شرح الأربعين النووية

8- أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ وَيُقِيْمُوْا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهَمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى) [1]
شرح الحديث
هذا الحديث من الأحاديث المهمة التي يجب فهمها بشكل صحيح، خاصة أن من يلقون الشبه من كارهي الإسلام يستدلون بهذا الحديث على أن الإسلام انتشر بحد السيف ، وأنه دين وحشية ودماء، فيأخذون هذا الحديث للتدليل على صحة ادعائهم.
وفي الاتجاه المعاكس يستدل به في هذه الأيام الدواعش ومن سار على نهجهم قديما على أن كل من خالفهم في المنهج والدين يؤخذ ويقتل.
(أمرت) من الذي أمر؟ الله عز وجل، والأمر حينما يكون من الله لنبيه ﷺ إنما هو أمر لنا، وليس من خصائصه ﷺ، فهو أمر مأمور به جميع المسلمين أن يكفوا أيديهم أثناء القتال عن كل من نطق بالشهادتين لأنه صار معصوم الدم.
(أمرت أن أقاتل الناس) وكلمة الناس هنا ليس المقصود بها العالم أجمع، هذا لا يقول به أي عاقل، إنما هو لفظ عام أريد به خاص.
وحتى نفهم هذا الحديث بشكل جيد ينبغي أن نفهم شيئا وهو ما سبب الحرب في المقام الأول؟
حينما تعتدي دولة قوية على دولة أخرى فمن حق الدولة الأخرى أن ترد هذا الاعتداء، إذا سلبت الكرامة والعرض، وإذا سلبت الأرض، وإذا أزهقت الأرواح وسفكت الدماء، فمن حق أي دولة في العالم في التاريخ كله قديما وحديثا أن تسترد كرامتها، وأن تقوم باسترداد ما سلب منها من أرض أو مال وكذلك التعويض عما حدث من سفك للدماء، فالإسلام لم يأت بشيء فريد أو عجيب، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]، وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [التوبة: 36]
إذن هو ليس قتلا من أجل القتل، أو من باب التشهي لسفك الدماء، إنما هو مقابلة الاعتداء بالاعتداء، ومن يتربص ويريد أن ينال من الأرض أو العرض، فإنه لا بد وأن يكون أمامه قوة تردعه، هذا أمر معروف في التاريخ قديما وحديثا.
ما الفرق بين القتل والقتال؟
وحينما يتكلم المغرضون عن هذا الحديث يخلطون بين الفعلين: قتل وقاتل.
قتل: أي أن شخص جاء على أناس عزل لا سلاح لهم، ولا منعة لهم فقتلهم، هذا لا يفعله أي إنسان عاقل فضلا عن إنسان يدين بدين كدين الإسلام الذي عنده ما عنده من أخلاق الحروب، فالنبي ﷺ، لم يؤمر بقتل الناس، لكنهم يلبسون على الناس فيقولون: (أمرت أن أقاتل الناس (أي كل الناس يقتلون!! كلا توقف أنت جاهل باللغة العربية.
لكن قاتل في اللغة العربية على وزن فاعل، أي أن هناك مقاتلة من الطرفين، في حرب وقوات عسكرية وسجال بين الطرفين، وهذا مثل: حاور وجادل وخاصم، أي أن هناك حوار وأخذ ورد وتفاعل بين الطرفين.
إذن معنى (أمرت أن أقاتل الناس) أنه إذا حدثت حرب وقتال فالنبي ﷺ مأمور من ربه عز وجل أن يقاتل هؤلاء الذين يريدون مقاتلة المسلمين، وهذا أمر بدهي من باب الدفاع وليس العدوان، وأكرر إن هذا أمر معروف في أي أمة وفي أي دولة أن من يعتدي عليها لا بد وأن يقابل بقوة رادعة لهذا الأمر.
(حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)
معناه أنه إذا قام شخص فقتل من المسلمين من قتل واعتدى وسفك الدماء، ثم حدث القتال بيننا وبينهم، فبينما هم كذلك أعلن إسلامه، ماذا سيحدث هنا؟
من آمن لا يعاقب ولا يقاتل أو ولا يقتل بجرائمه التي فعلها قبل أن ينطق بالشهادتين، فهو معصوم الدم لا يقتل، ومعصوم المال لا يستباح ماله كغنيمة، إلا بحق الإسلام.
لماذا أخبر الرسول عن هذه الثلاثة فقط؟ ولم يخبر عن بقية أركان الإسلام؟
لأن من يدخل في الإسلام ينطق بالشهادتين، ثم عليه أن:
- يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة باعتبار أن هذه من الشعائر الظاهرة التي يجب على المسلم أن يفعلها.
- ثم الصيام، وهو امتناع عن الطعام والشراب وهذا سر بين العبد وربه.
- ثم الحج، وهو أيضامرتبط بالاستطاعة وهذا أمر لا يفرض فهو بين المسلم وربه هل يستطيع أم لا يستطيع؟
(فإن قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وفي رواية ثانية: (بحق الإسلام) حق الإسلام المقصود به: إذا كان هناك جرائم ارتكبها كحد من حدود الله، أسلم ثم قتل نفسا بغير حق، هنا يقام عليه القصاص، أو إذا ارتكب أي جريمة عليها حد أو عقوبة من العقوبات، فإنه يعاقب كسائر المسلمين، والحدود التي بينها الله سبحانه وتعالى كحد الزنا أو السرقة هذا هو المقصود بحق الإسلام.
كيف يصبح معصوم الدم، وقد قتل مسلمين؟
لا شيء عليه الآن لأنه بإسلامه أصبح معصوم الدم، وعفا الله عنه فيما مضى قبل إسلامه، ولذلك النبي ﷺ في فتح مكة كان فيهم هؤلاء الذين سفكوا دماء المسلمين وفيهم من استحل الدماء والعرض والمال وعذبوا المسلمين، وفعلوا ما فعلوا، ولم يأخذهم النبي ﷺ لمحاسبتهم بأثر رجعي عما حدث.
فهذا مثلا أبو سفيان ألم يكن عدوا لله ورسوله قبل فتح مكة، وكان قائد المشركين في أكثر من معركة؟ خالد بن الوليد؟ عمرو بن العاص؟ أسماء كثيرة جدا كل هؤلاء بمجرد نطقهم للشهادتين أسلموا وأصبح كل شيء قبل الإسلام كعدمه.
عمرو بن العاص – رضي الله عنه- حكى قصة إسلامه فقال: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ﷺ فقلت ابسط يمينك فلأبايعك فلما بسط يده إليّ ليبايعني قبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يُغفَر لي. قال: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله.)[2]
فمعنى الحديث أن الرسول ﷺ أمر إذا حدث اعتداء على المسلمين أمر أن يقاتلهم فمن أسلم منهم صار معصوم الدم، لا يتعرض له.
(وحسابهم على الله) يعني نقبل ظاهرهم، والله يتولى سرائرهم، فلن يحاسب أحد على ما في باطنه، ولن يحاسب أحد على ما يغلب على ظننا، ولا يجوز أن نتهم أحدا أنه أسلم نفاقا، أو أسلم تعوذا حتى يتقي قوة المسلمين ويرد عن نفسه الأذى.
ماذا لو كان قائلها قالها تعوذا، اتقاء للقتال، فادعى كذبا ونفاقا الإسلام، هل يقبل منه ذلك؟
أي نعم يقبل ، وهذا الذي حدث مع أسامة بن زيد رضي الله عنه حينما كان في سرية من المسلمين وحدثت مواجهة واعتداء بينهم وبين مجموعة أخرى من المشركين، والقصة في الصحيحين: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته. فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟»
قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها مخافة السلاح.
قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت ذلك اليوم.
(وفي رواية أخرى في صحيح مسلم) قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان قاتلا، وإنما قالها مخافة السيف.
قال: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: قلت: يا رسول الله، استغفر لي. قال: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» فجعل لا يزيد على أن يقول: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» [3]
فهذا الحديث يدل على خلق من أخلاق الحرب في الإسلام وهو أننا رغم ما يحدث من أعدائنا من اعتداء وسفك للدماء؛ لكن من قال منهم لا إله إلا الله صار معصوم الدم لا يحاسب على آثامه التي فعلها قبل أن ينطق بالشهادتين، هذا هو المقصود.
وتأمل عظمة هذا الدين حينما يكون أمامنا مجرم حرب واعتدى على المسلمين وقتل وسفك الدماء، ثم نطق بالشهادتين صار معصوم الدم.
إذن معنى الحديث:
أمرت من الله عز وجل أن أقاتل المشركين الذين رفعوا السيف وقاتلونا، وأرادوا بذلك النيل من المسلمين ومن أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، فإذا حدثت المقاتلة بيننا وبين هؤلاء وقال أحدهم والحرب دائرة أو قالت جماعة منهم نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأعلنوا دخولهم في الإسلام صاروا معصومين الدم، ولا يحاسب أحدهم على أي جريمة حدثت منه قبل دخوله في هذا الدين.
فوائد من الحديث:
- وجوب شهادة أن لا إله إلا الله بالقلب واللسان، فإن أبداها بلسانه ولا ندري عما في قلبه أخذنا بظاهره، ووكلنا سريرته إلى الله عزّ وجل، ووجب الكفّ عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.
- الإسلام يعصم الدم والمال، وكذلك العرض، الحديث (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).
- الأحكام إنما تجري على الظواهر، والله يتولى السرائر.
- مؤاخذة من أتى بالشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة بالحقوق الإسلامية، من قصاص، أو حد، أو غرامة لإتلافشيء ونحو ذلك.
- حساب الخلق على الله عزّ وجل، وأنه ليس على الرسول ﷺ إلا البلاغ، وكذلك ليس على من ورث الرسول إلا البلاغ، والحساب على الله عزّ وجل.
- دل الحديث على مشروعية القتال لمن يقاتل المسلمين ويعتدي.
- من أقرّ بالشهادتين قبل منه، وعصم دمه وماله وعومل معاملة المسلمين ثم إذا دخل في الإسلام أمر ببقية شرائع الإسلام فإن التزم كان مسلما وإن لم يلتزم الشرائع أو وحصل منه شيء من النواقض بطل إسلامه ولم يحكم له بذلك.
- قوله ﷺ(وحسابهم على الله عز وجل ) يعني أن الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا أما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل؛ فإن كان صادقا أدخله الله الجنة بذلك، وإن كان كاذبا كان في جملة المنافقين الذين يدخلهم الله في الدرك الأسفل من النار، وقد كان النبي ﷺ يعامل المنافقين الذين يظهرون الإسلام معاملة المسلمين ويجريهم على أحكام الإسلام الظاهر؛ مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن.
[1] صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب “وجوب الإيمان بالله ورسوله: حديث رقم (25) ، وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب “قِتالِ النَّاسِ حتَّى يقولوا لا إله إلا الله” حديث رقم (22)
[2] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب «كون الإسلام يهدم ما قبله رقم الحديث (121)
[3] مُتَّفَقٌ عليه، أخرجه مسلم (96) في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله. والبخاري (4269) في كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة إلى الحرقات.