شرح الأربعون النووية
35- لا تحاسدوا، ولاتناجشوا، ولا تباغضوا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولاتناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم
أهمية الحديث ومنزلته
- هذا الحديث أصل في بيان الحقوق الواجبة للمسلمين.
- وهو أصل في تنظيم العلاقات بين المسلمين في البيع والشراء، وسائر أمور الحياة.
- وهو أصل في الحثّ على تعاطي الألفة، ونبذ أسباب الفرقة بين المسلمين.
- وهو أصل في دفع المضارّ عن المسلمين، وجلب المصالح لهم.
- وهو أصل في حرمة مال المسلم ودمه وعرضه إلا بحق. الشرح الإجمالي.
شرح الحديث
قوله: “لا تحاسدوا”: أصلها: لا تتحاسدوا (بتاءين) حُذِفَتْ إحداهما طلبًا للتخفيف.
والحسد منه ما هو المذموم وهذا هو الشائع المشهور لهذا اللفظ ، ومنه ما هو مباح ومنه ما هو مستحب.
1- الحسد المباح :
وهو أن يرى غيره في حال حسنة، فيتمنى لنفسه مثل تلك الحال الحسنة، من غير أن يتمنى زوالها عنه، وإذا سأل الله مثلها فهذا أفضل.
مثلا : أن أرى صديقي اشترى ملابس أو ساعة أو هاتف إلى آخره فأتمناها، لكن لا أحسده ولا أتمنى زوالها ، وهذا مباح والله تعالى قال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) يعني الأولى بدل من أن تتمنى ما عند غيرك تمنى على الله عز وجل ما هو خير وأعظم.
2- الحسد المحمود(الغبطة) :
وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين وذكر الرجل الذي آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار والرجل الذي آتاه الله المال فهو ينفق منه في الليل والنهار)، فإذا كان حسدا مستحبا فأولى أن يكون لقارئ القرآن في الليل والنهار، والذي ينفق ماله صدقة وإحسانا وبرا في الليل والنهار، إشارة إلى أن التنافس في الخيرات أفضل من التنافس على الدنيا.
3-الحسد المذموم :
وهو تمني زوال نعمة المحسود إلى الحاسد.
أسباب الحسد:
للحسد أسباب عديدة منها:
السبب الأول: العداوة والبغضاء:
وهذا أشد أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب أبغضه قلبه، وغضب عليه، ورسخ في نفسه الحقد، والحقد يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان.
السبب الثاني: المنافسة في أمور الدنيا:
وهي تجر غالبًا إلى الوقوع في الحسد والأخلاق الذميمة، وفي الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنى أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطتْ على من كان قبلكم، فتَنافَسوها كما تَنافسوها، فتُهلِكَكم كما أهلَكتْهم) متفق عليه.
السبب الثالث: الكبر:
أن يكون الإنسان في نفسه كبر، هذا الكبر يؤدي إلى الحسد، ومن هذا النوع: حسد الكفار نبينا محمداً ﷺ على نعمة الرسالة التي أعطاه الله إياها، فلما أرسل الرسول ﷺ قام كفار مكة وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31] قالوا: لماذا نزل القرآن على محمد؟ لماذا لم ينزل على فلان؟ فهذا الكبر الذي في أنفسهم أدى إلى أن حسدوا الأنبياء على الرسالة.
السبب الرابع: الحسد بين الأقران:
الحسد ينتشر غالباً بين الأقران والأمثال، فينتشر مثلاً على مستوى الأقارب؛ بين الإخوة وأبناء العم؛ لأنهم في طبقة واحدة، الإخوة يشتركون مع بعضهم في شأن واحد؛ وهو أنهم كانوا من نسْل الأب الفلاني، فيقع بينهم الحسد، الطلبة في الفصل؛ لأنهم في مرحلة دارسة معينة، فيقع بينهم من الحسد ما لا يقع في غيرهم، يعني لا تجد طالب ابتدائي يحسد طالب جامعة، ولا تجد طالب جامعة يحسد طالب متوسط، لكن تجد غالبًا الحسد ينتشر بين الأقران المتماثلين، وتجد مثلاً العلماء الذين يستخدمون علمهم في الشر، والذين أوتوا ذكاًء ولم يؤتوا زكاًء، يعني تزكية النفس، قد تجد في طبقة التجار يحسد التجار بعضهم بعضًا، ، ولذلك ما تجد مثلاً تاجر قماش يحسد صانع الأحذية، ولا تجد العالم يحسد التاجر، لكن تجد الحسد منتشر في طبقة العلماء، في طبقة التجار، أي الذين يشتركون أو يتماثلون في مهنة معينة أو حرفة معينة أو صنعة معينة.
سئل الحسن البصري هذا السؤال، قيل له: يا أبا سعيد، أيحسُد المؤمن؟ قال: أنسيتَ إخوة يوسف؟ قال: نعم يَحسُد، المؤمنون بعضهم بعضًا.
السبب الخامس: حب الرئاسة وطلب الجاه والشهرة:
فإذا كان الرجل عديم النظر في مجال من المجالات، وصار الناس يثنون عليه ويمدحونه، وأنه فريد عصره ووحيد دهره، فإذا سمع هذا الإنسان بنظير له في محل من أنحاء العالم حسده مباشرة؛ لأن النفس بطبيعتها إذا كانت على مستوى معين، تكره أن يكون لها مماثل، لو واحد عنده سيارة ليس مثلها في العالم، صمّم تصميماً خاصًا وصار مشتهر بين العالم كله أن هذا عنده السيارة الفلانية التي مواصفاتها كذا وكذا، هذا إذا سمع بأن إنسانا آخر في العالم حتى ولو في أقصى الدنيا عنده مثل هذه السيارة يحسده حتى ولو لم يره لا هو ولا سيارته؛ لأن النفس تحب التفرُّد بالنعمة أو بالميزة، وتكره أن توجد هذه النعمة وهذه الميزة لأي إنسان آخر، ولذلك فإن النفس تكره من يشاركها في العلم أو الشجاعة أو العبادة أو الصناعة أو الثروة، أو غير ذلك.
قوله : ( ولاتناجشوا ) النجش في اللغة الإغراء والإثارة بالمكر والحيلة.
والنجش في البيع: أن يزيد في السلعة مَنْ لا يريد شراءها، إما لنفع البائع بزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه.
قوله : (ولا تباغضوا ) أي: لا يبغض بعضكم بعضا، والبغض النفرة من الشيء لمعنى فيه مستقبح، ويرادفه الكراهة.
وإذا كان البغض والحب أمرين قهريين لا يُنْهَى عنهما كما لا يُؤْمَرُ بهما، فالمعنى على ذلك:
١ – لا تتعاطوا أسباب الغضب كالشتم والضرب ومنع النفع ونحو ذلك.
۲ – وقيل: لا تُوقعوا العداوة والبغضاء بالنميمة ونحوها.
والنهي عن التباغض مُقيَّد بالتباغض من أجل الدنيا، فيخرج بذلك البغض في الله، فليس منهيّا عنه ؛ بل هو مشروع بل ومستحب في أحيان.
قوله : ( ولا تدابروا ) التدابر المخاصمة والهجران مأخوذ من أن يُولَّي الرجل صاحبه دبره ويُعْرِض عنه بوجهه، وهو التقاطع.
والهجر ينقسم إلى قسمين:
هجر لأمر الدين وهذا له أحكامه المختصة وضابطها: أنه يجوز هجر المسلم لأجل الدين إذا كان فيه مصلحة لذلك الهجر، وهذا كما هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- المخلفين الثلاثة في غزوة تبوك، وأمثال ذلك.
والقسم الثاني: الهجر لغرض دنيوي؛ أن يهجر المسلم أخاه للدنيا لإيذاء آذاه، أو لشيء وقع في قلبه عليه، فالهجر إذا كان للدنيا فللمسلم أن يهجر أخاه للدنيا إلى ثلاثة أيام، وما بعدها فحرام عليه أن يهجره، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (لا يهجر مسلم أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)
قوله : (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) وهو مثلا: أن يقول لمن أراد أن يشتري سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو لمن أراد أن يبيع سلعة بعشرة: أنا أخذها منك بإحدى عشر وأشباه ذلك، يعني أنه يغريه بألا يشتري من أخيه أو أن يبيع عليه ففي هاتين الصورتين حصل بيع على بيع المسلم.
حكم بيع المزاد أو المزايدة:
البيع بما يسمى المزاد العلني جائز بشرطين هما:
الأول : ألا يكون فيه قصد الإضرار بأحد.
والثاني: أن يكون الزائد مريدا للشراء، وإلا كان نجشا وهو محرم.
والفرق بينه وبين الشراء على شراء أخيه أو السوم على سوم أخيه هو أن الشراء على شراء أخيه يكون بعد عقد البيع وقبل التفرق من مجلس العقد أو في زمن خيار الشرط.
والسوم على سوم أخيه يكون بعد الاتفاق على الثمن وقبل عقد البيع.
وأما المزايدة فهي الزيادة في ثمن المبيع قبل أن يوافق البائع على ثمن معين مع شخص آخر، ولذا قال أصحاب الموسوعة الفقهية: واستثنى الفقهاء بيع المزايدة بالمناداة، ويسمى بيع الدلالة، ويسمى أيضا: المزايدة استثنوها من الشراء على الشراء، ومن السوم على سوم أخيه. وهي: أن ينادي على السلعة، ويزيد الناس فيها بعضهم على بعض، حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها.
وهذا بيع جائز بإجماع المسلمين، ودليل جوازه: ما رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء قال: ائتني بهما قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين قال: رجل أنا آخذهما بدرهم قال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا قال: رجل أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له اذهب فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب، ويبيع، فجاء، وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة، لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع.» رواه أبو داوود وغيره.
قوله : (وكونوا عباد الله إخوانا) هذا كالتعليل لما قبله وكأنه قال: اتركوا إتيان التحاسد وما بعده لتكونوا إخوانا، وفيه الأمر باكتساب ما يصير به المسلمون إخوانا .
قال القرطبي: “كونوا كإخوان النسب في الشفقة والمرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة“.
و”عباد الله ” : منادى حذف منه حرف النداء. و” إخوانا”: خبر كان.
وهذه الإضافة لتشريف المضاف، والفائدة منها استعطافهم؛ حثا لهم على الامتثال والقبول.
قوله : (المسلم أخو المسلم) لأنه يجمعهما دين واحد، والأخ من شأنه أن يُوصل النفع لأخيه، ويكفّ عنه الضرر، فلا يتصور حصول الضرر منه.
قوله : (لا يظلمه) لا ينقصه حقه ويمنعه إياه؛ لأن الظلم حرام مُذهب للبركة.
قوله : (ولا يخذله) الخذلان: ترك النصرة مع الاحتياج إليها؛ لأن من الحقوق التناصر.
وفي الحديث : ” ما من امرئ مسلم يخذل أمرءاً مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يُحِبُّ فيه نصرته) أخرجه أحمد
قوله : (ولا يكذبه) بالضم والفتح في أوله وسكون الثاني. أي لا يخبره بخلاف الواقع ؛ لأنه غشّ وخيانة.
أو لا يقول له: أنت كاذب، وكلما أخبره بخبر قال: هذا كاذب، وأنت كاذب؛ لأن الأصل في المسلم أنه لا يكذب.
حكم التورية ؟
التورية هي : أن يقول القائل كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع ولكن القائل يريد معنى آخر يحتمله الكلام ، كأن يقول له ليس معي درهم في جيبي فيُفهم منه أنّه ليس معه أي مال أبداً ، ويكون مراده أنه لا يملك درهماً لكن يملك ديناراً مثلاً ، ويسمى هذا الكلام تعريضاً أو تورية .
وتُعد التورية من الحلول الشرعية لتَجَنُّب حالات الحرج التي قد يقع الإنسان فيها عندما يسأله أحدٌ عن أمرٍ وهو لا يريد إخباره بالواقع من جهة ، ولا يريد أن يكذب عليه من جهة أخرى .
وتصح التورية من القائل إذا دعت الحاجة أو المصلحة الشرعية لها ، ولا ينبغي أن يكثر منها بحيث تكون ديدناً له ، ولا أن يستعملها لأخذ باطل أو دفع حق .
قال النووي :قال العلماء : فإن دعَت إلى ذلك مصلحة شرعيَّة راجحة على خداع المخاطب ، أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب : فلا بأس بالتعريض ، فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة : فهو مكروه وليس بحرام ، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً ، وهذا ضابط الباب .” الأذكار ” ( ص 380 ) .
وكذلك إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه ، أو ينقذ معصوماً ، أو يخرج من حرج عظيم ، أو يتخلص من موقف عصيب .
فهناك طريقة شرعية ومخرجٌ مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو ” التورية ” أو ” المعاريض ” ، وقد بوَّب البخاري – رحمه الله – في صحيحه ” باب المعاريض مندوحة عن الكذب ” – صحيح البخاري ، كتاب الأدب ، باب ( 116 ) – .
وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه ، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب ، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له إنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله .
وكان الإمام أحمد في داره ومعه بعض طلابه منهم المروذي فأتى سائل من خارج الدار يسأل عن المروذي والإمام أحمد يكره خروجه فقال الإمام أحمد : ليس المروذي هنا وما يصنع المروذي ها هنا وهو يضع إصبعه في كفه ويتحدث لأن السائل لا يراه .
ومن أمثلة التورية أيضاً :لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه ، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً : فقلت : والله لن أكلمه ، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح . وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله ، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي . يعني اللاعب . إغاثة اللهفان : ابن القيم 1/381 وما بعدها 2/106-107 .
هذا مع التنبيه هنا أن لا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ وذلك لأمور منها :
1- أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب .
2- فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا ؟ .
3- أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم يكون الموري عنده كذاباً وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً .
4- أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين .
قوله : (ولا يحقره) أي: لا يستصغر شأنه، ويضع من قدره بالترفع والنظر إليه بعين القلة، ذلك أن الله تعالى رفع من قدره وكرمه والذي يحتقر المسلم إنما يحمله على ذلك الكبر وفي الحديث : ” لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر “
قوله : ( التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-) التقوى: اجتناب غضب الله وعقابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهو الميزان الذي يتفاضل به الناس عند الله تعالى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) وإذا كان مقر التقوى القلب فلا يطلع على حقيقتها إلا علام الغيوب، قال تعالى: {هو أعلم بمن اتقى} يعني تقوى الله عز وجل في القلب وليست في اللسان ولا في الجوارح، وإنما اللسان والجوارح تابعان للقلب.
“ويشير إلى صدره ثلاث مرات” يعني قال: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، تأكيدا لكون القلب هو المدبر للأعضاء.
قوله : ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) بحسب ” : الباء زائدة.” حسب “: يكفي المرء من خصال الشر في أخلاقه احتقار المسلم.
قوله : (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) فلا يجوز إيذاؤه والاعتداء عليه ولا على شيء مما يملك، فكل أذى للمسلم في دمه وماله وعرضه محرم.. فالمسلم محفوظ ومعصوم الدم والمال والعرض.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة دم المسلم وماله وعرضه في حجة الوداع في خطبته المشهورة يوم النحر. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت. قال ابن عباس رضي الله عنه: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته) رواه البخاري. قال ابن حجر: “قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم به، ولذلك قال بعدها: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء”. وقال النووي: “(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) معناه: أن تحريم هذه الأمور متأكدة شديدة”.
حرمة الدم:
من أعظم الكبائرقتل مسلم بغير حق، قال تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}(النساء:93)، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) رواه البخاري.
“(في فسحة) أي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول”.
حرمة المال:
المال هو كل ما له قيمة للإنسان، وهو عصب الحياة، ولا يجوز لمسلم أن يأكل من مال أخيه المسلم إلا إذا كان ذلك عن رضا منه وطيب نفس، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لمال المسلم حرمة، فلا يجوز أبدا الاعتداء عليه بالإتلاف أو السلب والنهب. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
فلا يحل شيء من مال المسلم إلا بطيب نفسه ولو كان عودا من سواك. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد اوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك (عودا من سواك) رواه مسلم.
حرمة العرض:
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم حرمة في دمه وماله، جعل له أيضا حرمة في عرضه، فالدم كناية عن النفس، والعرض كناية عن أذاه بالقول.
ولما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج: (مرعلى قوم لهم أظافر من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أبو داود وصححه الألباني.
من فوائد هذا الحديث:
1-أن هذا الحديث العظيم ينبغي للإنسان أن يسير عليه في معاملته إخوانه، لأنه يتضمن توجيهات عالية من النبي صلى الله عليه وسلم.
2. تحريم الحسدبتمني زوال النعمة من الغير.
3. تحريم المناجشة بأن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها.
4. النهي عن التباغض وإذا نهي عن التباغض فقد أمر بالتحاب فقال صلى الله عليه وسلم: “وكونوا عباد الله إخوانا“.
5. النهي عن التدابر سواء بالأجسام أو بالقلوب؛ التدابر بالأجسام بأن يولي الإنسان ظهره ظهر أخيه، لأن هذا سوء أدب، ويدل على عدم اهتمامه به، وعلى احتقاره له، ويوجب البغضاء، والتدابر القلبي بأن يتجه كل واحد منا إلى جهة أخرى، بأن يكون وجه هذا يمين ووجه هذا شمال.
6. تحريم بيع الرجل على بيع أخيه.
7.وجوب نصرة المسلم، وتحريم خذلانه.
8. وجوب الصدق فيما يخبر به أخاه، وألا يكذب عليه.
9. تحريم احتقار المسلم مهما بلغ في الفقر وفي الجهل، فلا تحتقره.
10. أن التقوى محلها القلب، لقوله: “التقوى هاهنا وأشار إلى صدره” يعني في قلبه.
11.أن المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه.