التدين المغشوش
معنى التدين:
كلمة التدين معناها الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى بفعلها والانتهاء عما نهى الله عنه.
وكلمة متدين يساويها في المعنى: ملتزم أو مستقيم .
وقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في قول الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ أنا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ١٧٠﴾ [الأعراف: 170]
(يمسكون) مبالغة من التمسك بالشيء مع شده الفتن أي يعملون ما أمرهم الله به ولا يفرطون في شيء من ذلك، ويجاهدون أنفسهم على الرغم مما يقع في هذه الدنيا من شدائد وابتلاءات وعوارض .
حقائق نؤكد عليها قبل الدخول للموضوع
أولا/ الإسلام منهج حياة :
المسلم الحق يعلم أن الإسلام منهج حياة بمعنى أن الإسلام ليس طقوسا شعائرية تؤدى بالمسجد فحسب فنؤدي الصلاة بهيئة معينة، فإذا خرج الرجل إلى الدنيا صار هناك أمر آخر وحال آخر غير الذي كان فيه… إنما الصحيح هو أن نعتقد أن الالتزام بأوامر الله داخل المسجد تماما كخارجه.
ونعتقد أن كل شيء في حياه المسلم نظمه له الإسلام وهذا ما جمعته الآية الكريمة ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162] فكل حياتي وكل أقوالي وأفعالي أتوجه بها إلى الله خالصا له جل وعلا ﴿لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأنا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 163]
ثانيا/ الإخلاص في الأقوال والأعمال:
ويعتقد المسلم أن عمله الصالح لا يقبل منه إلا إذا قصد به وجه الله؛ لا يقصد به رضا الناس ولا الشهرة ولا المجد؛ ولا يتكسب ويتربح من وراء العمل الصالح، لأن العمل إذا كان لغير الله فلا أجر لصاحبه عليه وإذا كان خالصا لله كان فيه الأجر والعز والرفعة في الدنيا والآخرة.
ثالثا / طهارة الظاهر والباطن:
والمسلم الذي يفهم دينه فهما صحيح يعلم أن ظاهره ينبغي أن يكون كباطنه؛ الظاهر كالباطن فلا يظهر للناس ودا ويحمل في قلبه غلا وغشا.
يمدح الناس في وجوههم ثم يسبهم ويلعنهم من وراء ظهورهم فهو يعلم يقينا أن المسلم الحق ظاهره كباطنه وأن الله جل جلاله يطلع على القلوب والأعمال وليس على الأموال والأجسام .
ثالثا/ الخلق الحسن:
والمسلم الحق يعلم أن الأخلاق لا تنفصل عن العبادات فكما أن هناك عبادة مع الله وحال مع الله فإن هذه العبادة تنعكس سلوكا حسنا في التعامل مع الناس والقول المشهور (الدين المعاملة) هو ليس حديث لكن المعنى فيه صحيح كما قال النبي: (الحج عرفة) ومعنى ذلك أن ثمرة التدين الصحيح تظهر في معاملتك في صدقك وأمأنتك واتقانك للعمل… إلى غير ذلك، فإذا كانت العبادة في جانب والسلوك والأخلاق في جانب فهذا تدين مغشوش.
هذه المقدمة التي بدأت بها لتوضيح معنى التدين الصحيح، وأن هذه هي الصورة الصحيحة التي يجب على المسلم أن يفهمها من كلمة (متدين) أو مسلم صحيح الدين أو مستقيم أو ملتزم.
ما هو التدين المغشوش؟
- أما التدين المغشوش فهو الذي يخالف الظاهر الباطن ظاهره شيء وباطنه شيء.
- التدين المغشوش هو من يعمل العمل للناس وليس لله سبحانه وتعالى ابتلينا في زماننا بهوس التصوير على الفيسبوك صار الطواف بالكعبة لايف على الفيسبوك والصلاة لايف على الفيسبوك والدعاء لايف على الفيسبوك وصارت الكثير من العبادات تنشر على الفيسبوك وكأن الفيسبوك هو كتابك الذي ستسجل فيه الحسنات والسيئات يوم القيامة يقول أحدهم: الحمد لله قرأت الآن جزء من القرآن… الله على القرآن وحلاوة القرآن!!! لماذا تخبرنا يا أخي؟
الحمد لله ذهبت إلى دار كذا للأيتام أو المكان الفلاني الذي فيه الفقراء والحمد لله فعلنا وقمنا….
يقوم بإطعام الطعام أو توزيع الزكاة أو ذبح ذبيحة يصور الفقراء وهم يأخذون المال أو اللحم أو البطاطين…وهذا ولا شك نوع من أنواع الأذى للفقراء.
- اسمع مثلا لبعض القراءات القرآنية تجد بعضهم سجل لنفسه تلاوة قرآنية -والله مطلع على القلوب- لكن الذي نراه من مبالغات في كتابة العناوين تدينا مغشوشا كالتالي:
ينشر مقطع قرآني ويقول خشوع رهيييييييب بتكرار الياء ست مرات كأنه مد ست حركات (هذه لغة الفيسبوك) طبعا ليس في اللغة العربية خشوع رهييييييييب والياء ست مرات من الذي جعلك تدعو الناس إلى هذا الخشوع الرهيب على مقطع أنت قمت بتسجيله؟
القراءة التي لا تنسى …القراءة التي لن تجعلك تمسك دموعك من البكاء… الفارس الأول لقراءة القرآن…. عملاق القراءة…قراءة قمة في المتعة والإبداع…تلاوة تفوق الوصف … إبداع لا يوصف….الخ.
نفس الكلام في الخطب: خطبة نارية…. كلمات تبكي الحجر …..الخ.
صارت العبادة بهذا الشكل وكأننا نقوم بالإعلان عن أي سلعة تجارية لا خشوع في تلاوة القرآن ولا في الإعلان عن القرآن ولا حتى أدب في الاعلان حتى عن مقطع دعوي أو خطبة أو موعظة أو ما شابه ذلك، بل وصار هناك من يرفق موسيقى حزينة في الخلفية مع كلام الشيخ أو آهات وتوجع علامة على الخشوع -كما يظنون- .
وأنا لست ضد الإعلان الجيد لكن تزكية النفس أو القارئ أو الخطيب لنفسه أو على صفحته بهذا الشكل هو إهلاك ووقوع في الرياء والغرور والعجب.
ولما رأى عمر- رضي الله عنه- عبد الله بن مسعود وحوله الكثير من الاتباع قال: إنها فتنة للتابع والمتبوع.
سيدنا عبد الله بن مسعود علَم جليل وجبل من جبال الإيمان رضي الله عنه وحق له فالناس تتبعه إما لسؤال أو لفتوى وإما لبركته كصحابي من صحابة رسول الله ﷺ لكن عمر البصير الملهم قال: إنها فتنه للتابع والمتبوع.
فهذا التدين المغشوش المهتم بنشر كل صغيرة وكبيرة من عباداتنا على وسائل التواصل هذا لا ينبغي.
طبعا افرّق بين النشر الدعوي وبين هذه التزكية التي تكتب في العناوين هذا الذي أعنيه، لكن لا شك أن على أهل الحق مزاحمة أ هل الباطل في النشر على هذه المواقع فهي منبر من المنابر الدعوية، لكن لا نزكي أنفسنا وإذا كان هناك عبادة فلتكن بيننا وبين الله.
وأتذكر ونحن في الطواف بالكعبة عانينا كثيرا من الهواتف المرفوعة لعمل لايف على الفيسبوك فلا تجد خشوعا وأنت تطوف بالكعبة لكثرة هؤلاء وتحول الطواف بالكعبة لعرض … فهل يعقل أن الله أتى بك إلى هذا المكان الطيب الطاهر من آفاق الأرض حتى تقوم بعمل لايف سبعة أشواط وتدور بالكاميرا على الطائفين!!!
وتجد من يكتب على الفيسبوك أنا جالس الآن أمام الكعبة من يريد دعوة يخبط (like) ويكتب تعليق!!! لا إله إلا الله هذا تدين عجيب في زماننا.
أحد الدعاة وقف على جبل عرفة يقول: اللهم اغفر لكل المشتركين بالصفحة!!! يا الله يا الله ماهذا الهوس ؟
وماذا يفعل من لم يعرف شيئا عن اسمك ولا عن صفحتك ؟ هذا من عجائب الدهر!!
فهذا تدين مغشوش في زمان صار الدين فيه أشبه بالسلع حرصا على كثرة المشاهدات وعدد المشاهدين فانتبهوا يا اخواني.
اجعل عبادتك لله خالصة ابتغ الأجر من الله وحده.
إذا كان هناك نصيحة أو تذكير لإخوانك فلا بأس فالدال على الخير كفاعله لكن لا تزكي نفسك لا تقل: أنا الذي فعلت أنا صليت أنا تصدقت أنا أنفقت…. فهذا قد يوقعك في الكبر أو الرياء والغرور والعجب بالعبادة، وتغتر بأن الناس يمدحونك أو يمجدونك لكن ماذا أنت عند الله سبحانه وتعالى؟
أنت في ميزان الله كم تساوي؟!!
سوء الخلق:
من التدين المغشوش تمسك بعض الناس بالسنن ثم تجد عنده سوء خلق عجيب يعني ظاهره يقول أنا سلفي أنا شيخ أنا متدين أنا ملتزم ثم تجده يستحل الخوض في أعراض الناس لماذا؟ لأنهم في وجهة نظره مبتدعة فطالما مبتدعة يحل له ذمهم وغيبتهم والخوض في أعراضهم.
وتجد بعضهم يتجرأ ويسيء الأدب مع والديه لأنهم عصاة …هو ملتزم متدين وهم عصاة ….
فالتدين لا يعني سوء الخلق مع الوالدين أو اغلاظ القول لهما أو استحلال سبهما أو ما شابه ذلك.
المماطلة في سداد الدين:
من الأمور التي يقع فيها بعضهم : شخص عليه ديون لإخوانه أخذ منهم ديونا ومر عليها سنين ، ويذهب للعمرة سنويا!! يا أخي وماذا عن الديون؟
يقول لك: هم غير محتاجين!!! هذه حقوق ستسأل عنها بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ وفر ثمن العمرة وسدد أموال الناس التي عليك .
أكل الربا :
وبعض الناس الذين عندهم صور عجيبة في التدين يضع الأموال في البنك حساب ادخاري يعني عليه فائده ربوية، ويقول أنا أكفل يتيما!!
تكفل اليتيم من مال حرام؟
أنا أعطي استقطاع شهري للمسجد؟
وهل المسجد سيأخذ منك مالا حراما؟
الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا) الله غني الله عزيز؛ هل تظن أن اليتيم بدون مالك الحرام الربوي سيضيع هل تظن أن المسجد بدون مالك الحرام الربوي سيغلق؟
هذا بيت الله، وهذا عبد الله، فإذا أردت أن تنفق فأنفق من حلال ، أما إيداع أموالك في بنك بشرط ربوي فهذا من الكبائر، والله تعالى ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَذَرُوا۟ مَا بَقِیَ مِنَ ٱلرِّبَوٰۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُوا۟ فَأۡذَنُوا۟ بِحَرۡبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة 278،279] كيف تجمع بين كفالة يتيم وحرب من الله ورسوله.
طبعا هناك فارق بين من كان جاهلا أو عاصيا وهداه الله، فنقول له أخرج الفوائد الربوية لمسجد أو يتيم أو مسكين هذا على سبيل التخلص من المال الحرام والتوبة، لكن شهريا أنا عارف ان الربا حرام ومتأكد ان الربا حرام واقول أنا اكفل اليتيم أنا أكفل الأخوات البنات أنا أرسل للفقراء الله غني عنك وعن المال الحرام إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.
حسن الخلق ثمرة العبادة الصحيحة:
وإذا نظرنا إلى العبادات التي شرعت في الإسلام، نجد أنها شرعت للارتقاء بالمسلم إلى الكمال الخلقي، وأن يظل مستمسكا بمكارم الأخلاق:
1. الصلاة: يقول الله عز وجل : ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )[ العنكبوت:45] . إذن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر أيكون قد أدى صلاته أم لا ؟ فلكل عمل ثمرة وهذا عمل لم ينتج ثمرة .
إذا تصدقت ستتعلم الرحمة بالضعفاء، ستتعلم الكرم وترك البخل ، ستكره الكــبْر، وتتعلم التواضع
النبي أيضاً يعلمنا أن هناك صدقات أخلاقية تفوق صدقات الأموال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم :- تبسمك في وجه أخيك صدقة ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة ، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق صدقة ، وإرشادك للرجل الضرير صدقة .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله “إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ، قال: هي في النار “. رواه أحمد في مسنده ورجاله ثقات.
فلم تغن عنها عباداتها شيئا مع سوء أخلاقها ، فهي تؤذي جيرانها بلسانها .
الخلاصة:
- التدين الصحيح الذي نسأل الله أن نلقاه عليه أن يكون الإسلام منهج حياة.
- أن يكون ظاهرك كباطنك.
- ألا ينفصل سلوكك وأخلاقك عن عبادتك فكما أنك تلتزم العبادة الصحيحة فلتكن أيضا سلوكياتك بين الناس صحيحة.
- التدين الحق هو أن تعمل العمل لله وحده خالصا له حريصا على ألا يطلع الخلق على عملك .
أسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الاخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو
وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو.
عبدالقادر إسماعيل ديتامو
جزاكم الله خيراً