قدر الحبيب النبي عند الرب العلي
تعظيم الرب العلى لقدر الحبيب النبي :
إن شأن المصطفى عند الله عظيم، وإن قدره عند ربه لكريم، فلقد خلق الله الخلق واصطفى من الخلق الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولى العزم الخمسة، نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً- صلوات الله عليهم جميعا- واصطفى من أولى العزم الخمسة الخليلين الحبيبين إبراهيم ومحمداً واصطفى محمداً على جميع خلقه، فشرح له صدره ورفع له ذكره وأعلى له قدره ووضع عنه وزره، وزكاه ربه في كل شئ.
زكاه في عقله فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} النجم 2
وزكاه في صدقه فقال سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} النجم 3
وزكاه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} النجم11
وزكاه في بصره فقال سبحانه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} النجم17، وزكاه في
صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} الشرح1
وزكاه في ذكره فقال سبحانه {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (4) سورة الشرح ، وزكاه في طهره فقال سبحانه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} (2) سورة الشرح
وزكاه فى حلمه فقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة، وزكاه كله فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
بأبي هو وأمي.
أغر عليه للنبوة خاتم —- من نور يلوح ويشهد
وضم الإله أسم النبي إلى اسمه — إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو —– العرش محمود وهذا محمد.
ويتجلى تكريم الرب العلى لحبيبنا النبي فى قسم الله جل وعلا بعمر المصطفى ، بحياة المصطفى ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غير محمد فقال جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (72) سورة الحجر
أقسم الله بحياة حبيبه المصطفى فيقول ربه له: وحياتك يا محمد.
ومعنى الآية وحياتك يا محمد إن أهل الكفر في ضلالهم يترددون ويتخطفون ويتحيرون: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
بل لم يقسم الله جل وعلا لنبي من أنبيائه بصفة الرسالة إلا لحبيبنا المصطفى فقال جل وعلا: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (3) سورة يــس
بل وأقسم الله بالضحى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (1، 2) سورة الضحى أنه ما أهمل محمداً وما قلاه بعدما اختاره واصطفاه واجتباه وأن ما أعده له في الآخرة خير له من كل ما أعطاه في دنياه، وقد جمع الله له الكرامة والسعادة في الدارين مع الزيادة فقال جل في علاه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} سورة الضحى .
وخاطب الله جميع الأنبياء والمرسلين بأسمائهم مجردة إلا المصطفى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } (35) سورة البقرة.
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا} (48) سورة هود
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (104، 105) سورة الصافات
{ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } (11، 12) سورة طـه
{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (55) سورة آل عمران
أما المصطفى فنادى عليه ربه بقوله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (45، 46) سورة الأحزاب ،
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } (41) سورة المائدة
وما ذكر الله اسم النبي إلا مقروناً بالرسالة فقال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } (144) سورة آل عمران.
وتدبر معي هذه الكرامة فإن الله جل وعلا قد خاطب حبيبة فأخبره بالعفو عنه قبل الفعل الذي فعله قال سبحانه: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (43) سورة التوبة. عفا الله عنك فقدم الله العفو عن حبيبه ثم أخبره بفعلته بعد ذلك.
وخصه تبارك وتعالى الشفاعة العظمى في الآخرة وهى المقام المحمود الذي ذكره الله في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء.
وخصه الله جل وعلا بالوسيلة، والوسيلة هي أعلى منزلة في الجنة كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي قال: “إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا على فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي”
وخصه الله بالكوثر هل تعلمون ما الكوثر؟ حوض أو نهر في الجنة ماءه أشد بياضاً من الثلج، وأحلى مذاقا من اللبن بالعسل، وطينه- أو طيبه، كالمسك الأذفر وعدد آنيته بعدد نجوم السماء من شرب منه شربة بيد الحبيب المصطفى، لا يظمأ بعدها أبداً حتى يسعد بالنظر إلى وجه الله في الجنة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (1:3) سورة الكوثر .
وفى الصحيحين من حديث أنس واللفظ للبخاري أن الحبيب النبي قال:” بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه( شاطئاه) قباب الدر المجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك عز وجل” يقول الحبيب : فإذا طيبه- أو طينه- مسك أذفر”
وفى رواية مسلم من حديث أنس قال المصطفى “حوضي أشد بياضاً من الثلج وأحلى من اللبن بالعسل عدد آنيته أكثر من نجوم السماء وإني لأرد الناس عنه يوم القيامة- أي: من غير المؤمنين، كما يرد الرجل إبله عن حوضه” فقالوا: وهل تعرفنا يومئذ يا رسول الله؟ فقال المصطفى :” نعم إن لكم يومئذ سيما” أي: علامة ” تأتوني أو تردون على غراً محجلين من أثر الوضوء”
وأخذ الله الميثاق على جميع النبيين والمرسلين إن بعث فيهم محمد أن يؤمنوا به وأن ينصروه قال جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (81) سورة آل عمران.
ويبين لنا الحبيب المصطفى امتثالاً منه لأمر ربه أن يبلغ، يبين لنا مكانته عند ربه فيقول كما في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: ” أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأنا أول شافع وأول مشفع”
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ” فضلت على الأنبياء بست – أي بست خصال—فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون”
وفى الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما أتى للنبي ليلة الإسراء بالبراق استصعب البراق على النبي – أي: انتفض البراق، ولم يتمكن النبي أول الأمر من ركوبه، فقال جبريل للبراق: بمحمد تفعل هذا- فوالله ما ركبك أحد أكرم على الله من محمد فارفض البراق عرقاً.
وأول من يفتح باب الجنة يوم القيامة هو نبينا، إن الله حرم الجنة على أي مخلوق أن يدخلها قبل الحبيب محمد :
في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي قال: ” آتى باب الجنة فأستفتح فيقول لي خازن الجنان: من أنت، فأقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك”
تكميل الله له المحاسن خلقا وخلقا:
منّ الله عليه بجمال الصورة واستواء البدن ووضاءة الوجه، وقوة الفكر والعقل ودقة الفهم وسلامة القلب وكرم النسب وشرف الأصل.
وبالنظر إلى مجموع الروايات الصحيحة التي وصفت خلق الحبيب المصطفى كما في الكتاب الماتع للإمام الترمذي في كتابه الشمائل المحمدية، يتبين لنا من خلال هذه الآثار والأحاديث الصحيحة أن النبي كان أحسن الناس وجهاً إذا سر استنار…. وجهه كأنه فلقة قمر.
كان كث اللحية، واسع الصدر، عظيم المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير، إن تكلم كأن نوراً يخرج من بين ثناياه، وما أحلى وأرق وأجمل ما وصفته به أم معبد الخزاعية حين قالت لزوجها، وهى تصف له رسول الله : قالت: إنه رجل ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق ، أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحلى الناس وأحسنهم من قريب، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً.
لقد من الله عز وجل على النبي بجمال الخلق، وحسن الصورة فوالله ما عرفت الأرض أبهى ولا أجمل من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه.
ثم زين الله هذا الخلق البشرى بكل سمات الكمال الخلقي في بشر زين الله هذا الخلق بالحلم والعلم والرحمة والإنابة والتواضع، والزهد، والكرم، والحياء، والمروءة، والشجاعة، والرجولة، والعفة، والعفو، والسخاء، والدين، والعبودية.
بل وجمع له كل الصفات الحميدة وأثنى عليه فى آية واحدة محكمة جامعة مانعة، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
من الله عليه بحسن الخلق وحسن الخلق: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت: حدثني عن صفة رسول الله في التوراة، فقال عبد الله بن عمرو: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض ما وصف به في القرآن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (45) سورة الأحزاب. وفى التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه حتى يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. رواه البخاري
ومن أحلى وأرق ما وصفه به خادمه أنس والحديث في الصحيحين: خدمت رسول الله عشر سنين فوالله ما قال لي: أف قط ولا قال لشئ صنعته: لم صنعته؟ ولا لشئ تركته: لم تركته؟.
يقول أنس: وكان أحسن الناس خلقاً ثم قال: ووالله ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى الصحيحين من حديث عائشة قالت: قلت : يا رسول الله هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟
(تعلمون أن النبي في أحد قد شج وجهه وكسرت رباعيته ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر، وانتشر في أرض المعركة أن رسول الله قد قتل ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر، وانتشر في أرض المعركة أن رسول الله قد قتل ) فعائشة الفقهية تقول للحبيب : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال الحبيب :” لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال وهو من أشراف أهل الطائف، فلما لم يجبني إلى ما أردت انطلقت على وجهي وأنا مهموم ولم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب”.
تعلمون ماذا فعل بالنبي يوم الطائف، والله ما ذهب إليهم رسول الله يطلب مالاً ولا جاهاً ولا وجاهة، بل ذهب إلى الطائف على قدميه المتعبتين الدائبتين لم يجد بعيراً ولا حماراً، سار على قدميه قرابة السبعين كيلو متر على قدميه المتعبتين تحت حرارة الشمس، التي تصهر الجبال وتذيب الحديد، على رمال انعكست عليها أشعة الشمس، فكادت أن تأخذ الأبصار.
ذهب الحبيب المختار إلى أهل الطائف ليقول لهم قولوا: لا إله الله تفلحوا فى الدنيا والآخرة، فماذا فعل به أهل الطائف؟ رموه بالحجارة بأبي هو وأمي طردوه لم يقدموا له طعاماً، ولا شراباً باستثناء عداس رضي الله عنه، وأرضاه ذلكم الخادم الذي أسلم ومن الله عليه بالإيمان في هذه الرحلة.
فلم يرجع النبي من هذه الرحلة الشاقة إلا بموحد واحد وعاد النبي والدماء تنزف من قدميه يقول:” فانطلقت وأنا مهموم على وجهى ولم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب” (مكان بين مكة والطائف) يقول: فنظرت فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام”، والحديث في الصحيحين ” فنادى على جبريل وقال: يا رسول الله إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك وقد أرسل الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله” قال الحبيب:” فنادى على ملك الجبال وقال: يا رسول الله لقد أرسلني الله إليك فمرني بما شئت فيهم” ثم قال ملك الجبال” قال: لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت”. والأخشبان جبلان عظيمان بمكة .
والله لو أمر النبى ملك الجبال لحطم ملك الجبال تلك الجماجم الصلدة، وتلك الرؤوس العنيدة ولسالت دماء من الطائف بحوراً وأنهاراً، ليراها أهل مكة بمكة، ولكن نهر الرحمة وينبوع الحنان ولكن الرحمة المهداة والنعمة المسداة ما خرج إلا لله فما انتقم لنفسه أبداً وما غضب لنفسه أبداً ، والله ما غضب إلا لله، لا زالت الدماء تنزف من قدميه المتعبتين ومع ذلك يرد بنى الرحمة على ملك الجبال ويقول:” لا يا ملك الجبال، بل إني أرجو الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله جل وعلا ولا يشرك به شيئاً .
قال تعالى:” {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء
قال ابن عباس: رسول الله رحمة للفاجر والبر فمن آمن به فقد رحم في الدنيا والآخرة ومن كفر به، فقد رحم في الدنيا وأجل له العذاب في الآخرة لقول الله لنبيه: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال: بعث رسول الله خيلاً قبل نجد، بعث النبي سرية على خيل قبل نجد منطقة فأسرت هذه السرية رجلاً من بنى حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، وثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة.
وهذا الرجل كان من أشد المعاندين لرسول الله وكان من أشد من آذى وهجا رسول الله ثمامة ابن أثال، فأسره الصحابة ودخلوا به المسجد النبوى وربطوه فى سارية من سواري المسجد النبوى أي ربطوا ثمامة بن أثال فى عمود من أعمدة المسجد وهو العدو اللدود لله ورسوله.
فلما دخل النبى المسجد رأى ثمامة بن أثال، اقترب منه المصطفى وقال له:”ماذا عندك يا ثمامة” إنه عدو الله ورسوله اقتله يا رسول الله، اقتله فهو عدو الله ورسوله، لكن تعلموا وتدبروا هذا الخلق الرفيع العالى يدنو النبى منه ويلاطفه ويقول له: ” ماذا عندك يا ثمامة” فيقول ثمامة: عندى خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم- يعنى: إن قتلتنى قتلت رجلاً له وجاهته ومكانته وإن عشيرته لن تفرط فى دمه أبدا- إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت.
فتركه المصطفى وأمر الصحابة أن يحسنوا إليه بأبى هو وأمى ورب الكعبة أمر الصحابة أن يحسنوا إليه نعم وتركه.
ثم دخل عليه فى اليوم الثانى وقال: ” ماذا عندك يا ثمامة” قال عندى خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت.
فتركه المصطفى وأمر الصحابة أن يحسنوا إليه، ثم دخل عليه فى اليوم الثالث وقال:” ماذا عندك يا ثمامة” قال: عندى خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت.
فقال المصطفى : “أطلقوا ثمامة” أطلقوه لا نريد منه مالاً ولا نريد منه شيئاً إنه عدو الله ورسوله أسر ويطلق.
فانطلق ثمامة إلى مكان قريب من المسجد النبوى فاغتسل ثم عاد مرة أخرى إلى المسجد النبوى، لكنه ما عاد مأسوراً مربوطاً إنما عاد بمحض أختياره وحبه ورغبته، فدخل المسجد النبوى ووقف أمام النبى وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله ثم قال: اسمع يا رسول الله والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فأصبح الآن وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلى من دينك فأصبح الآن دينك أحب الدين إلى، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلى من بلدك ، فأصبح الآن بلدك أحب البلاد كلها إلى، ثم قال ثمامة: يا رسول الله قد أخذتنى خيلك وأنا أريد العمرة.
تدبر معى انطلق ثمامة يريد العمرة وهو على الكفر والشرك، فأبى الله إلا أن يعتمر ثمامة وهو على التوحيد قال: يا رسول الله لقد أخذتنى خيلك، وأنا أريد العمرة، فبماذا تأمرنى فبشره النبى بخير.
قال الحافظ ابن حجر: بشره بالجنة أو بخيرى الدنيا والآخره أو بأن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر والمعاصى فبشره الرسول بخير وأمره أن يعتمر فانطلق ثمامة بن أثال موحداً ليؤدى العمرة لله جل وعلا، فلما بلغ بطن مكة رفع صوته بالتلبية، فكان ثمامة أول من شهد بالتلبية لله فى مكة.
وفى رواية ابن هشام بسند صحيح، أقبل عليه الكفار والمشركون وضربوه ضرباً مبرحاً حتى كادوا يقتلوه، فإنه يجهر بالتلبية ويتحدى القوم، حتى رآه أبو سفيان فقال: دعوه أما تعرفوه إنه سيد أهل اليمامة إنه ثمامة بن أثال، إنكم تحتاجون إليه وإلى اليمامة فى القمح، فإن القمح كله لا يأتينا إلا من اليمامة فتركوه.
فقال ثمامة والتفت إليهم وقال: والله لن تصلكم بعد اليوم حبة قمح من اليمامة إلا أن يأذن فيها رسول الله وفرض هذا الموحد الذى خلع رداء الشرك على عتبة الإسلام ووضع كل طاقاته وقدراته وإمكانياته تحت تصرف المصطفى وتبرأ من الصداقات والولاءات والعلاقات الشركية ووالى الله ورسوله والمؤمنين على الفور.
قال: والله لن تصلكم بعد اليوم حبة قمح إلا أن يأذن فيها رسول الله وانطلق ثمامة وهو سيد اليمامة، ففرض حصاراً اقتصاديا مروعاً حتى أكلت قريش العهن من شدة الفقر والجوع.
فأرسل أبو سفيان إلى النبى ليرسل النبى إلى ثمامة ليخلى ثمامة بين قريش وبين القمح، فما كان من صاحب الخلق العظيم إلا أن يرسل إلى ثمامة، وأن يقول له: “خل بينهم وبين الميرة” فأرسل بعدها ثمامة القمح مرة أخرى إلى آل قريش، ألم يقل ربنا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم.
وأختم هذه المشاهد العظيمة الرائعة الرقراقة من الخلق العالى الرفيع لنبينا بمشهد رواه الإمام مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى قال: صليت يوما مع رسول الله فعطس أحد القوم فى الصلاة فقلت له: يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت: وأثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى؟! يقول: فضرب القوم بأيديهم على أفخادهم يسكتوننى فلما علمت أنهم يسكتوننى سكت.
يقول: ولما أنهى النبى صلاته فبأبى هو وأمى والله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه والله ما نهرنى ولا ضربنى ولا شتمنى وإنما قال لى:” إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن” وصدق ربى إذا يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران.
وأخيراً: هل عرفت الأمة قدر نبيها؟
والجواب لا والله، لا والله ما عرفت الأمة قدر نبيها إلا من أفراد قلائل، أسأل الله أن يجعلنا منهم إن ادعت الأمة أنها عرفت قدر نبيها، فإن حالها يكذب ادعاءها فما أيسر الادعاء.
لقد أدعى قوم المحبة فابتلاهم الله بآية المحنة فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران.
من يدعى حب النبى ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء
فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء
إن أدعت الأمة أنها عرفت قدر نبيها ، فإن واقعها وحالها يكذب ادعاءها. زعمها هل عرفت الأمة قدر النبى فى الوقت الذى نحت فيه شريعته وأخرت فيه سنته، وقدمت القوانين الوضعية البشرية وحكمتها فى الأعراض والأموال والدماء والفروج والله جل وعلا يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.
والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) سورة الحجرات.
قال ابن عباس: لا تقدموا بين يدى الله ورسوله: أى لا تقولوا خلاف
الكتاب والسنة.
قال القرطبى: لا تقدموا بين يدى الله ورسوله، أى لا تقدموا قولاً ولا فعلاً على قول الله وقول وفعل رسول الله .
قال الشنقيطى: ويدخل فى الآية دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، فلا حلال إلا ما أحله الله، ورسوله ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دينا إلا ما شرعه الله ورسوله .
إن حق النبى على الأمة لعظيم، إن حق النبى على الأمة لعظيم ولكن الواقع يبين بجلاء أن الأمة قد ضيعت حق المصطفى ، إلا من رحم ربك من أفراد قلائل لا تخلو الأمة منهم فى أى زمان وفى أى مكان.
هذه خطبة مفرغة للشيخ محمد حسان بتصرف واختصار يسير