام الذكاء أن تتغافل ، فلا تسأل ولا تدقق في كل الأمور، ولا تناقش الناس في كل مسألة.
الترغيب في التغافل:
قال تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ [الأعراف: 199]
ما معنى خذ العفو ؟ أي ما سمحت به أخلاق الناس وأحوالهم وطبائعهم خذ العفو ولا تنتظر المثالية في الأخلاق من كل من تلقاه ، وكل من تتعامل معه لأن هناك تفاوت بين الناس في أخلاقهم؛ فإذا هيئت نفسك هذه التهيئة أن تأخذ بالعفو، وما سمحت به أخلاق الناس، وتيسر لهم القيام به سعدت في هذه الحياة، أما إذا كنت تنتظر من كل من تلقاه أن يكون مثاليا في أخلاقه وفي تعاملاته لن تجد ذلك لأن الناس طبائع وأجناس:
– منهم سريع الغضب سريع الانفعال.
– ومنهم الهادئ الرزين.
– ومنهم العنيف الغليظ .
فهيئ نفسك لملاقاة هذه الأنواع والأصناف المتباينة من الأخلاق وخذ ما سمحت به نفوس الناس منها .
أقسام التغافل : التغافل نوعان:
- التغافل المحمود.
- التغافل المذموم.
أولا / التغافل المحمود:
هو التغافل عن الزلات والأخطاء والعيوب التي لا يخلو منها إنسان، أو التغافل عن المعايب بسترها.
ثانيا/ التغافل المذموم :
التغافل عن المنكرات والمعاصي أو البدع، أو التغافل عما ينبغي عليه تعاهده أو القيام به من حقوق واجبة ، ونحو ذلك.
أهمية التغافل في حياتنا اليومية:
قليل منا من يتخلق بهذا الأدب الرفيع والخلق العظيم، والفن الراقي في التعامل، فالتغافل فن لا يحسنه إلا الكرام الأفاضل ذوو المروءة.
وكريم النفس لا يكثر التدقيق، ولا يقف عند صغائر الأمور، كما تقول العرب في أمثالها: لم يستقص كريم قط، وقال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يتصيد الزلات.
قال الشاعر:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
والتغافل عن الأخطاء ليس دليلا أبدا على السذاجة والغباء كما يظن البعض، لأن التغافل في مواقف كثيرة يكون هو العقل ومنتهى الحكمة والمروءة.
وقيل:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
فما أحوجنا أن نتخلق به في وقتنا الحاضر؛ في زمن كثرت فيه الأحكام المسبقة على الناس وفسدت العلاقات، فكان لذلك أثرا على الآداب والأخلاق، ولا شك أن مجال استعمال هذا الأدب واسع فسيح في حياة الإنسان؛ الصديق مع صديقه والجار مع جاره والقريب مع قريبه والأب مع أبنائه والزوج مع زوجته والمدير مع موظفيه والمعلم مع طلابه.
بعض صور التغافل
1- التغافل عن زلات ذوي الرحم، والصبر على أذاهم، وعدم قطعهم:
قد يحدث من بعض الأقارب شيء من الأذى بالقول أو الفعل، فالصبر عليهم حينئذ ومقابلة الإساءة بالإحسان عبادة، فقد قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان:20].
وكان السلف يقولون: أهلُك أحقُّ بحُسن صبرك، وأولى الناس بعفوك.
ولنا القدوة في نبي الله يوسف عليه السلام عندما تغافل عن تطاول إخوته في حقه؛ قال تعالى: ﴿قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون﴾ [يوسف: 77]
أي كتم ما في نفسه من الغضب على افترائهم عليه، ولم يظهر لهم تكذيبًا صريحًا حتى لا ينكشف أمره، بل صبر وأخفى غيظه.
قال أنتم شر مكانًا: وهذا قولٌ في نفسه لم يُسمعهم إياه. أي قال في داخله: أنتم أسوأ حالًا وأعظم جرمًا بما فعلتموه من الكيد والكذب وبيع أخيكم.
والله أعلم بما تصفون:أي الله أعلم بحقيقة ما تنسبونه زورًا وبهتانًا لي ولأخي.
وعن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال ﷺ: ( لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك ) رواه مسلم.
فهذا الرجل شكا للنبي ﷺ بعض أرحامه بأنه يصلهم ويحسن إليهم ، وهم يقابلون ذلك بالهجر والقطيعة، ويبذل الخير لهم، وهم يقابلون ذلك بالإساءة، ويعفو ويصبر عن جهلهم واعتدائهم، وهم يتمادون في الإساءة، فقال له النبي ﷺ: ( لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) والملّ هو الرماد الحار المحرق، والمعنى كأنك تُطعمهم شيئاً مُرّاً مؤلماً يحرق حلوقهم، وهذا من باب المبالغة في التعبير أي أنت أفضل منهم في الأخلاق والإحسان، وتصرفاتهم السلبية لن تؤثر فيك، بل ستكون وبالاً عليهم لإحسانك المستمر، ولا يزال معك من الله ظهير: أي معك عونٌ ونُصرة من الله تعالى، يحفظك ويؤيدك عليهم، ما دمت مستمراً على هذا الخلق الطيب والإحسان.
2- تغافل الزوج عما يكره من زوجته:
وقد ذكر لنا الله هذه الصفة في نبينا ﷺ في سورة التحريم قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: 3]
ففي هذه الآية الكريمة أن رسول الله ﷺ أسر لحفصة رضي الله عنها بسرّ، وطلب منها ألا تذكره لأحد؛ فذكرته لعائشة؛ فأطلع الله رسوله ﷺ على الأمر، فعاد عليها في هذا، وذكر لها بعض ما دار بينها وبين صاحبتها دون استقصاء لجميعه؛ تمشيا مع أدبه الكريم؛ فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى، ومضمون هذا أن الرسول ﷺ يعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده، ولكنه تغافل عنه كرما منه ﷺ حتى لا يكون العتاب قاسيا وشديدا .
وعن أنس قال: كان النبي ﷺ عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي ﷺ في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي ﷺ فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها ،وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت) رواه البخاري.
في هذه الحادثة النبي ﷺ لم يوبّخ الزوجة التي كسرت الصحفة (إناء الطعام)، ولم يعنّف الخادم، ولم يُحدِث خصومة أمام الناس؛ بل اكتفى ببيان السبب بلطف فقال: (غارت أمكم)، أي: هذا تصرف بدافع الغيرة، فخفّف وقع الموقف وستر الزلة، وعالج الأمر بحكمة عملية: فجمع الطعام ، وأعطى صحفة مكان أخرى حفظًا للعدل بين الزوجات.
فهنا تغافل النبي ﷺ عن هذه الهفوة التي وقعت بدافع الغيرة، وهو بهذا التصرف الحكيم يُعلّم الأزواج أن بيوت الناس لا تخلو من المشاحنات الصغيرة، وأن العلاج يكون بالحلم والتغافل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر.) رواه مسلم. معنى لا يفرك: لا يبغض.
في الحياة الزوجية بعض الأزواج لا يرى إلا السلبيات ، ويبالغ في إظهارها ، ويقول : زوجتي فيها وفيها من السلبيات، ولو تغافلت عنها وأبرزت المحاسن والصفات الطيبة، والإيجابية لظهر لك الكثير من الأمور التي كنت غافلا عنها ، فالتركيز على السلبيات والسيئات يجعل الإنسان يضيق ويسخط على الشخص الذي يعيش معه .
وعلى الزوج أن يفهم طباع زوجته وعلى الزوجة أن تفهم طباع زوجها ثم بعد ذلك يتم التغافل عن هذه الطباع السلبية فلو أن امرأة زوجها من النوع الغضوب فعليها إذن أن تحتويه، وهذا رجل زوجته من النوع العنيد أو العصبي يحاول أن يحتويها، فليس في الدنيا رجل كامل الأخلاق، ولا امرأة كاملة الأخلاق؛ خلقنا الله جميعا فينا النقص ليكمل بعضنا بعضا .
ومن التغافل بين الزوجين ترك الاستقصاء في كل الأمور: وأقصد بالاستقصاء: تتبع كل شيء بدقة زائدة، ومحاسبة الطرف الآخر على كل حركة أو كلمة أو تقصير، مثل: لماذا قلت كذا؟ لمَ تأخرت ؟ من كلّمك؟ لمَ وضعت هذا الشيء هنا؟ وكما قيل: ما استقصى كريم قط.
لو أخطأت الزوجة في إعداد طعام، يُتغافل الزوج ويشكرها على جهدها.
لو قصّر الزوج في كلمة ثناء أو نسي أمرًا يسيرًا، تتغافل الزوجة ولا تُحوّلها إلى خصومة.
إذا صدر موقف بدافع الغضب أو الغيرة، يُحمل على أحسن محمل ويُترك التدقيق فيه.
كذلك بعض النساء تدقق في أمور زوجها ماذا يقصد بكذا؟ ومن هذا المتصل بك؟ ولماذا تأخرت إلى هذه الساعة؟ خرجت من العمل من ساعتين أين ذهبت ، مع من تكلمت …..الخ
هذا التفصيل والتحليل والتدقيق هذه أمور لا يتسع لها العمر ولا الوقت ولا الصدر .
فكل إنسان له نقص وأخطاء، فلا يمكن إصلاح الحياة الزوجية على الكمال المحض، وكثرة التدقيق تولّد العداوة وتُطفئ المودة، بينما التغافل يُبقي جوّ البيت رحيمًا.
3- التغافل مع الأبناء:
لابد للأبوين من التحلي بهذا الخلق في تربية الأبناء، فأولادنا يختبرون الحياة ويجربون قدراتهم، ويقلدون أصحابهم، وينقلون للمنزل ما يتعلمونه خارجه، وهنا تكثر الزلات والهفوات، ولو وقف المربي موقف المحصي المتصيد للزلات والأخطاء لتعب وأتعب من حوله، لأنه في أغلب الأحوال لا يتعمد أولادنا فعل الخطأ؛ وفي كثير من الأحيان يكون الأمر خارجا عن سيطرة الطفل؛ كأن يتعثر في سجاد المنزل، أو يصطدم بالمنضدة أو يسقط كوبا… وهنا تتجلى قيمة التغافل.
وممارسة التغافل تقلل من انتقاداتنا لأولادنا؛ فإن كثرة تعليقاتنا السلبية على تصرفات أولادنا تضعف ثقتهم بأنفسهم، كما تجعلهم يتجنبون مجالستنا والتحدث إلينا، ويصابون بالعزوف عن ممارسة الجديد مخافة التعليقات السلبية، فيركنون للمنطقة الآمنة!
ومن ذلك التغافل عن بعض ما يصدر من الأولاد من عبث أو طيش(قلة عقل): فذلك نمط من أنماط التربية ، وهو مبدأ يأخذ به العقلاء في تعاملهم مع أولادهم ومع الناس عموما؛ فالعاقل لا يستقصي، ولا يشعر من تحت يده أو من يتعامل معهم بأنه يعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة؛ لأنه إذا استقصى، وأشعرهم بأنه يعلم عنهم كل شيء ذهبت هيبته من قلوبهم؛ ثم إن تغافله يعينه على تقديم النصح بقالب غير مباشر، من باب: إياك أعني واسمعي يا جاره، ومن باب: ما بال أقوام. وربما كان ذلك أبلغ وأوقع.
أيضا دوام الصلة الطيبة بين الآباء والأبناء خاصة في فترة المراهقة، هذه الفترة العمرية مراهقة للأبناء ومرهقة للآباء، يجعلها التغافل أكثر يسرا على المربي، فكثير من الآباء يترصدون أخطاء أبنائهم ويحصونها مهما كانت صغيرة، ويذكرونهم بها كلما سنحت الفرصة لذلك، ويكون ذلك سببا في تحطيم شخصياتهم واكتسابهم لعادات سيئة كالكذب والعناد، لتصير العلاقة بينهم سيئة ومكفهرة، وربما ينتج عن تلك المعاملة مشاكل لا تحمد عقباها، منها زوال الهيبة.
4-التغافل عند مخالطة الناس عما يقع من بعضهم:
الناس يكرهون الإنسان الذي ينظر إلى عيوبهم ويترك الحسنات، بل وأحياناً ينساها، فما من أحد يسلم من العيوب.
النبي ﷺ ، أثناء دعوته كان يمر بالقبائل؛ فمر بقبيلة اسمهم بنو عبد الله فوقف النبي ﷺ عليهم وقال : يابني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فأسلموا.
بحث عن شيء حسن يثني به عليهم فوجد ذلك في اسمهم فاستعمله في الثناء عليهم .
يقول سعيد بن المسيب : ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، ولا تذكر عيوب أهل الفضل تقديراً لهم.
ومن سلامة المسلم تغافله عن معاصي الناس وأخطائهم ما لم يجاهروا بها. فلا يفتش عنها بالتجسس والتتبع، وفي الحديث: (من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)
فمن تغافل عن عيوب الناس، وأمسك لسانه عن تتبع أحوالهم التي لا يحبون إظهارها؛ سلم دينه وعرضه، وألقى الله محبته في قلوب العباد، وستر الله عورته؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
وفي أحد المجالس شم عمر بن الخطاب ريحا سيئة (رجل أخرج ريح البطن) فقال: أحرج على من أخرج الريح أن يقوم من بيننا فيتوضأ، فقال أحد الصحابة: أو نتوضأ جميعا يا أمير المؤمنين؟ قال: أفلح وجهك .
وسأل عيسى عليه السلام الحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائما وقد كشف الريح ثوبه عنه، قالوا: نستره ونغطيه.
قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله، من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها.
وسئل الامام أحمد بن حنبل: أين نجد العافية ؟ قال: تسعة أعشار العافية في التغافل عن الزلات. ثم قال : بل هي العافية كلها.
حاتم الأصم:
من علماء القرن الثالث الهجري حاتم الأصم أتدرون لماذا سمي بالأصم؟ جاءت امرأة لتسأل عن مسألة، فاتفق أنها خرج منها صوت ريح البطن (ضراط ) دون أن تقصد ، فكربت وخجلت المرأة وتغير لونها واستولى عليها الحرج ، فقال حاتم: ما اسمك ؟ قالت فلانة ، قال ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصم فكرر السؤال وكررت الإجابة فقال ارفعي صوتك أنا لا أسمع فسرت المرأة بذلك، والتفتت لصديقتها قائلة : الحمد لله لم يسمع الصوت، فلقب بحاتم الأصم ولم يكن أصما إنما من كرم أخلاقه تصنع هذا .
ومن التغافل مع الناس الاستماع إليهم بسعة صدر: ربما يكون حديث أحدهم مملا أو أنك تعرفه تمام المعرفة، أو يكثر من تفاصيل بالنسبة لك تافهة، لكن من التغافل أن يتسع صدرك وتسمع لمن يتكلم وتحترمه وهو يتكلم.
يقول عطاء بن أبي رباح : إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد.
ومن التغافل في معاملة الناس مقابلة الإساءة بالإحسان:
فإذا وقع لك من بعض الناس إساءةً في القول أو الفعل، فبدل أن ترد عليهم بالمثل، تغافل عن إساءتهم، وتُظهر لهم إحسانًا، هذا التغافل ليس ضعفًا ولا عجزًا، بل هو ضبط للنفس وارتفاع عن سفاسف الأمور.
مر المسيح ابن مريم بقوم فقالوا له شرا فقال لهم خيرا فقيل له: إنهم يقولون شرا وأنت تقول خيرا فقال: كل ينفق مما عنده.
وأسمع رجل أبا الدرداء رضي الله عنه كلاما، فقال: يا هذا، لا تغرقن في سبنا، ودع للصلح موضعا؛ فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
وقيل للحسن البصري : إن فلانا قد اغتابك ، فبعث إليه طبقا من الرطب ، وقال : بلغني أنك أهديت إلي حسناتك ، فأردت أن أكافئك عليها ، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام.
5– التغافل مع العمال أو الموظفين:
ومعناه ألا يُكثِر المسؤول أو صاحب العمل من اللوم والعتاب على كل تقصير أو خطأ، فربما ترى الخطأ الصغير وتترك المؤاخذة عليه، إما لأنه يسير أو لأنه وقع عن غير قصد، وبهذا تُشعر العامل بالتقدير والثقة، لا بالخوف الدائم من المحاسبة على كل تفصيل، لأن كثرة اللوم تزرع الكراهية، بينما التغافل يجلب المحبة، ومن يرى أن خطأه اليسير يُغتفر، يحرص على إصلاح نفسه بطيب خاطر.
عن أنس بن مالك ، قال: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، والله ما قال لي: أف قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ رواه البخاري ومسلم.
وذلك لأن أنسا كطفل صغير تحدث منه هنات أو أخطاء في بعض الأمور التي تقع منه ، لكن النبي ﷺ كان لا يهتم كثيرا، ولا يبالي، ويذكر أن أنسا رضي الله عنه أرسله النبي ﷺ في حاجة له فلما أبطأ عليه خرج النبي ﷺ يطلبه فوجده واقفا يلعب مع الصبيان، ونسي حاجة رسول الله ﷺ فأمسكه من أذنيه وقال مداعبا: “يا ذا الأذنين لولا القصاص لأوجعتك بالسواك“، وطبعا السواك لا يؤلم أبدا، وإنما أراد النبي ﷺ أن يلفت نظره لنسيانه لحاجة رسول الله ﷺ.
وهذا زين العابدين بن علي يطلب من خادمه ماء ساخنًا، فيأتيه الغلام بالماء الساخن، وما إن يصل إلى سيده به، حتى يتعثر فيسقط الماء الساخن على جسد سيده، فتؤلمه سخونة الماء، وتظهر علامات الغضب على زين العابدين، فيسرع الغلام الذي تربى في بيت الصلاح والتقوى قائلًا: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]، فيقول زين العابدين: كظمت غيظي، فيقول الغلام: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، فيقول زين العابدين: عفوت عنك، فيكمل الغلام الآية قائلًا: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، فما يكون من زين العابدين إلا أن يكافئ هذا الغلام الذكي الذي أنجاه من مصيدة الغضب والسخط بكلمات القرآن الندية، وذكَّره بفضائل العفو والإحسان العلية، فقال في رضا وأريحية: اذهب فأنت حر لوجه الله.
وكان ابن عمر يشتري الرقيق(العبيد)، فإذا رأى من رقيقه أمراً يُعجبه أعتقه، فعرف رقيقه ذلك منه، فكانوا يحسنون العمل أمامه، فيعتقهم. فعاتبه أصحابه قائلين: «والله يا أبا عبد الرحمن ما هم إلا يخدعونك». فيقول: «من خدعنا بالله انخدعنا له»
وقال ابنه سالم أن ابن عمر ما لعن خادمًا قط إلا واحدًا، فأعتقه.
6- التغافل في المخاصمة والعتاب:
بمعنى ألا يستقصي الإنسان في الخصومة كل صغيرة وكبيرة ليُحاسب خصمه عليها، وألا يُكثر من تكرار العتاب واللوم، بل يتجاوز عن بعض الأخطاء ويتغافل عنها كأنه لم يَرَها.
وهذا التصرف الحكيم ولا شك يؤدي إطفاء نار الخصومة، وحفظ المودة لأن الإكثار من العتاب يُنقص المحبة، والتغافل يحفظها.
وسيرة نبينا – ﷺ– فيها الكثير من المواقف وأشهرها يوم الفتح العظيم حين مكّنه الله من رقاب من آذوه وسعوا لاغتياله، فلما وقف أمامهم لم يفصل في ذكر جرائمهم ومواقفهم السيئة وعداوتهم له، بل قال: «لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء»، هكذا بمنتهى البساطة ينسى الإساءة، ويتجاوز عمن دبروا أبشع المؤامرات لسفك دمه – ﷺ-
وقال رجل لابن السماك : غدا نتقابل فنتعاتب قال بل نلتقي فنتغافر .
وقال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ،فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه .
وقيل لبعض السلف: أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا.
ثمرات التغافل
1- يكسب صاحبه طمأنينة النفس وراحة البال:
ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان المشركون يسبونه ويشتمونه، فكان يقول لأصحابه: (أما يعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما وأنا محمد) مع علمه أنهم يقصدونه.
2- يسد باب النكد والشقاء على صاحبه:
عن علي بن أبي طالب قال: (من لم يتغافل تنغصت عيشته)، وهذا ما يعانيه الإنسان اليوم، يسمع ما يكره فيفكر فيه ويستمر في التفكير فيه وينغص عيشته، فالذي يقف عند كل كلمة وكل حركة وعلى كل خطأ أو يحاسب على كل صغيرة وكبيرة هو أكثر الناس شقاء وتعاسة.
3– دوام المودة والعشرة:
سواء بين الأقارب أو الأصدقاء أو الأزواج ؛ فكم من علاقات فسدت بسبب خطأ بسيط، وكم من بيت هدم بسبب تتبع الأخطاء والعثرات.
4- التغافل يطفئ ما يمكن أن ينتج عنه الشر:
لأن إحصاء كل صغيرة وكبيرة أمر لا يطيقه لا الكبير ولا الصغير، ولا القريب ولا البعيد وهو في الكثير من المواقف يشعل الغضب والشحناء في القلوب.
5– التغافل يكسب صاحبه الاحترام :
فالذي يتعامل بأدب التغافل وغض الطرف عن الزلات ،يعيش محبوبا ممن حوله مطمئن القلب، سليم الصدر من الأحقاد.