السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع

تاريخ الإضافة 26 أكتوبر, 2024 الزيارات : 36

السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع

إن الحديث عن سنن الله عز وجل في كونه يفتح علينا بابًا عظيمًا من أبواب الفهم والفقه في ديننا، لأن هناك أسئلة كثيرة خاصة مع الأحداث الضخمة والكبيرة، بل والمفصلية في تاريخ البشرية في هذا العام الماضي فقط، فضلًا عن الأعوام التي سبقته.

أسئلة كثيرة يسألها الناس، وأساسها هو الجهل بسنن الله تعالى في الكون، ولذلك أريد في هذا اللقاء، وربما في لقاءات أخرى إن شاء الله، أن نوضح معنى السنن الإلهية حتى نفهم كيف تسير الأمور.

ما معنى السنن الربانية؟

كلمة “السنن” جمع سنة وهي الطريقة، ومنه قول النبي: “من سنّ في الإسلام سنة حسنة، ومن سنّ سنة سيئة”. 

فالسنن الإلهية: هي إرادة الله الكونية، وأمره الشرعي، وفعله المطلق، وكلماته التامات، ووعوده الحقة، وحكمه في آفاق الكون وتسلسل التاريخ، الجارية بالعباد من المعاش إلى المعاد.

أنواع السنن:

1- سنن كونية.

2- سنن في الأفراد، والمجتمعات أو الأمم.

أولا / السنن الكونية:

وتعني سنن الله سبحانه وتعالى في تسيير الكون وعمارته، وهي متعلقة بربوبيته وخَلقهِ جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت: 53). 

(في الآفاق) ما أخبر الله تعالى به من آياته في السَّمَوَات وَالْأَرضين، وَذَلِكَ من رفع السَّمَاء، وَخلق الْكَوَاكِب، ودوران الفلك، وإضاءة الشَّمْس وَالْقَمَر، وَمَا أشبه ذَلِك، وَكَذَلِكَ بسط الأَرْض، وَنصب الْجبَال، وتفجير الْأَنْهَار، وغرس الْأَشْجَار، إِلَى مَا لَا يُحْصى.

فسنن الكون إذن هي: النواميس الحاكمة في الطبيعة وفي العالم المادي وفي نظام الكون وتركيبه وحركته ومجرياته، وتسمى الآيات الكونية، وآيات الآفاق، وسنن الطبيعة.

وتسمى بلسان العصر علوم الفلك والفضاء والأرض والبحار والأحياء، وهذه السنن تخضع لها جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية، ويخضع لها كيان الإنسان المادي وما يطرأ عليه مثل نموه وحركة أعضائه ومرضه وهرمه ولوازم بقائه حيا ونحو ذلك. 

إذن هناك ثوابت وقوانين لا تتغير، ولذلك العلماء حددوا لنا مواقيت الصلاة ومواقيت الشروق والغروب، مواقيت كسوف القمر وخسوف الشمس، وحددوا لنا كثيرًا من الظواهر الفلكية؛ لأن سنة الله تعالى في الكون مضطردة، أي دائمة، ليس فيها تبديل ولا تغيير.

أنت الآن لو أمسكت مواقيت الصلاة من عشر سنين بنفس تاريخ اليوم، ستجد أنه ليس هناك تغيير. لماذا؟

لأنه نفس الوقت في الشروق والغروب، وقت صلاة الظهر ووقت صلاة العصر. ويمكنك تحديد المواقيت للصلاة وربما ولادة الهلال أو عدم ولادته إلى عشرات السنين في المستقبل؛ لأن سنة الله في الكون ثابتة، نفس الثبات الذي أخبرنا به الله في آيات كثيرة من القرآن الكريم، مثل قوله: “لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[يس، الآية 40]

وهذا النوع من السنن لا خروج لأحد عنها؛ لأنها خاضعة للقدر الكوني ومتعلقة بالخلق والمشيئة الكونية؛ فهي تقع حتما؛ لكنها قابلة للخرق؛ حيث ينقضها الله تعالى إذا شاء بما شاء؛ فتمضي على غير ما اعتاده الناس، وهو ما يسمى بــــ “السنن الخارقة” وهي المعجزات التي يظهرها الله على يد رسله وأنبيائه تأييدا لهم.

ثانيا/ السنن في الأفراد والمجتمعات:

 وهي السنن والقواعد التي تحكم الإنسان في علاقته بهذا الكون وخالقه، وتسمى سنن الاجتماع والعمران أو سنن الأنفس أو السنن الشرعية أو الدينية أو الأمرية.

وهذا النوع من السنن متعلق بإلهيته تبارك وتعالى وشرعه، ودليل ذلك قوله جل وعلا: “أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (الأعراف: 54)؛ فالخلق: أفعاله وما قضاه وقدره، والأمرُ: دينه وما شرعه لخلقه،ف سنن الاجتماع البشري متعلقة بشرع الله تعالى وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وهي خاصة بالإنسان، إذ لا تمرد للطبيعة على فاطرها جل وعلا. وهذا النوع من السنن يملك الإنسان معه حرية الاختيار؛ لكن عليه أن يتحمل تبعات اختياره ونتائجه: إكراما أو عقوبة ونعيما مقيما أو عذابا مهينا.

مثال: قانون الله في الهداية والإضلال:

 جفري لانج، عالم الرياضيات الأمريكي الذي أسلم، قال: إنه أول ما فتح المصحف وجد فيه هذا الدعاء العظيم: “اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ“[الفاتحة، الآية 6] قال: وفي الصفحة التالية لم يتركنا الله حائرين، بل دلنا على الصراط المستقيم في الصفحة الثانية من المصحف: “ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ“[البقرة، الآية 2] إذن، هذا قانون؛ أنت تسأل الله الهداية، نعم، هذا دعاء. بعد الدعاء، ماذا تفعل؟ تسلك طريق الهداية، فتسأل: أين هو؟ يأتيك الجواب في الوحي الإلهي المتمثل في هذا القرآن: “هدى للمتقين”. ثم وصف الله من هؤلاء المتقين، ووصف الكافرين، ووصف المنافقين إلى آخر الآيات.

مثال 2: قانون الله عز وجل الأخذ بالأسباب:

بين التوكل على الله والتواكل، وبين الإيمان بالقضاء والقدر مع الأخذ بالأسباب أو إهمال الأخذ بالأسباب.

عمر بن الخطاب لما دخل الشام وكان فيها الطاعون، وهو مرض معدي قاتل، ومات فيه من مات من الصحابة والتابعين وخيار هذه الأمة، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه ، فمن قائل يقول : أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه . ومن قائل يقول : لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، على هذا الوباء .فأمرعمرالناس بالرجوع من الغد .

فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ قال : نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبا في بعض شأنه ، فلما قدم قال : إن عندي من ذلك علما ، سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : (إذا سمعتم به بأرض ، فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها لا تخرجوا فرارا منه ) فحمد الله عمر – يعني لكونه وافق رأيه – ورجع بالناس .

لاحظوا فهم عمر لسنن الله عز وجل في التفاعل والأخذ بالأسباب: “نفر من قدر الله إلى قدر الله”، أي لا نحتج بقدر الله كما يفعل البعض، مثل الذي يترك الصلاة ويقول: “لو شاء الله أن يهديني، سأصلي”. أنت لا تفهم سنة الله وقانون الله؛ إذا استجبت لأمر الله حينما قال: “وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فإن الله سيهديك إلى الطريق المستقيم، مَن تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. لكنك معرض، قلبك زائغ، لا تعرف طريق الهداية، ثم تقول: “لو شاء الله هدايتي”. لا يا أخي، سنة الله في عباده: “فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ“[سورة الصف، الآية 5]

و وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ.[الحشر، الآية 19]

وعلى المستوى الجماعي، تعلم أن لله سننا في الخلق ؛ منها :

سنة الله تعالى في أخذ الظالمين، سنة الله في إمهال الظالم، سنة الله في الابتلاء، وسنة الله في الاستدراج. هذا أمر طويل وقد كُتبت فيه مجلدات. أنا أضرب فقط أمثلة.

فلما يتساءل البعض: لماذا يحدث للمسلمين هذا الذي يحدث بغزة وغيرها من شهداء وقتلى ومرضى ونساء وضعفاء؟

نعم، يا أخي، والله قلوبنا تتألم، ويعلم الله ما بها من الحزن والهم لما يحدث، لكننا نؤمن أن هذه الدار الدنيا دار ابتلاء. هذا أمر.

الأمر الثاني: أن العاقبة للمتقين.

الأمر الثالث: أن من سنن الله أن يملي للظالم، أي يعطيه مهلة استدراج من الله عز وجل، فإذا أخذه لم يُفلته، كما في آيات القرآن: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ“[الأنعام، الآية 44]، فظنوا أنهم ملكوا الدنيا، صاروا ملوكًا وأصحاب سيادة وعلوٍّ وقوة عسكرية لا مثيل لها وطغيان وتجبر، وبدأوا يفكرون في غزو العالم حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً، يأتي العذاب فجأة، آية من آيات الله، لا يستطيعون الانفكاك عنها.

