شريعة أرحم الراحمين

تاريخ الإضافة 31 مارس, 2023 الزيارات : 952

شريعة أرحم الراحمين

 في شهر رمضان الماضي جاءني سؤال عن شخص كان مصابا بضعف في إحدي الكليتين ونصحه الأطباء أن يفطر في رمضان لأنه يحتاج إلى شرب كميات كبيرة من الماء فعاند وصام فأصابه فشل كلوي-عافاكم الله- واحتاج بعدها لعمل غسيل كلوي كل أسبوع.

 وهذه مسألة تحتاج منا أن نتوقف معها اليوم لنفهم شريعة أرحم الراحمين فهما صحيحا، فهذا الشخص لو أنه استجاب لنصيحة الأطباء وأخد برخصة الله ما ازداد مرضه إلي هذا الحد.

نرى كثيرا من الناس يلزم نفسه المشقة تدينًا ، ويصيبه الضيق والحرج بسبب مرضه، ويشق على نفسه تحت مسمي الطاعة لله، والتدين ، وأنا مستحيل أن أفطر ... لكن يا أخي أنت عندك عذر يقبله الله، عندك رخصة من الله فاقبلها، لقد خلقنا الله ضعفاء كما قال تعالى : ( وخلق الإنسان ضعيفا)[النساء:28 ] وأي إنسان لا يسلم من الآفات والأمراض.

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}:

فمن خصائص التشريع في الإسلام: التيسير ورفع الحرج عن المكلفين، وهذا التيسير مبني على رعاية ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه، وتعدد مشاغله، وضغط الحياة ومتطلباتها عليه، وشارع هذا الدين رؤوف رحيم، لا يريد بعباده عنتًا ولا رهقًا، إنما يريد لهم الخير والسعادة وصلاح الحال والمآل في المعاش والمعاد.

كما أن هذا الدين لم يأتِ لطبقة خاصة، أو لإقليم محدود، أو لعصر معين؛ بل جاء عامًا لكل الناس، في كل الأرض، وفي كل الأزمان والأجيال، وإن نظامًا يتسم بهذا التعميم وهذه السعة؛ لا بد أن يتجه إلى التيسير والتخفيف، ليتسع لكل الناس، وإن اختلف بهم المكان والزمان والحال، وهذا ما يحسه ويلمسه كل من عرف هذا الدين.

فالقرآن مُيسَّر للذكر، والعقيدة مُيسَّرة للفهم، كما أن الشريعة مُيسَّرة للتنفيذ والتطبيق، ليس فيها تكليف واحد يتجاوز طاقة المكلفين، كيف وقد أعلن القرآن هذه الحقيقة في أكثر من آية، فقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة:286)، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} (الطلاق:7)، كما علَّم المؤمنين أن يدعوا ربهم فيقولون: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة:286)، وقد ورد في الصحيح: أن الله استجاب لهم.

وقد نفى القرآن كل حرج عن هذه الشريعة، كما نفى عنها العنت والعسر، وأثبت لها التخفيف واليسر، قال تعالى وهو يحدثنا عن رخص الصيام، من الفطر للمريض والمسافر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185).

وجاءت الأحاديث النبوية تؤكد هذا الاتجاه القرآني إلى التيسير نقرأ فيها: “بُعثت بحنيفية سمحة”، إنما بُعثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين”، يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا”.

وقد كانت سمة الرسول المميزة له في كتب أهل الكتاب هي سمة المُيسِّر، ورافع الآصار والأغلال التي أرهقت أهل الأديان السابقة، كما قال تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157).

ومن هنا شرع الإسلام الرخص عند وجود أسبابها، وذلك كالترخيص في التيمم لمن خاف التضرر باستعمال الماء لجرح أو لبرد شديد، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}” (النساء:29)، {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195) وكذلك الترخيص في الصلاة قاعدًا لمن تضرر من الصلاة قائمًا، والصلاة بالإيماء مضطجعًا أو مستلقيًا لمن تؤذيه الصلاة قاعدًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صل قائما فإن لم تستطع فصل جالسًا فإن لم تستطع فمستلقيا فإن لم تستطع فعلي جنب.)

ومثل ذلك الترخيص في الإفطار للحامل والمرضع؛ وكذلك لمن كان مريضًا أو على سفر، ونلاحظ أنه مع بعض الأمراض قد يستطيع المسلم صيام رمضان ولكن ببعض المشقة، ويوجد مرض آخر الصيام معه يضره ويوذيه، هنا يجب الإفطار .

 وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من شدد على نفسه، وصام في السفر، مع شعوره بشدة المشقة، وحاجته إلى الفطر، فقال في مثله: “ليس من البر الصيام في السفر” وهذا يعتمد علي مدي مشقة السفر وعمر المسافر وهل هو مسافر في صيف أم شتاء ومدي راحة وسيلة السفر..

“المشقة تجلب التيسير”:

ومن هنا أصبح من القواعد الفقهية، هذه القاعدة الجليلة: “المشقة تجلب التيسير”. فإذا عجزالمؤمن أو ضعف جاء التخفيف من الله تعالى ، والله سبحانه قال : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]. وقال تعالى:  {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]،  فالحرج مرفوع عن ديننا بنص القرآن، والعنت مدفوع ومنفي عنه، فليس في ديننا حرج.

والحرج في اللغة أصله: المكان الضيق بسبب الأشجار الكثيفة الملتفة التي لا تسمح بالحركة والخروج، إلا بعناء ومشقة. ثم استُعمل استعمالا معنويا، للدلالة على حالات الضيق الشديد التي تحيط بالإنسان، ولا يجد منها مخرجا، أيًّا كان نوعها وسببها. 

وكل (حَرَج) في القرآن فهو بمعنى الضيق الشديد أو المنع، والمقصود: أن تكاليف الدين ليس فيها حرج, ولا ينبغي أن يكون فيها حرج، فالحرج مرفوع عنها ومنزوع منها ابتداء.

فإذا أتي العذر، أتت الرخصة كما في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصُه كما يكرَه أن تؤتى معصيته) رواه أحمد، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه)

ونفهم من هذا الحديث: أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُحِبُّ للمسلِم أن يأخذَ بالرُّخَص الشرعيَّة التي رخَّصها لعباده ، رحمةً بهم ، فلا ينبغي للعبد أن يأنف عن قَبولِ ما أباحَه الشرعُ ووَسَّع فيه، ويستنكف عن أن يترخص في خاصة نفسه ، حين الحاجة إلى مثل هذه الرخص ، بحدودها الشرعية ؛ فهذا ممَّا يكرَهه الله عزَّ وجلَّ ؛ كما يكرَه أن يتعدَّى الإنسانُ حدودَ الله فيأتي المعصية ؛ وفي هذا تأكيدٌ لمشروعية الرخص ، وحث على قَبولها والتيسير بها ، وعدم التعنت والإشقاق بتركها .  

يقول ابن القيم : ” فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – أتم دلالة وأصدقها” [إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11)

الأجر كاملا:

أضف إلي هذا أنه مع وجود العذر يأخد المؤمن أجره كاملا ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:  (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) رواه البخاري.
فإذا ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻼً ﻣﻦ ﻋﺎﺩﺗﻚ ﺃﻥ ﺗﺼﻠﻲ ﻣﻊ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﺛﻢ ﻣﺮﺿﺖ ﻭﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻊ ﺃﻥ ﺗﺼﻠﻲ ﻣﻊ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻓﻜﺄﻧﻚ مصلٍّ ﻣﻊ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻳﻜﺘﺐ ﻟﻚ ﺳﺒﻊ ﻭﻋﺸﺮﻭﻥ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﻟﻮ ﺳﺎﻓﺮﺕ ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻋﺎﺩﺗﻚ ﻭﺃﻧﺖ ﻣﻘﻴﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻠﺪ ﺃﻥ ﺗﺼﻠﻲ ﻧﻮﺍﻓﻞ، أو ﺃﻥ ﺗﻘﺮﺃ ﻗﺮﺁﻧًﺎ، ﻭﺃﻥ ﺗﺴﺒﺢ ﻭﺗﻬﻠﻞ ﻭﺗﻜﺒﺮ، ﻭﻟﻜﻨﻚ ﻟﻤﺎ ﺳﺎﻓﺮﺕ ﺍﻧﺸﻐﻠﺖ ﺑﺎﻟﺴﻔﺮ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﺘﺐ ﻟﻚ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﺗﻌﻤﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻠﺪ ﻣﻘﻴﻤًﺎ، ولذلك لما مرض ابن مسعود بكى، فسأله بعض أصحابه، قالوا: هل تبكي جزعاً من المرض؟، فقال: لا، ولكنه قد نزل بي في وقت فترة، يعني: في وقت فتور من الأعمال، أي لم يكن مُجدًّا في الأعمال الصالحةلا فحزن لذلك.

التشدد في دين الله ليس منهج السلف:

والتشدد في دين الله ليس منهج السلف، تقول عائشة: ( ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن آثما. ) ومن زعم أن التشدد منهج السلف فهو واهم، (والسلف هم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الذين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى على اعتبار أنهم القدوة الصالحة،  وهم الذين قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)

يقول سفيان الثوري : (التشديد يحسنه كل أحد، إنما الرخصة من ثقة.) كلمة حرام ليست صعبة ، ولن يسألك الله أي إمام كنت تتبع؟

وليس المقصود بأخذ الرُّخَص تتبع رُخَص المذاهب الفقهيَّة وأقوال العلماء ، واختيار الأسهل منها ؛ بل المراد الرُّخَص الشرعيَّة التي جاء الدليلُ الشرعيّ بالترخيص فيها.

ولكن الذي منعه العلماء هو الانتقال بين آراء العلماء اتباعا للهوي دون النظر للدليل الشرعي، فمثلا شخص يأكل الربا فسمع الشيخ فلان يقول: البنوك تعطي فوائد ربحية وهذه ليست حرام فيأخذ بها.

ومثلا في زمن كورونا نحن هنا في عدد من المساجد بمونتريال نأخذ برأي الحنابلة بجواز صلاة الجمعة قبل الزوال ( قبل الظهر) لأن النبي صلاها أحيانا قبل الزوال ، وفي نفس الوقت لما كانوا يحددون لنا عدد المصلين بعشرة مصلين فقط ثم زادوا العدد لخمسة وعشرين ، خالفنا فيها المذهب الحنبلي، وهم يقولون : إن العدد في صلاة الجمعة لا يقل عن أربعين.

ومثلا في موضوع الجيلاتين إذا دخل في دواء نقول إنه حلال ونأخذ بقول الفقهاء الذين قالوا بالطهارة بالاستحالة حتي لا نشق علي أنفسنا.

إذن يوجد فارق بين التشدد مع وجود الرخصة والورع مع وجود الشبهة ( فمن اتقي الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. )

الورع درجة فوق درجة الكف عن الحرام وليست ملزمة للجميع… الورع هو البعد عن الشبهة أما الأخذ بالتيسير في فتوي معتمد علي دليل صحيح.

ولذلك أقول : إذا كان هناك قولان متكافئان أو متقاربان في الدليل ولكن أحدهما أحوط والآخر أيسر، فبماذا آخذ؟

آخذ بالأيسر، والمسلم العامي ليس له مذهب، إنما مذهبه مذهب من يفتيه، ومن تمذهب بمذهب فلا حرج عليه، لكن لا يتعصب لمذهبه، ويجوز له مخالفة مذهبه إذا قال له عالم ثقة : مذهبك ضعيف في هذه المسألة وأرى أنك تتبع كذا لأن السنة النبوية جاءت فيها الأحاديث بكذا واقتنع بكلامه لا مانع أن يترك مذهبه…

 فعلي سبيل المثال الإمام مالك كان يكره صيام الستة من شوال حتي لا يعتقد بفرضيتها… فأنا أخالفه وأصومها لثبوت الحديث الصحيح فيها .

ومذهب مالك أن تبدأ الصلاة هكذا : الله أكبر(الحمد لله رب العالمين ) فقط.

هكذا مباشرة فيُكره عنده دعاء الاستفتاح والاستعاذة والبسملة، طيب أنا عندي عشرات الأحاديث في هذه السنن في البخاري ومسلم وكتب السنن ، كلها جاءت باستحباب دعاء الاستفتاح والاستعادة والبسملة …. فهل أترك قول مالك ؟ أي نعم لا مانع، فيدع المسلم العصبية ويخرج من سجن التقليد، إلى سعة الدليل.

 والإمام النووي قال : المختلف فيه لا إنكار فيه.

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1033 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع