شرح الأربعون النووية
36- من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا
نص الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، و حفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. رواه مسلم
شرح الحديث
(من نفس ) التنفيس هو فك الخناق عن المخنوق وإرخاؤه حتى يأخذ نفسه بعد أن أشرف على الهلاك، والخناق هو الحبل الذي يخنق به.
ومعنى قوله “نفس”؛ أي: أزال وفرّج، وهذا استعمال مجازي بذكر الملزوم وإرادة اللازم؛ لأنه يلزم من إرخاء الخناق إزالة الشدة وتفريجها.
ولا يُشترط في التنفيس أن يكون باليد؛ بل بكل ما يحصل به التنفيس، فيشمل المال، والجاه، وحتى الدعاء له بظهر الغيب.
فائدة في الفرق بين “نفس” و”فرج”:
- التنفيس: هو التخفيف من إرخاء الخناق ليأخذ الشخص نفسه.
- التفريج: هو إزالة الكربة بالكامل.
وقد ورد الجمع بينهما في الحديث عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مؤمن عورة، ستر الله عورته، ومن فرج عن مؤمن كربة، فرج الله عنه كربته” أخرجه الطبراني في “الأوسط”
وهذا يدل على أن الجزاء من جنس العمل؛ فالتنفيس جزاؤه التنفيس.
(عن مؤمن) ذكر “المؤمن” لشرفه ومزيد حرمته ومزيد ثوابه، وإلا فالذمي كذلك يجوز الإحسان إليه وتنفيس كربته، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء.”
وعبر هنا بقوله “مؤمن”، وفي العبارات التالية “مسلمًا”، وهذا يحتمل:
- إما للتفنن في العبارة.
- أو لبيان أن الإسلام والإيمان بمعنى واحد.
- أو لأن الكربة تتعلق بالباطن، فناسب ذلك الإيمان المتعلق بالباطن أيضًا، كما أن الستر يتعلق بالظاهر غالبًا، فناسبه الإسلام المتعلق بالظاهر أيضًا.
(كربة) أي شدة عظيمة، لأنها ما أهم النفس وغَمَّ القلب، والكربة تُقارب أن تزهق الروح لشدة همها، فكأنها لشدة أثرها عَطَّلت مجاري التنفس. ولهذا ناسب ذكر “نفّس” بدلاً من “أزال” أو “خفف”
(من كرب الدنيا) كرب الدنيا: وهي كثيرة؛ منها: العري، والجوع، والعطش.
(نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) أي: منعها عنه وحفظه منها ابتداءً، جزاءً له على فعله من نفس جنسه.
فائدة:
قال هنا: “كربة من كرب يوم القيامة” ولم يذكر “الدنيا”، وقال فيما بعده: “ستره الله في الدنيا والآخرة” و “يسر الله عليه في الدنيا والآخرة”.
وقيل في سر ذلك:
- إن الكرب هي الشدائد العظيمة، وليس بالضرورة أن تحصل هذه الشدائد لكل أحد في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات من المعاصي ونحوها التي تنكشف، فإنها تحتاج إلى التيسير والستر، ولا يكاد أحد يخلو منها في الدنيا، ولو بتعسر بعض حاجاته المهمة.
- وقيل: لأن الدنيا لا تُقارن شدائدها بكرب الآخرة، فلا حاجة لذكرها معها.
ولا منافاة في حصول التنفيس في كرب الدنيا كما يحصل في كرب الآخرة، كما يفيد عموم قوله: “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.”
مسألة: فإن قيل: التنفيس يكون بعد حصول الكربة ونزولها بالإنسان، فكيف يتحقق التنفيس يوم القيامة وهي لم تنزل به أصلاً؟
فالجواب: أن ذكر التنفيس هنا على سبيل المشاكلة مع قوله “نفس”، وإلا فإن تنفيس الكربة إنما يكون بعد حصولها، ولم تحصل القيامة بعد.
ويُحتمل أن يكون ذلك من قبيل التحقق بحصول القيامة والتيقن من ذلك على وتيرة قوله تعالى: “أتى أمر الله فلا تستعجلوه” [النحل: 1]، فعبر بصيغة الماضي عما لم يأت بعد لتحقق وقوعه وتيقن حدوثه.
ولا يرد هذا الاعتراض في قوله: “يسر الله عليه في الدنيا والآخرة”، لأن حصول اليسر لا يستدعي سبق العسر.
ذكر أمثلة من كرب يوم القيامة أعاذنا الله منها:
من ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1-2].
قال الحسن البصري: “تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام”.
وقال في سورة الواقعة: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة: 1-11].
وقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار: 1-5].
ونحو ذلك مما ورد في سورتي الزلزلة والقارعة وغيرهما من سور القرآن عند الحديث عن القيامة وأهوالها.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون” ( أخرجه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.) وهو جزء من الحديث الطويل في الشفاعة.
وفي الصحيحين أيضًا في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6]. قال: “يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه”
وأخرج مسلم في “صحيحه” من حديث سليم بن عامر، حدثني المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تدنُو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل”. قال سليم بن عامر: “فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أَمَسَافةَ الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟”. قال: “فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا”. قال: “وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فمه”
فإن قيل: قد أخبر الله تعالى أن الحسنة بعشر أمثالها، فما بالها في هذا الحديث قوبلت بتنفيس كربة واحدة من كرب الآخرة؟ ولم تقابل بعشر؟
فالجواب من وجوه:
1- يمنع هذا مفهوم العدد ولا يمنع الزيادة، ويشهد لذلك قوله: “من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظلّه الله في ظله” .
وفيه زيادة الظل لمن أنظر المعسر، يعني أمهله حين يُسرَّ ومقدرته على السداد.
2- أن كل كربة من كرب يوم القيامة تشتمل على أهوال كثيرة وأحوال صعبة ومخاوف جمة، وتلك الأحوال إما عشرة أو تزيد عليها.
3- وقيل: لأن كربة الدنيا كأنها لا شيء بالنسبة لكربة الآخرة.
وهنا سر آخر عظيم يظهر بطريق الفهم والتدبر، وهو أن من نفس كربة عن مؤمن في الدنيا يُختم له بالخير فيموت على الإسلام، لأن الكافر لا يُرحم في الدار الآخرة ولا يُنفَسُ عنه من كربها.
تنبيه:
ولا يقتصر التنفيس هنا على المال أو الأشياء المادية الظاهرة، بل ربما كان التنفيس عن طريق الدعاء، لأن المتقين يجدون في الدعاء فرجًا وتنفيسًا، كما في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3].
(ومن يسر على معسر) هذا وما بعده من ذكر الخاص بعد العام؛ لشمول تنفيس الكربة لهما.
وليس المقصود بالمعسر هنا من عجز عن سداد الدين فقط، بل المقصود أعم من ذلك، فكل من تعسّر عليه أمره، كان في التيسير عليه أجر.
فيدخل في ذلك الإفتاء بما فيه يُسر ورخصة من غير مخالفة للشرع، كما يدخل المدين من جهة العمل.
والتيسير على المعسر في المال يكون تارة بإنظاره إلى الميسرة وهو واجب، لقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280].
ولا يجوز أن تطلبه منه ولا أن تعرض بذلك، ولا أن تطالبه عند القاضي.
وتارةً يكون بإبرائه، أو الوضع عنه، أو بإعطائه ما يزيل به الإعسار من صدقة أو هبة، ونحو ذلك، وكل هذا له ثواب كبير وفضل عظيم.
ومن هنا نعلم خطأ أولئك القوم الذين يطالبون المعسرين، ويرفعونهم للقضاء ويطالبون بحبسهم، والله تعالى يقول: ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280].
فإن قال قائل: ما أكثر أهل الباطل في الوقت الحاضر الذين يدعون الإعسار وليسوا بمعسرين، فصاحب الحق لا يثق بادعائهم الإعسار.
فنقول: نعم، الأمانات اليوم اختلفت ولا شك، وقد يدعي الإعسار من ليس بمعسر، وقد يأتي بالشهود على أنه معسر، لكن أنت إذا تحققت أو غلب على ظنك أن الرجل صاحب حيلة وأنه موسر لكن ادعى الإعسار من أجل أن يماطل بحقك، فهنا لك الحق أن تطالب بحقه.
هذا بالنسبة للمعسر بحق لك.
أما إذا كان معسراً بحق لغيرك فإن التيسير عليه سنة وليس بواجب، إلا إذا خشيت أن يُساء إلى هذا الرجل المعسر ويُحبس بغير حق وما أشبه ذلك، فهنا قد نقول بوجوب إنقاذه من ذلك، ويكون هذا واجبًا عليك ما دمت قادرًا.
وعند مسلم: “من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة؛ فلينفس عن معسر أو يضع عنه”
وفي “الصحيحين”: “كان تاجر يُداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا؛ فتجاوز الله عنه”
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: يا رب، آتيتني مالك، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذلك منك؛ تجاوزوا عن عبدي”
قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2-3].
جاء عبد مكاتب يريد الإعانة على عتقه، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كان عليك مثل جبل تبر دينًا، أداه الله عنك. قل: “اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك” أخرجه الترمذي وصححه الألباني
(يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وقوله: “يسر الله” مفعوله تقديره: (أمره)؛ أي: جميع أمره، فلا فرق فيما تعسر بين الدقيق والجليل، ولا فرق أيضًا فيما تيسر بين الدقيق والجليل.
(ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ) فيه حذف مضاف تقديره: من ستر زلة مسلم.
والزلة: المعصية أو الهفوة ونحوها، أو تقديره: من ستر عورة مسلم، وستر الزلة يتحقق بأن يعلم بوقوعها فيما مضى فلا يخبر بذلك حاكمًا مثلا.
قيل: والمراد المسلم المستتر فيما وقع منه أو ما اتهم به وهو بريء.
ومثل هذا: إن جاء نادمًا تائبًا وأقر بحد؛ يُؤمر بالتوبة ولا يُستفسر منه عن الحد؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز والغامدية (والحديث في الصحيحين).
ومثل هذا إن أُخذ بجريمته ولم يبلغ الإمام خبره؛ فيجوز الشفاعة في أمره حتى لا يبلغ، وفي الحديث: “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم” وهو قول مالك وأحمد وغيرهما (رواه أحمد).
فإن كان صاحب الزلة مستورًا، ووقعت منه هفوة أو زلة؛ فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدث بها؛ لأن هذه غيبة محرمة، ما لم يدع داعٍ إلى ذلك.
شروط ستر الزلة:
- أن تكون حقًا لله وليست حقًا للعباد.
- أن تكون قد انتهت ومضت.
ويخرج من هذا ما لو رآه على المعصية، فيجب عليه منعها إن قدر، أو يطلب من يعينه.
إذن، فالستر قد يكون فيه خير فيكون محمودًا كما في ستر صاحب المروءة النادم على زلته. وقد يكون الستر شرًا فيكون مذمومًا، كما في الستر على المقيم على المعصية أو المعتدي على الناس، الذي لا يزداد بالستر إلا شرًا وطغيانًا.
وقد لا تعلم في بعض الناس هل الستر عليهم خير أم كشفهم، فالأصل أن الستر خير، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، ولكن في هذه الحال تتبع أمره ولا تهمله؛ لأنه ربما يتبين بعد ذلك أن هذا الرجل ليس أهلاً للستر.
وعلى التقدير المذكور سابقًا: “من ستر عورة مسلم”، فالعورة هنا حسية أو معنوية، وذلك بإعانته على ستر دينه؛ كأن يكون محتاجًا لنكاح فيتسبب له أو يتوسل له في بضاعة يتجر فيها.
ويُؤخذ من الحديث أن مَن فضح مسلمًا أو كشف عورته بغير حق، فضحه الله وكشف عورته حتى في بيته. وهذا نص في الحديث: “من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى في بيته”
ومما ذكره ابن رجب: قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: “اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام”.
ومعنى “ستره الله في الدنيا والآخرة”: أي: لا يفضحه في الدنيا ولا يعاقبه على ما فرط منه في الآخرة.
قال بعض السلف: “أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبًا، وأدركت قومًا كانت لهم عيوب، فكفّوا عن عيوب الناس، فنُسِيَتْ عيوبهم”.
(والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) الواو هنا استئنافية وليست عاطفة.
وفي الحديث الآخر: “من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته”.
وعدل عن الجملة الشرطية إلى الجملة الاسمية؛ فلم يأت فيها بصورة التحقيق؛ إشارة إلى أن كون الله معينًا لمن أعان أمر محقق لا شك فيه، ثابت دائم مستقر. وإن كان ما قبله كذلك، لكنه هنا أشد وأكد.
و”عون” بمعنى معين. والمعنى: والله معين للعبد؛ أي إعانة كاملة، وذلك بأن يؤيده وييسر له قضاء حوائجه.
وإلا فالله في عون العبد دائمًا، وعليه، فتقييد ذلك بقوله: “ما كان العبد في عون أخيه” غير مراد، وكأن المقصود منه الترغيب في الاستمرار على معاونة الأخ في الدين، ثم لا خفاء في أن الإعانة زائدة على ما ادخر الله لذلك العبد من الثواب الجزيل.
والمراد بالعبد هنا ما يشمل الذكر والأنثى.
“ما كان العبد”: “ما” مصدرية ظرفية؛ أي: مدة كونه في عون أخيه.
والإعانة تكون بالقلب، واليد، واللسان، والمال، والجاه، ونحو ذلك.
والإعانة هنا مقيدة بكونها مطلوبة شرعًا، وإلا فلا خفاء أن الله لا يعين من أعان ظالمًا على ظلمه.
السعي في قضاء حوائج المسلمين من أعظم القربات:
أخرج الطبراني والدارقطني وغيرهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس أنفعهم للناس” [أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني]
وأخرج الطبراني وابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا. ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرًا. ومن كف غضبه، ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة. ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام. وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل” [أخرجه الطبراني وحسنه الألباني في “صحيح الجامع” ]
وتأمل هذا الحديث العظيم الذي رواه أنس بن مالك: أن امرأةً كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة، فقال: ( يا أم فلان، انظري أي السِّككِ شئتِ حتى أقضيَ لكِ حاجتكِ”، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها ) أخرجه أبو نعيم في “الحلية”
فهذا صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع مَن كان في عقلها شيء، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه وغيرها من الناس في قضاء حوائجهم ورعايتهم.
لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة وحاجتها رغم ما هو فيه من أمر النبوة والدعوة والقيادة لأمة بأكملها، وهذا درس للذين يعتزلون الناس، ويميزون في مجالسهم بين أشخاص دون غيرهم.
وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه رآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة. فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى. فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أتعثرات عمر تتبع؟! (أخرجه ابن أبي الدنيا في “قضاء الحوائج”، وحسنه الألباني ).
وكان كثير من الصحابة والصالحين يشترط في سفره أن يخدم أصحابه، كما قال مجاهد: “صحبتُ ابن عمر في سفر لأخدمه، فكان يخدمني”.
وعن أنس بن مالك قال: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر. فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ذهب المفطرون اليوم بالأجر”.
(ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) “سلك” أي: سعى فيه ودخله.
والمقصود بالطريق هنا:
- إن أريد به الطريق المحسوس: فهو يشمل مطلق ما يوصل إلى العلم، سواء كان طرق البر أو البحر أو الجو.
- وإن أريد به الطريق المعنوي: فهو يشمل حفظ العلم، ومذاكرته، ومطالعته.
وفي ذلك استعارة تصريحية، حيث استعار اسم “الطريق” لما ذُكر بجامع أن كلاهما يوصل إلى الغاية.
“يلتمس”:أي: يطلب.
“فيه”:أي: في غايته، أو بسببه، أو فيه حقيقةً وهذا نادر فلا يُحمل عليه.
“علمًا”:أي: علمًا شرعيًا وقيل: هو عام لكل علم جائز، لوروده نكرة في سياق الشرط، والأول أوجه؛ لأنه الذي يسهل الله به طريقًا إلى الجنة.
ولا فرق بين الالتماس بالتعلم أو بالتعليم أو التصنيف، سواء حصل العلم أو لم يحصل؛ لأن الأعمال بالنيات.
ونُكر لفظ “العلم” ليشمل أنواع العلوم الدينية ويندرج فيه القليل والكثير. كما لا فرق في الطريق بين كونه طويلاً أو قصيرًا، عسير السلوك أو سهلًا.
قوله: “سهل الله به”:أي: بذلك السلوك، إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى، والانتفاع به والعمل بمقتضاه .
وذكر النووي شروطًا لهذا العلم وهي:
العمل به ونشره، وترك المباهاة والمماراة، والاحتساب في نشره، وترك البخل به، والتواضع، واحتمال الأذى في بذل النصيحة، والاقتداء بالسلف، وأن يقصد بعلمه من كان أحوج إلى التعلم، وأن يظهر أثر العلم على سلوكه وحاله.
وهذا التسهيل يكون في الدنيا والآخرة:
1- في الدنيا: بتوفيقه للصالحات، وبحفظه من السيئات. فالمعنى أن الله سهل له هداية موصلة إلى الجنة. فيكون من باب الاستعارة التصريحية، حيث استعار اسم الطريق للهداية بجامع الإيصال في كلٍّ منهما، وقيل: التسهيل هنا للعلم الذي طلبه، وهو يؤدي إلى الخشية ثم الجنة.
2- في الآخرة: يجازيه الله على طلب العلم بتسهيل دخول الجنة، بحيث لا يرى شدة الموقف والمرور على الصراط، والطريق الحسي إلى الجنة؛ فلا مانع إذًا من أن يكون التسهيل في الدنيا والآخرة.
وظهر من هذه العبارة وما سبقها أن الجزاء من جنس العمل: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ: 26]وهذه العبارة ذات دلالة عظيمة على فضل العلم والعلماء.
(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)الواو للاستئناف؛ لأن ما قبلها وبعدها متباينان، حيث الأول نفعه متعدٍّ، بخلاف الثاني فنفعه قاصر.
“قوم”: يعم الرجال والنساء، ولفظة قوم تُذكَّر وتُؤنَّث.
ومثال المذكر: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾ [الأنعام: 66].
ومثال المؤنث: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: 105].
وأفاد تنكير لفظة “قوم”: حصول الوعد لكل قوم اجتمعوا وجلسوا من غير اشتراط وصف فيهم كعلم أو زهد أو صلاح.
“في بيت”: قيد به الاجتماع نظرًا للغالب، وإلا فالظاهر أن هذا الفضل يشمل الاجتماع وإن كان في صحراء.
“من بيوت الله”: أي: مما بُني لنيل ثوابه ورضاه من مسجد أو مدرسة أو غيرها مثلها؛ لأن هذا القيد لا مفهوم له، إذ إنه خرج مخرج الغالب.
وفي هذا إظهار لشرف المساجد؛ إذ العبادة فيها أفضل من غيرها، وإضافتها إلى الله تعالى لأنها بُنيت لنيل ثوابه ومرضاته.
(يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم )أي: مجتمعين للقراءة، كلٌّ يقرأ على انفراد أو يقرأ أحدهم فيقرؤون بعده معًا الآية التي قرأها، يقتدون به على سبيل التعلم، أو يقرأ أحدهم عقب الآخر، فيصل قراءته بقراءته أو يعيد ما قرأ، أو يقدمون أحدهم يقرأ ويستمعون له، وكان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت بين يدي القوم؛ فكل هذا سواء في تحقق الوعد الآتي.
واستدل الأكثرون على ذلك بهذا الحديث وغيره من الأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذكر، والقرآن أفضل أنواع الذكر.
(إلا نزلت عليهم السكينة) من السكون، والمقصود هنا: الوقار والطمأنينة، وكل ما يطمئن القلب به ويسكن، إذ بذكره تعالى تطمئن القلوب.
وفي “الصحيحين” عن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس، فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: “تلك السكينة تنزلت للقرآن”.
(وغشيتهم الرحمة)أي: علتهم وسترتهم وشملتهم وغَطَّتهم من كل جهة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].
(و حفتهم الملائكة)أي: أحاطت بهم الملائكة إلى سماء الدنيا؛ كما في حديث أبي هريرة في “الصحيحين”: “فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا”. وهذه الملائكة هي المنزلة بالرحمة والمنزلة لاستماع الذكر تعظيمًا له وإكرامًا للذاكرين على غاية من القرب والملاصقة، بحيث لم يَدَعُوا للشيطان فُرْجَةً يتوصل منها إليهم.
(وذكرهم الله فيمن عنده ) أي: أثنى الله عليهم، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152].
وكما في حديث أبي هريرة المشار إليه قبل قليل. ويقول الله في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم”.
و”عنده”: أي: في الملأ الأعلى بين ملائكته، ومباهاتهم به، وتنويهه بذكره.
(ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.)البطء: نقيض الإسراع. والمقصود به من قصَّر في العمل عما يجب، فكان قليلاً أو ناقص الصحة أو عن الكمال، لم يجبر هذا النقص نسبه، ولم يلتحق بأصحاب الأعمال العظيمة الجليلة الشرف؛ فالمسارعة إلى الجنات بالأعمال وليست بالأنساب والأحساب؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لعمرك ما الإنسانُ إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارس وقد وضع الشركُ الشقيَّ أبا لهب.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] قال: “يا معشر قريش أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئتِ من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا”.
قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: 132].
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، فكيف يُلحق الله الذرية بأهل الجنة وإن كانوا دونه في العمل؟
فالجواب أن الآية تشير إلى فضل الله ورحمته التي تشمل المؤمنين وذرياتهم، فإذا كانت الذرية مؤمنة وإن كانت أعمالهم أقل من آبائهم، فإن الله يلحقهم بآبائهم في الجنة لتقر أعين الآباء والأبناء معًا.
ومع ذلك، فإن هذا الإلحاق لا يكون على حساب الأعمال التي قاموا بها؛ إذ إن الله لا ينقص أحدًا من أجره شيئًا.
قال ابن عباس رضي الله عنه: “إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في الجنة في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينه، وذلك بفضل الله ورحمته” .
وهذا لا يتعارض مع أن النسب وحده لا ينفع دون الإيمان والعمل الصالح، فالمقصود هو الإلحاق بالفضل والكرم الإلهي لأهل الإيمان، مع احتفاظ كلٍّ بأجره الكامل على أعماله؛ فهذا يدلُّ على إلحاق ذرية المؤمن به.
فوائد الحديث:
1- أهمية التكافل الاجتماعي مادياً ومعنوياً، حيث حثّ على قضاء الحوائج، وإنظار المعسر، والتسهيل عليه، والستر على صاحب الزلة، والتنفيس عن صاحب الكربة، ومساعدة المكروب حتى يُفرج الله عنه كربته، وإعانة الطالب والمحتاج حتى يقضي حاجته.
2- في الحديث بيان لفضل العلم، وفضيلة التعلُّم، وحثّ على مذاكرة العلم ومدارسته؛ فإنَّ حياة العلم مدارسته، والعلم كالعصفور إذا حُبِسَ مات. وفيه بيان لفضل القرآن وتعلمه.
3- في الحديث حثّ على العمل، وبيان قيمته العظيمة في الإسلام، خاصةً العمل الذي يعود بالنفع المتعدي لك وللمسلمين؛ كقضاء الحوائج، وأمور الدعوة والإرشاد، ونحو ذلك.
4- الحديث أصل في أنَّ الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وبالكيل الذي تكيل يُكال لك.
5- القرض في النظام الاقتصادي الإسلامي مخالف لجميع أنواع القروض في جميع النظم الأخرى؛ لأنه بلا مقابل مادي، بل حرّم الإسلام أن يجلب السلف أدنى منفعة، في حين أن القرض في الاقتصاد العالمي اليوم يقوم أساساً على الفوائد الربوية، وهذه العملية لم تستحدث فيها الشيوعية أو الرأسمالية شيئًا، بل هي امتداد للنظام الربوي الجاهلي الذي كان سائداً قبل الإسلام في المجتمعات الجاهلية .
6- من أعظم ما يجب من التنفيس لكرب المسلمين اليوم هو التنفيس عن المسلمين المضطهدين في أقطار عديدة من الأرض، بصد عدوان المعتدين عنهم، ودعمهم بالمال والطعام واللباس، والسعي في فك أسرهم .