شرح الأربعون النووية

ألا وهي القلب
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُوْلُ: (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً . أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) رواه البخاري ومسلم .
(ألا وإن في الجسد مضغة ) مضغة، أي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان عند الأكل، وهي بمقدار الشيء الصغير.
(إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فيه إشارة إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه، واجتنابه للمحرَّمات واتِّقاءه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه؛ فإن كان قلبُه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرَّماتِ كلها، وتوقي الشبهات حذرًا مِنَ الوقوعِ في المحرّمات.
وإن كان القلبً فاسدًا، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلب ما يحبُّه، ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب، وقد مثل بعض العلماء هذا بالملك، إذا صلح صلُحت رعيته، وإذا فسد فسدت.
أهمية القلب:
الطريق إلى الله يقطع بالقلوب وليس بالأقدام ، فكلما كان القلب سليما معافى كان سيره حثيثا قويا، وكلما كان مريضا ضعيفا كان سيره متقطعا أو منعدما.
والقلب جعله الله محل الوعي والإدراك ، المخ مدير العمليات الفسيولوجية بالجسم ، أما العقل فهو محل الوعي والإدراك ، وكما رجح كثير من أهل العلم أن العقل محله القلب ، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]
فالقلب هو محل العقل الواعي ومحل الإدراك، والقلب فيه الخير والشر، وفيه الحب والبغض، وقد جعله الله محل المشاعر الإنسانية ، ومنعقد الإرادة عند الفعل ، ولذلك قال النبي ﷺ” إنما الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى “ ولو قرأنا في كل كتب الفقه عن النية وتفاصيلها نجد العلماء يقولون : والنية محلها القلب ، يعني أي عمل بداية الأمر فيه تكون من القلب .
والإمام السيوطي رحمة الله عليه له كتاب اسمه ” الأشباه والنظائر ” بين أن مراتب الأعمال في القلب خمس هي :
“الهاجس ، والخاطر ، وحديث النفس ، والهم ، والعزم .“
هذه المراتب الخمس تبين معنى قول النبي ﷺ: ” ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب .“
ما معنى هذه المراتب الخمس ؟
1- الهاجس:
الهاجس : الشيء أول ما يقع على القلب، فهو أمر جاء على البال ليس له مقدمات؛ قد يكون خيرا أوشرا، لكنه ألقي في القلب لإرادة فعل شيء، ولا يؤاخذ به إجماعًا، لأنه ليس من فعله ، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له عليه .
2- الخاطر:
فإذا تردد في الصدر فهو ” خاطر ” ، ولذلك نجد أن المفكرين والكتاب يعبرون عن كتاباتهم بالخواطر ، خواطر: أي مجرد أفكار من هنا وهناك ، أفكار تتردد في النفس فهو يترجمها لكتابات ، وهذه الكتابات لأنها كتبت من ناحية إنسانية أو عاطفية بعيدة عن النواحي العلمية المعقدة بعض الشيء تجد صدى عند الكثير من الناس .
والهاجس والخاطر يهجمان على النفس بلا مقدمات ويزولا بلا مقدمات ، يعني مجموعة أفكار تتردد على الذهن أو تتوارد على الذهن بخير أوشر، وهذه لا شيء فيها لا ثواب ولا عقاب ، وهذه طبيعة في الإنسان أن يرد عليه هذه الأمور .
فإذا تردد الأمر ووجدت له صدى في النفس حينئذ تحول الخاطر إلى :
3– حديث النفس:
وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا ؟ بمعنى أنك تأخذ الكلام أو الخاطرة وتبدأ تردد ماذا أفعل في كذا وكذا … يعني مثلا خطر ببالك أن تخرج صدقة فبعد أن يكون هاجسا شيء ألقي في قلبك يكون خاطرا يتردد في نفسك ، ثم تحدث نفسك ، وما المانع ؟ هل أتصدق أم لا ؟ بكم أتصدق ؟ في أي مكان؟ لمن أعطي ؟ حديث نفس .
وحديث النفس لا يؤاخذ عليه خيرا أو شرا لحديث النبي ﷺ ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ ) [1]
فإذا تطور الأمر ارتقى إلى :
4- الهم:
والهم هو نية فعل الشيء لكن بدرجة خمسين بالمئة ، يعني عندك إرادة للفعل لكنها ليست إرادة محققة كاملة ، هم بالفعل لما أودع الله فينا من القدرة على فعل الخير أو الشر كما قال جل وعلا : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) [الشمس7/8] ، والإلهام هنا معناه هداية الفطرة أو الغريزة ، أي إنسان خلقه الله عنده قدرة على الخير والشر، على فعل الحسن والسيء ، وإلا انعدم التكليف ، ما في أحد يفعل الخير فقط ولا يرد الشر على باله ، أو يفعل الشر فقط ولا يرد الخير على باله ، لكن قد يغلب جانب على جانب ، والهم يثاب عليه العبد في كما ورد في الحديث القدسي ” إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة” [2]
مثلا : غدا الاثنين هممت بالصيام ، ولكن في اليوم التالي شعرت بعطش شديد ، أو حدث مانع من الموانع فأفطرت ، مجرد الهم لك أجر صيام يوم ، فإذا صمت ؟ يكتب لك بعشر .
هممت أن أقيم الليل قلت : إن شاء الله سأستيقظ قبل الفجر بنصف ساعة وأصلي قيام الليل ، فغلبتك عيناك ونمت يكتب لك قيام ليلة كما قال النبي ﷺ قال: ” ما من عبد يحدث نفسه بقيام ساعة من الليل فينام عنها إلا كان نومه صدقة تصدق الله بها عليه وكتب له اجر ما نوى .“[3].
فإذا هممت بسيئة وتركتها لله جل وعلا تكتب لك حسنة ؛ كما في الحديث السابق: (وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) لكن من تركها لانشغال أو غفلة أو أمر طارئ جاءه اتصال نحتاجك في العمل ، فهنا هو هم بالسيئة وتركها لهذا السبب ، فلا له ولا عليه.
هم يوسف وهم امرأة العزيز :
وهذا يجعلنا نعرج على قصة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) [يوسف/24]
الهم هنا معناه كما ذكرنا أن كل إنسان خلق وفيه القدرة على فعل الخير والشر ، ونبي الله يوسف بشر ليس ملك من الملائكة ، يرى أمامه امرأة ذات جمال ، وهي زوجة عزيز مصر ، تدعوه لنفسها ، وقالت: ” هيت لك “ أي إنسان في هذا الموقف يتحرك فيه داعي الشهوة ، كرجل عنده هذه الغريزة، ولكنه امتنع عن ذلك ؛ كما قال تعالى: ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) [يوسف/24] وبرهان ربه كما رجح أهل العلم أن الله حفظه من أن يقع في هذه الفاحشة كما قال بعدها : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) [يوسف/24]
ونقل في كتب التفسير أن يوسف عليه السلام لم يهم بها ، ويقدر الآية هكذا “لولا أن رأى برهان ربه لهم بها “ وهذا غير صحيح، لأن الابتلاء هنا أن يكون عندك القدرة على الفعل وتمتنع ، وذكر العلماء أن الصبر ثلاثة أنواع :الصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية ، والصبر على قضاء الله .
في الصبر على قضاء الله النفس ليس لها حيلة فيه ، صبرت أم لم تصبر قضاء الله نفذ ، يليه الصبر على الطاعة ؛ أن تصبر على الصوم على الصلاة ….الخ
أشقّها وأصعبها الصبر عن المعصية ، أن يكون في يدك المال وتمتنع أن تنفقه في حرام أو شهوة، شباب وتمنع نفسك بالعفة عن الوقوع في الزنا ، ذا منصب وعندك قدرة وجاه وتمتنع عن أذى الناس وتقيم العدل ، هذا هو أصعب أنواع الصبر .
يوسف عليه السلام شباب وهذه المرأة سيدته وهو غريب في بلد لا يعرفه فيها أحد ، وفي مكان لا يراه أحد غير الله ، لكنه امتنع عن ذلك ، فهو هم بها كاستعداد فطري غريزي كأي رجل عنده ما عند الرجال من الرغبة والشهوة لكن الله تعالى حفظه ، وصرف عنه السوء والفحشاء .
ولاحظوا أن درجة الهم بين امرأة العزيز ويوسف اختلفت ولذلك فصل بين الفعلين قال: ( ولقد همت به وهم بها ) [يوسف/24] ، وبعدها قال ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ) [يوسف/25] واستبقا بألف التثنية ، لماذا قال : “ولقد همت” ولم يقل ” ولقد هما” ببعضهما ، وهنا قال: “واستبقا “؟
لأن فعل الاستباق واحد فجاء بألف الاثنين ، فيوسف يجري هربا منها ، لينجو بنفسه ودينه، وهي تجري وراءه تريد من باب الكبرياء أن تنال منه ، لأنه تركها في هذا الموقف، وهي التي عرضت نفسها عليه ، لكن لأن هم يوسف مختلف فصل بين الفعلين؛ فشتّان بين هم يوسف الصديق، وهم امرأة العزيز .
5- العزم:
والمقصود به الجزم بالفعل بدرجة 100% خلاص أنا نويت كذا ، وبدأت أتوجه للقيام بهذا الفعل ، فهذه يثيب الله عليها في الخير خيرا ، وفي الشر شرا ، فمن عزم على فعل أكيد وفعله كان له الأجر كاملا في الخير ، ومن عزم على فعل شر ولم يفعله ، هذا أيضا عليه الوزر كاملا .
هل هناك أدلة على هذا الأمر ؟ نعم أدلة كثيرة منها :
الأول: قول الحق جل وعلا : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [النور/19]
يحبون الحب هنا ليس قولا باللسان ولا عملا بالجوارح ، لكنه مسألة قلبية ، هو يحب مسألة قلبية ، لكن لأنه أحب أن يرى فاحشة تنتشر وهتكا لأعراض المسلمين الأبرياء ، وسره ذلك توعد الله من يقع في هذا الفعل بأن لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ؛ فهذا لم ينطق بلسانه وقال فلان أو فلانة كذا ، ولم يفعل شيئا بجوارحه ، إنما أحب وفرح ، وهذه الآية جاءت في وسط الآيات التي تكلمت عن حادثة الإفك ، وكيف أن من المنافقين من دعم هذه الإشاعة وهذا الإفك عن الصديقة عائشة رضي الله عنها ، وروج لها ، ومنهم من فرح بها، فبين الله تعالى أن من يفرح بهتك الأعراض ويُسر بالنيل من أعراض المسلمين والمسلمات، رغم أن هذا عمل قلبي إلا أن له عذاب أليم في الدنيا والآخرة .
الدليل الثاني في الخير قصة الخليل إبراهيم مع ولده قال: ( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) [الصافات/102]
إبراهيم أخذ ولده وأمسك بالسكين كما وصف الله ( فلما أسلما وتله للجبين ) [الصافات/103] الآن عزم على الفعل بدأ التنفيذ (وتله للجبين) يعني جعله على بطنه حتى يذبحه من الخلف لئلا يعاين الموت ( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) [الصافات 104 /105] فأعطى الله الأجر كاملا لإبراهيم رغم أنه لم يذبح ، لكنه عزم وأراد التنفيذ بدرجة مئة بالمئة .
الدليل الثالث بسورة القلم وهذه القصة كما ذكرها ابن عباس قصة رجل صالح كان عنده جنة أي بستان ممتلئ بالثمار والأشجار والخيرات و كان الرجل يجعل للفقراء نصيبا من هذه الجنة وثمارها ، لما مات الرجل اجتمع أولاده واتفقوا ألا يعطوا الفقراء شيئا وعزموا عزما أكيدا على أن يأخذوا الثمار مبكرا قبل أن يعلم الفقراء فيأتون إليهم ونقرأ الآيات في سورة القلم: ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (القلم:17) أَي: حلفوا ليقطعن ثمارها بعد نضجها واستوائها وقت الصباح ، قبل أَن يخرج المساكين ، كي لا يشعروا بهم ، فلا يعطونهم منها ما كان أَبوهم يتصدق به عليهم منها{وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)}: أَي ولا يقولون إِن شاءَ الله، وقيل: المعنى ولا يستثنون منها حصة المساكين كما كان يفعل أَبوهم… لا حظوا ! هم عزموا عزما أكيدا على ذلك ، لكن لم يفعلوا فعاقبهم الله جل وعلا : ( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)) الطائف كما قال العلماء صاعقة، أو نار أحرقتها فصارت أرضا سوداء لا شيء فيها( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)) أَصبحت محترقة تشبه الليل في السواد …ثم يصور لنا القرآن مشهد استيقاظهم وهم ذاهبون للجنة لقطع الثمار مبكرا فلما أصبحوا ” فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)” أَي فاندفعوا مسرعين وهم يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمسارّة متواصين قائلا بعضهم لبعض: لا يمكّن أَحد منكم اليوم مسكينا من دخول الجنة عليكم، {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)}:يعني على عزم وجد قادرين سنقطع الثمار ونأخذها ولا نترك شيئا للفقراء ” فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) لما رأوا الجنة وهي محترقة لا ثمر ولا شجر قالوا إِنَّا لَضَالُّونَ فلما بحثوا وتأكدوا قالوا : ” بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) “ فعاقبهم الله على عزمهم منع الزكاة عن الفقراء.
الدليل الرابع من السنة النبوية عن أبي بكرة قال النبي ـ ﷺ: “إذا التقى المسلمانِ بسيفَيْهما فالقاتل والمقتول في النار” قلت: يا رسول الله هذا القاتِل فما بالُ المقتول؟ قال: “إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه” [4]
فالقاتل عرف ذنبه لكن المقتول ما جنايته ؟ قال: “إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه” لقد بلغ درجة العزم على أن يقتل أخاه حتى وإن كان هو المقتول ، مجرد العزم جعله مساويا لخصمه في هذا الفعل ، فلا يحل لمسلم أن يرفع السلاح في وجه أخيه ، القاتل والمقتول في النار .
الدليل الخامس: حديث أبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ : ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال : ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر.
وأحدثكم حديثا فاحفظوه : إنما الدنيا لأربعة نفر :
- عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل“
- وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء“
- وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل.
- وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء.“[5]
إذن ننتبه لهذا الأمر أن القلب فيه:
الهاجس ، والخاطر ، وحديث النفس ، والهم ، والعزم .
هذه الخمس مراحل قلبية ثم الجوارح هي المنفذة ؛ فالقلب هو المدير المسؤول، ثم الجوارح منفذة لإرادة القلب .
ولذلك العلماء لا يتكلمون عن تزكية اليد ، ولا تزكية القدم ، ولا العين ، ولا الأذن ، إنما تزكية القلب نفسه وتطهيره ، فالقلب هو محل مخاطبة الله عز وجل لعباده ، هذا هو محل التطهير والتنقية، ولذلك قال الله عن الذين في قلوبهم مرض : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) [المائدة/41] وقال في أهل الإيمان (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) [المجادلة/22] وكتب لفظ معبر عن قوة الإيمان في القلب فما كتبه الله لا يمحى ، وأمدهم الله بمدد من عنده وأيدهم بروح منه .
إذن فلينتبه كل واحد منا إلى قلبه بتطهيره ، وحبه لطاعة الله ، وبعده عن كل غذاء من مال حرام ، أو شبهة ، أو شهوة ، وعن كل شيء يسخط الله سبحانه وتعالى .
وبهذا يتضح معنى قول النبي ﷺ: ” ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب .“
أهم ما يستفاد من الحديث:
- الحلال: ما أحله الله ولم يرد تحريمه بنص صريح.
- الحرام: ما حرم بنص صريح أو إجماع أو قياس مرجح.
- المشتبهات: أمور فيها شبه من الحلال وشبه من الحرام، قد تكون لجهل الناس أو اختلاف الفقهاء أو عدم وضوح الأدلة.
- التحليل والتحريم حق الله وحده؛ فلا يملك أحد من البشر أن يحلل أو يحرّم إلا بإذن الله، ومن فعل ذلك أو رضي بفعله اعتُبر شركًا، كما وقع عند بعض أحبار اليهود ورهبان النصارى.
- كل ما حرّم الله فيه ضرر أو خبث، وكل ما أحله طيب وفيه مصلحة للناس.
- ما يؤدي إلى الحرام يعتبر حرامًا، وتشمل الوسائل الظاهرة والخفية.
- النية الحسنة لا تبيح ارتكاب الحرام، فالحرام يظل حرامًا وإن كانت النية حسنة.
- أن تبرئة العرض أمر مطلوب شرعا فينبغي على العبد أن يحرص على الابتعاد عن كل ما يدنس عرضه ويعرض سمعته أو أهله أو ذريته لقالة السوء
- الورع: ترك ما يريب المسلم إلى ما لا يريبه، أي تجنب المشتبهات حفاظًا على الدين والعرض.
- الحكم الشرعي ثابت بالدليل، لكن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان والواقع، فعلى المفتي مراعاة الواقع عند تطبيق الحكم الشرعي.
- تحريم الحرام ليس تضييقًا على الفرد فقط، بل حماية للمجتمع كله من الأضرار؛ مثال: تحريم السرقة أو الزنا أو القتل يحمي الفرد والمجتمع معًا.
- المبالغة في التحريم ليست منهج السلف، كما أن تمييع الأحكام القطعية خطأ.
- الورع يظهر في ترك ما يمكن أن يشك فيه المرء حتى لا يقوده ذلك إلى الحرام.
- صلاح القلب سبب لصلاح الجوارح والأفعال، وفساد القلب يؤدي إلى فساد الأعمال.
[1] أخرجه البخاري في العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، رقم 2528، ومسلم في الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة، رقم: (127)
[2] أخرجه مسلم في الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة، رقم 131) )
[3] أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الصلاة، باب فضل قيام الليل، رقم 1390، عن أبي ذر رضي الله عنه، وصححه الألباني.
[4] أخرجه البخاري في الحدود، باب إذا التقى اثنان بسيفيهما، رقم 6873، ومسلم في القتل والحدود، باب إذا التقى اثنان بسيفيهما فالمقتول والقاتل في النار، رقم 1705.
[5] أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء أن الدنيا لأربعة نفر، رقم 2325، وقال عنه: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب النية، رقم 4228، وأحمد في مسند الشاميين (4/231)، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي وصحيح الترغيب والترهيب رقم 16.