الآية الأخرى في سورة يونس: “حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا.[يونس، الآية 24] هم يظنون بما أوتوا من طيران وقوة عسكرية وصواريخ وقنابل حارقة، أنهم ملكوا الدنيا، لكنهم نسوا سنن الله. لاحظوا الآية: “وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا. لاحظوا سنة الله: “أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.[يونس، الآية 24]

إذًا، يا إخواني، هذا الفقه وهذا الفهم يجيبك على تساؤلات كثيرة لا تجد لها إجابة؛ لكن إذا أعدنا قراءة القرآن وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفق هذا المنظور، منظور فهم السنن الإلهية، سيكشف الله لك أمورًا لم تخطر ببالك، وستدرك كيف تتعامل مع الواقع وتفهمه، وستعرف كيف تستشرف المستقبل، وستزداد يقينًا وإيمانًا بالله، قال تعالى:  (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب، الآية 22]

فزت ورب الكعبة: 

صاحب الكلمة حرام بن ملحان ر ضي الله عنه فعندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة) ؛ هذا المشهد الذي لا يتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبار بن سلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: فزت ورب الكعبة، وهذا جبار يحدثنا بنفسه فيقول: إن مما دعاني إلى الإسلام، أني طعنت رجلا منهم يومئذ برمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة، فقلت في نفسي: ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ هم عندهم الفوز هو أن ينتصر في المعركة ويعود بالغنائم، والأموال، والأنعام، والنساء، والأسرى، هذا هو الفوز. لكن هذا مقتول فكيف يقول: “فُزت” ويقسم “ورب الكعبة”؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة فقلت: فاز لعمر الله، فكان سببًا لإسلامه. 

ما على هذا اتبعتك:

انظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قسم لرجل قسماً من الغنائم بعد غزوة خيبر، فقال له: “هذا نصيبك”. فقال الرجل: “ما على هذا اتبعتك، أنا لم أخرج لأكون صاحب غنائم وأموال”. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فلماذا اتبعتني؟” قال الرجل: “لأُضرب بسهم هاهنا” وأشار إلى حلقه “فأدخل الجنة”. قال النبي: “إن تصدق الله يصدقك”. فكان كما قال؛ بعد المعركة أصيب بسهم في نحره ولقي الله شهيدًا.

لاحظوا، هذا اليقين لا يأتي من ثقافة أو قراءة، بل هو يقين المؤمن بسنن الله جل جلاله في معاملة عباده المؤمنين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله.

هناك الكثير من الحقائق الملتوية في حياتنا، سواء المتعلقة بالعادات والأعراف الخاطئة، أو المتعلقة بالبدع والمذاهب الهدامة، أو بالتزييف والتزوير الإعلامي، أو ما شابه ذلك، كلها تلعب على هذه النقطة، وهي عكس الحقائق والسنن الكونية الإلهية.

الله أعلى وأجلّ:

استمعوا لهذا المشهد: مشهد يُبيّن كيف تشرب النبي فهمه لسنن الله في الكون فهمًا عميقًا وأكيدًا. بعد غزوة أحد، ارتقى سبعون شيدا، وتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لضغط كبير لقتله، حيث كان جيش المشركين يضغط لقتل شخص واحد، وهو النبي، والصحابة يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفارقونه، حتى انسحب إلى الخلف واحتمى بجبل أحد. فسمع أبو سفيان، وكان لا يزال على الشرك، يرفع صنمه هُبَل على الجمل، إشارة إلى أنه انتصر في هذا اليوم، وقال: اعلُ هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه», قال: قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل», قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه», قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم», قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. يقصد أن هذا اليوم مقابل يوم بدر، والحرب بيننا دائمة. فقال النبي: “ألا تجيبوه؟” قالوا: “ما نقول يا رسول الله؟” قال: “قولوا: ليسوا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار“.

هذا، إخواني، فهم عميق ويقيني يصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم معلّمًا وموجهًا لأصحابه كيف تُدار الحرب النفسية حتى لا تنهزم النفس ولا تنكسر، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الأمة، أيا كان.

لأن هذا كله يؤثر في النفسيات ويهزمها ويكسرها ويدمرها، فإذا جاءك من يهددك في رزقك فأنت تعلم يقينًا أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه ذكر في كتابه (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود، الآية 6]، فماذا تفعل أمام التهديد؟ لا تبالي؛ رزقي على الله عز وجل.

ماذا تفعل لمن جاء يمكر بك ويهددك ويتوعد؟

ترجع إلى ما قاله مؤمن آل فرعون حينما قال: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غافر، الآية 44] ماذا قال الله بعدها؟ (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)[غافر، الآية 45]

الحجاج وسعيد بن جبير:

اقرؤوا الحوار بين الحجاج وسعيد بن جبير؛ حوار يُبيّن كيف يتكلم الطاغية المتجبر سفاك الدماء بمنطق القوة، وكيف يتكلم سيد التابعين سعيد بن جبير بمنطق الإيمان، المؤمن الفاهم الواعي المدرك.

الحجاج: ما اسمك؟ سعيد: سعيد بن جبير.

الحجاج: بل أنت شقي بن كسير. سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك.

الحجاج: شقيتَ أنت، وشقيتْ أمك. سعيد: الغيب يعلمه غيرك.

الحجاج: لأبدلنَّك بالدنيا نارًا تلظى. سعيد: لو علمتُ أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا.

الحجاج: ويلك يا سعيد! سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.

الحجاج: أي قتلة تريد أن أقتلك؟سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك مائة قتلة في الآخرة.

الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟ سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر.

هكذا، إخواني، حينما يفهم المسلم سنن الله عز وجل، يكون عنده تعامل مختلف مع الشدائد ورؤية ثاقبة يقينية إيمانية للأحداث، حتى في نظرته للوقائع، في علاج المشاكل، في إدارة حياته وحياة من يعول، كل ذلك وفق السنن الإلهية التي لها ضوابط تحكمها.

سنن الله لها ثلاث سمات:

  1. السمة الأولى: أنها سنن ثابتة. اقرأ آيات القرآن: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[ فاطر، الآية 43 ] سنن ثابتة وعامة، تتفاعل مع السنن في الكون، لا تفرق بين مؤمن وكافر، بين صغير وكبير.
  2. السمة الثانية: أنها سنن عامة، أي تصيب الجميع ولا تحابي أحدًا. الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد خالفوا أمره، فحدث ما حدث، وقال الله لهم: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ)[آل عمران، الآية 165] الآية الأخرى في سورة النساء: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)[النساء، الآية 123] هذا قانون عام، لا محاباة فيه لأحد.
  3. السمة الثالثة: أنها سنن مطردة أي متكررة، بمعنى أنها ليست مرة وانتهت، بل تتكرر، ومعنى تكرارها أنه يمكن القياس عليها. فإذا حصل كذا، فإن النتيجة ستكون كذا. التكرار معناه أن هناك سلفًا يمكن القياس عليه. (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف، الآية 111] هذه السنن تتكرر، فإذا تكرر الظلم جاء الأخذ من الله، وإذا حدث تكذيب الرسل والإعراض عن الله وقع عذاب الله.

باختصار، إخواني، فهم سنن الله في الكون يجعلك تفهم الواقع وتستشرف المستقبل، وتزداد عزةً ويقينًا وإيمانًا بالله سبحانه وتعالى. سنن الله ثابتة وعامة ومطردة، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في آيات كتابه، وبيَّنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته القولية وفي سنته العملية، حتى نفهم ونستوعب عن الله وعن رسوله.

خلاصة الخطبة:

السنن الإلهية تمثل القوانين الثابتة التي وضعها الله في الكون وفي حياة الأفراد والمجتمعات، بهدف توجيه الإنسانية لفهم الواقع وتفاعلاته وفق مشيئة الله وحكمته.

هذه السنن تنقسم إلى نوعين:

1- السنن الكونية: وهي القوانين التي تدير نظام الكون والظواهر الطبيعية، مثل حركة الأفلاك وتعاقب الليل والنهار، وهي ثابتة لا تتغير، لذا تمكن الإنسان من دراسة الظواهر وتوقعاتها كحساب مواقيت الصلاة وظهور الهلال. هذه السنن تعكس الحكمة والقدرة الإلهية، وتخضع للقدر الكوني الثابت إلا في حالات الخوارق كالآيات والمعجزات.

2- سنن الأفراد والمجتمعات: وتشمل القوانين التي تتعلق بتفاعل الإنسان مع نفسه ومجتمعه وفق الهداية والضلال، والتزام الشرع أو مخالفته؛ ومن خلالها نفهم بعض السنن الجارية كسنة الابتلاء والإمهال للظالم والاستدراج…وغيرها.

3- السنن الإلهية تتسم بالثبات والشمول والتكرار، مما يجعل فهمها بمثابة مرجعية لكل مسلم للفهم والإدراك، ويوفر له رؤية شاملة للتعامل مع أحداث الحياة، وتزيد من اليقين بأن العاقبة للمتقين.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1033 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع