شرح الأربعون النووية 27- البر ما اطمأنت إليه النفس

تاريخ الإضافة 29 فبراير, 2024 الزيارات : 109

شرح الأربعون النووية
27- البر ما اطمأنت إليه النفس

عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم.
فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك). رواه الإمام أحمد وقال الألباني حسن لغيره.

والحديث له شاهد عن النواس بن سمعان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) .رواه مسلم

شرح الحديث:

(جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم.) هذه جملة خبرية في ظاهرها ولكنها استفهامية في معناها فمعنى ( جئت تسأل عن البر ) يعني أجئت تسال عن البر ؟

وهذا الحديث فيه حكاية ذكرها الإمام أحمد في مسنده، فيها: أن الرجل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والناس مزدحمون حوله، فأراد الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه الناس أن يفعل هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل علل بأنه يحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً شديداً يدفعه لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: أفسحوا لـ وابصة، فجاء وابصة يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يسأل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تسأل أم أخبرك؟) قال: بل أخبرني يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

(استفت قلبك) أي اسأل والاستفتاء طلب الافتاء وهو بمعنى الخبر لأن الافتاء إخبار عن حكم شرعي فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم على قلبه .

(البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب) اطمأن يعني : استقر ومنه الحديث : ( اركع حتى تطمئن راكعا ) أي تستقر فما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به واطمأنت إليه النفس أيضا لا تحدثك نفسك بالخروج عنه فهذا هو البر ولكن لمن قلبه سليم ونيته صادقه . أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه ولهذا تجده إذا شرع في البر يضيق ذرعا ويسرع هربا حتى كأنه مطرود، لكن المؤمن يطمئن قلبه وتطمئن نفسه إلى البر .

والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر) (حاك في النفس ) أي تردد فيها (وتردد في الصدر ) يعني في القلب لأنه قال : ( البر ما اطمأنت إليه نفسك وأطمأن إليه القلب ) .

( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) هذا من باب التوكيد يعني حتى لو أفتاك وأفتاك وأفتاك فلا ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك لم يطمئن ولم يستقر فلا تلتفت للفتوى .

يخطئ كثير من الناس في فهم هذا الحديث ، حيث يجعلونه مطية لهم في الحكم بالتحليل أو التحريم على وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم ورغباتهم ، فيرتكبون ما يرتكبون من المحرمات ويقولون : (استفت قلبك) !! مع أن الحديث لا يمكن أن يراد به ذلك ، وإنما المراد من الحديث أن المؤمن صاحب القلب السليم قد يستفتي أحداً في شيء فيفتيه بأنه حلال ، ولكن يقع في نفس المؤمن حرج من فعله ، فهنا عليه أن يتركه عملاً بما دله عليه قلبه .
قال ابن القيم رحمه الله :“لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه ، وحاك في صدره من قبوله ، وتردد فيها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا ، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه ، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار) .
والمفتي والقاضي في هذا سواء ، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن ، سواء تردد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه جهل المفتي ، أو محاباته في فتواه ، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه ، وسكون النفس إليها” انتهى .“إعلام الموقعين” (4/254) .

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :“أي : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز ، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه ، فإن هذا من الخير والبر ، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض” انتهى .
“شرح رياض الصالحين” (2/284) .

فالذي يستفتي قلبه ويعمل بما أفتاه به هو صاحب القلب السليم ، لا القلب المريض ، فإن صاحب القلب المريض لو استفتى قلبه عن الموبقات والكبائر لأفتاه أنها حلال لا شبهة فيها !
وفي هذا قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
“(الإثم ما حاك في نفسك) أي : تردد وصرت منه في قلق (وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك متردداً فيه وتكره أن يطلع عليك الناس .
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ، ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاماً لكل أحد ، بل هو خاص لمن كان قلبه سليماً طاهراً نقياً ، فإنه إذا هَمَّ بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده متردداً يكره أن يطلع الناس عليه ، فهذا علامة على الإثم في قلب المؤمن” انتهى .
“شرح الأربعين النووية” (صـ 294 ، 295) .

إذن فلا يقال لكل إنسان: استفت قلبك، وإنما يقال ذلك لمن كان في مثل الصحابي وابصة في قوة الفهم، وصفاء النفس، وسَعة العلم، والحرص على تحري الخير، فمثله لا يرجع لفتوى رضي الله عنه، أما عامة الناس فلا يقال لأحدهم: استفت قلبك، وإنما يقال له: استفت العلماء الذين يميل قلبك إلى أمانتهم في العلم، فاسأل واعمل بفتواهم، وإن خالفت فتواهم ما في قلبك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]

الحديث الثاني:

قوله ( البر) أي الذي ذكره الله تعالى في القرآن فقال ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة: الآية2) والبر كلمة تدل على كثرة الخير .

( حسن الخلق ) يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال: “الحج عرفة”

(والإثم ) هو ضد البر لأن الله تعالى قال : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: الآية2) فما هو الإثم ؟

(الإثم ما حاك في نفسك ) أي تردد وصرت منه في قلق.

(وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما ، فهذا هو الذي يحيك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس .

من فوائد الحديث :

1-في الحديث معجزة واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر الصحابيَّ وابصةَ بما في نفسه قبل أن يتكلم به.

2- أعطي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم ، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله (البر حسن الخلق ) كلمة جامعة مانعة .

3- الحث على حسن الخلق وأنك متى أحسنت خلقك فإنك في بر .

4- إن المؤمن ذو القلب الصافي السليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم، بل يتردد فيه لقوله (والإثم ما حاك في نفسك ) 

5- جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن استقام دينه ؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية .

6-  إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله (وكرهت أن يطلع عليه الناس ) أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس من يفتخر ويفاخر بالمعصية

7. أن لا يغتر المسلم بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا ؛ فإن كثيراً من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك ؛ فهل لهذا الذي تردد وشك أن يسأل عالما آخر ؟ الجواب : نعم بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول .

8. أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس لأن الناس، قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وليس بحق فالمدار على الأدلة الشرعية .

9- البر لا يُستحى من فعله في خلوات الإنسان وفي المجتمعات العامة بخلاف الإثم فإن فعله في الخلوة يسبب الحرج والضيق وفعله في العلانية يستحى منه.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 48 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع