شرح الأربعون النووية
34- من رأى منكم منكرا فليغيره بيده
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم .
سبب ورود الحديث:
أورد الإمام مسلم هذا الحديث عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان بن الحكم فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرك ما هناك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره)… إلى آخره.
وفي هذا الحديث دليل على أنه لم يقم بذلك أحد قبل مروان، فإن قيل: كيف تأخر أبو سعيد الخدري عن تغيير هذا المنكر حتى أنكره هذا الرجل؟
فإنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرًا أول ما شرَع مروان في تقديم الخطبة، وأن الرجل أنكره عليه، ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام، ويحتمل أنه كان حاضرًا لكنه خاف على نفسه إن غيَّر حصولَ فتنة بسبب إنكاره، فسقط عنه الإنكار، ويحتمل أن أبا سعيد همَّ بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد، والله أعلم.
شرح الحديث
ترتبط خيرية هذه الأمة ارتباطا وثيقا بدعوتها للحق ، وحمايتها للدين ، ومحاربتها للباطل ؛ ذلك أن قيامها بهذا الواجب يحقق لها التمكين في الأرض ، ورفع راية التوحيد ، وتحكيم شرع الله ودينه ، وهذا هو ما يميزها عن غيرها من الأمم ، ويجعل لها من المكانة ما ليس لغيرها ، ولذلك امتدحها الله تعالى في كتابه العزيز حين قال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( آل عمران : 110 ) .
قوله ( من رأى منكم) رأى أي: عَلِمَ؛ سواء أبصر ذلك بنفسه، أو علمه بطريق يعتمد عليه.
(منكم ) : أي : منكم يا معشر المكلفين القادرين، والخطاب شامل لجميع الأمة حاضرهم وغائبهم، والمرأة والرجل فيه سواء، وإنما ذكر الضمير على عادة النصوص في تذكير الضمائر تغليبا للذكورة على الأنوثة، وليس المراد اختصاص الرجال بذلك.
(منكرا): أي : شيئًا قبيحا قبَّحة الشرع قولاً أو فعلاً ولو صغيرة.
وشروط المنكر الواجب تغييره وإنكاره شرطان:
1 – أن يكون مجمعا على تحريمه؛ فلا ينكر المختلف فيه، إذا كان فاعله مجتهدا، أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا، واحتمل فيه الخلاف، وساغ فيه الاجتهاد.
٢ – أن يكون المنكر ظاهرًا مِن غير تجسس، لقوله تعالى ( وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾ [الحجرات: 12]. وكان الحسن يقول: “إياكم والتجسس فوالله لقد أدركنا ناسا لا عيوب لهم فتجسسوا على عيوب الناس فأحدث الله لهم عيوبًا”.
( فليغيره) : يعني يُزيله، وجوبًا عينيا إن انفرد بعلمه مع القدرة عليه، وكفائيا إن شاركه غيره.
والحديث فيه أن إنكار المنكر على مراتب ثلاث :
التغيير باليد ، والتغيير باللسان ، والتغيير بالقلب .
وهذه المراتب متعلقة بطبيعة هذا المنكر ونوعه ، وطبيعة القائم بالإنكار وشخصه ، فمن المنكرات ما يمكن تغييره مباشرة باليد ، ومن المنكرات ما يعجز المرء عن تغييره بيده دون لسانه ، وثالثة لا يُمكن تغييرها إلا بالقلب فحسب .
(فليغيره بيده ) فيجب إنكار المنكر باليد على كل من تمكّن من ذلك ، ولم يُؤدّ إنكاره إلى مفسدةٍ أكبر، وعليه : يجب على الحاكم أو من ينوب عنه أن يغير المنكر إذا صدر من الرعيّة ، ويجب مثل ذلك على الأب في أهل بيته، والمعلم مع طلبته ، والموظف في نطاق عمله ، وإذا قصّر أحدٌ في واجبه هذا فإنه مضيّع للأمانة ، ومن ضيّع الأمانة فقد أثم.
وقد جاءت نصوص كثيرة تنبّه المؤمنين على وجوب قيامهم بمسؤوليتهم الكاملة تجاه رعيتهم – والتي يدخل فيها إنكار المنكر منها:
روى الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته )
و بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة الذين يفرطون في هذه الأمانة فقال : ( ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة ) .
(فإن لم يستطع) : يعني: فإن لم يقدر على التغيير باليد.
وحدود الاستطاعة: القدرة على التغيير وفق الضوابط الشرعية، بحيث لا يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر مما ينكره، أو يخاف على نفسه الهلاك، أو يلحقه الأذى في دينه وعرضه وماله، ونحو ذلك من الأضرار المتيقنة.
(فبلسانه) فإذا عجز عن التغيير باليد ، فإنه ينتقل إلى الإنكار باللسان، يعني بالكلام من نحو: تذكير وتوبيخ واستغاثة، وصياح، وإغلاظ في القول؛ ونحوهما؛ فيذكّر العاصي بالله ، ويخوّفه من عقابه ، على الوجه الذي يراه مناسبا لطبيعة هذه المعصية وطبيعة صاحبها.
وهل نقيس الكتابة على القول ؟
أي نعم ، فيغير المنكر باللسان ، ويغير بالكتابة بأن يكتب في الصحف أو يؤلف كتبا يبين فيها المنكر، أو يكتب رسالة إلى المخالف.
وقد يكون التلميح كافيا – أحيانا – في هذا الباب ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ؟ ) ، وقد يقتضي المقام التصريح والتعنيف ، ولهذا جاءت في السنة أحداث ومواقف كان الإنكار فيها علناً ، كإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد – رضي الله عنه – شفاعته في حد من حدود الله ، وإنكاره على من لبس خاتم الذهب من الرجال ، وغير ذلك مما تقتضي المصلحة إظهاره أمام الملأ.
(فإن لم يستطع فبقلبه) ومعنى إنكار القلب كراهته والعزم إن قدر على التغيير بيده أو بلسانه أن يفعل، وظهور الإنكار وعلامته على جوارحه.
وهو فرض عين على كل مسلم، لا يسقط بحال من الأحوال؛ لقدرة كل أحد عليه بخلاف الإنكار باليد أو اللسان فبحسب الاستطاعة.
والمتأمل في أحوال الأمم الغابرة ، يجد أن بقاءها كان مرهونا بأداء هذه الأمانة ، وقد جاء في القرآن الكريم ذكر شيء من أخبار تلك الأمم ، ومن أبرزها أمة بني إسرائيل التي قال الله فيها : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } ( المائدة : 78 – 79 ) .
قال ابن مسعود: “يوشك من عاش منكم أن يرى منكرًا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره”.
وسمع ابن مسعود رجلاً يقول: هَلَكَ مَنْ لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال ابن مسعود: “هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر” إشارة إلى فرضية الإنكار بالقلب وعدم سقوطه بحال، فمن لم يعرفه هَلَكَ.
ويستلزم الإنكار بالقلب هجران أماكن المنكر، وترك الخوض معهم ، فلا يكفي في إنكار القلب أن يجلس الإنسان إلى أهل المنكر ويقول أنا كاره بقلبي؛ لأنه لو صدق ما بقي معهم ولفارقهم إلا إذا أكرهوه فحينئذ يكون معذورا.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها “أخرجه أبو داود من حديث العُرس بن عَميرة، وحسَّنَهُ الألباني في “صحيح الجامع “
وتكمن خطورة التفريط في هذا الواجب أن يألف الناس المنكر، ويزول في قلوبهم بغضه، ثم ينتشر ويسري فيهم، وتغرق سفينة المجتمع، وفي ذلك يضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا رائعا يوضح هذه الحقيقة ، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) رواه البخاري .
(وذلك أضعف الإيمان ) ورد في تفسيره ثلاثة أقوال:
1- أضعف الأعمال؛ لأن الإيمان قد يُسمَّى عملاً والعكس، وفي الآية: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانكُمْ ) [البقرة: 143)؛ أي: صلاتكم، وليس المراد أن العاجز إذا أنكر بقلبه يكون إيمانه أضعف من إيمان غيره ).
2- أو المراد: (أضعف “الإسلام) على تقدير حذف مضاف، والمقصود: أضعف آثار الإسلام، أو أضعف خصال الإسلام.
3- أو يكون المراد ظاهره؛ يعني أقل آثار الإيمان وثمراته في النفع. وقد جاء في الرواية الأخرى لمسلم : (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، أي لم يبق وراء ذلك مرتبة أخرى.
وإنما كان الإنكار بالقلب أضعف الإيمان؛ لأنه لا يحصل به زوال مفسدة المنكر المطلوب زواله فهو قاصر بخلاف اليد واللسان فإنَّه متعد؛ لأنه كراهة وإزالة في نفس الوقت.
فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
1- النظر في مآلات الإنكار:
ولابد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النظر في مآلات الأمور وعواقبها، فليس كل منكر يصح إنكاره في كل وقت، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: “لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون ” وفي هذا الحديث دليل على أنه إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم المصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه ، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيما، فتركها .
ويُستفاد منه: ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، وفيه: ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وفيه: فكر ولي الأمر في مصالح رعيته، واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا إلا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك، وفيه: تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم، وألا يُنفروا ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً؛ ما لم يكن محرما ). ينظر “شرح مسلم” للنووي، و”فتح الباري” لابن حجر
2- النظر في المآلات شيء والجبن والتخاذل شيء آخر:
فلا يعني النظر في عواقب الأمور وما تصير إليه القعود عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما المراد: ضبط التصرفات والأحوال بالضوابط الشرعية، وصبغتها بالصبغة الإسلامية الصحيحة، بعيدا عن الجبن والتخاذل، ومبرأة من التهور والاندفاع.
3- لا يُشترط العدالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الراجح.
قال القرطبي في تفسيره: «ليس من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عدلاً عند أهل السنة، خلافًا للمعتزلة».
وقال النووي: «يجب عليه، وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يحل له الإخلال بالآخر». انتهى
وقال ابن عطية: «قال حذاق أهل العلم: ليس من شرط الناهي أن يكون سليمًا عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا».
4- ولا يُشترط إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- ما معنى قوله تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مِّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]؟
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور ، وذلك في قوله ( إذا اهتديتم ) لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد.
فمن العلماء من قال: ( إذا اهتديتم ) أي أمرتم فلم يسمع منكم ، ومنهم من قال : يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جدا ولا ينبغي العدول عنه لمنصف .
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر ، في قوله تعالى : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل . وقد دلت الآيات كقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) ، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، عمهم الله بعذاب من عنده.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : ” يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه” رواه أبو داود
قواعد الإنكار
(من كتاب فقه الدعوة في إنكار المنكر لعبد الحميد البلالي باختصار وتصرف يسير)
القاعدة الأولى/ تقديم الأهم على المهم:
إن معرفتنا لتحديد نقطة البدء لمن نريد أن ننكر عليه أمراً ما، تنطلق من معرفتنا بالمعاصى والمناكر التى يقوم بها، وعلى ضوئها يتبين لنا أن ما ترك من الواجبات مهم، ولكن بعضها أهم من الآخر، وأن ما اقترف من المعاصى منكر، ولكن بعضها أنكر من الآخر.
وهذا ما نسميه بقاعدة تقديم الأهم على المهم؛ فيكون خارجاً عن فقه الإنكار من أنكر على من لا يربى اللحية، وهو يعلم أنه لا يصلى ولا يصوم ولا يزكى.
ويكون خارجاً عن فقه الإنكار من أنكر على أحدهم أكله بيده اليسار، وهو يعلم أنه لا يعلم أين القبلة وما دخل فى حياته كلها بيتاً من بيوت الله، والأمثلة على ذلك كثيرة ولو طبقنا هذه القاعدة لأخرجنا الكثير من فقه الإنكار لعدم تقديمهم الأهم على المهم .
الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعلم معاذاً هذه القاعدة :
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (إنك ستأتى قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن همن أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)
يقول الحافظ ابن حجر: (وأما قول الخطابى: إن ذكر الصدقة أخر عن ذكر الصلاة؛ لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وأنها لا تكرر تكرار الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال : بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف فى الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع فى أول مرة لم يأمن النفرة)
القاعدة الثانية/ التدرج بالإنكار:
وهذا وما وضحته عائشة رضى الله عنها عندما قالت له: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل : لا تزنوا، لقالوا : لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد – صلى الله عليه وسلم -ة وإنى لجارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)( القمر : 46 ) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)(رواه البخارى)
وعائشة رضى الله عنها تبين للدعاة هنا قاعدة جليلة فى التدرج بالإنكار بما بدأ به القرآن من الترغيب والترهيب والرقائق حتى إذا ما صلبت الأعواد وقوت القلوب جاءت مرحلة البناء .
القاعدة الثالثة/ ترك التجسس:
روى الإمام أحمد عن النبى – صلى الله عليه وسلم – قوله : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو فى جوف بيته) رواه أحمد وصححه الألبانى
وتتبع العورات والتجسس يفسد الناس؛ وذلك أنه ينزع الثقة فيما بينهم وينشر ظن السوء، مما يجعل الطرف المتجسس عليه إذا علم بذلك أن يحمل حقداً وكراهية للطرف المتجسس، وهنا تنقطع الأواصر ويفسد الناس؛ لذلك يقول النبى – صلى الله عليه وسلم – : (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم) أبو داود عن معاوية، وصححه الألبانى
فمبدأ التجسس مرفوض فى عملية الإنكار، ما دام المنكر مستوراً وحتى على من بيده السلطة، وذلك لما يؤدى من الفساد بين الرعية.
القاعدة الرابعة/ التثبت:
التبين والتثبت صفة لأهل اليقين من المؤمنين، وقال تعالى حاثاً الدعاة على التخلق بهذا الخلق : (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) [الحجرات:6] ، وليؤكد لهم أن هذا أصل لابد منه من أصول الإنكار ، فإننا نسمع كثيراً عن معاصي يقترفها بعض الناس ، وربما سمعنا ذلك من أناس قد التزموا اتباع السنة في مظاهرهم ، وقد يكونون في بعض الأحيان من الملتزمين مع جماعة صالحة ، ونسارع في تصديقهم ، واتخاذ موقف من زيد أو عمرو دون أن نتثبت ؛ لذلك جاءت هذه الآية لتكون قاعدة من قواعد فقه الإنكار .
القاعدة الخامسة/ لا إنكار على مجتهد ولا مختلف فيه:
وجمهور العلماء على أن الإنكار لا يكون إلا فى ما اتفق على كونه منكراً، فلا ينبغى للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
قال النووى فى الروضة: (ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين فى الفروع ولا ينكر أحد على غيره، وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً) [تنبيه الغافلين – للنحاس : 1.1 ]
القاعدة السادسة/ اختيار الوقت المناسب:
فلا يختار وقت غضب صاحب المنكر، بل يختار وقت هدوئه ، ولا يختار وقت انشغاله، بل يختار وقت فراغه، ولا يختار وقتاً يكون فيه الحديث بعيداً عن موضوع المنكر، بل يقتنص الوقت الذى يثار فيه موضوع الإنكار أو موضوعاً قريباً منه يجعله مدخلاً لإنكاره، وهذا ما فعله يوسف عليه السلام عندما جاء له صاحبا السجن بعد أن وثقوا به وبعلمه، فأرادا منه أن يفسر حلمهما، فانتهز الفرصة للإنكار بأسلوب ذكى؛ لأن صاحب المنكر هنا هو صاحب الحاجة، وهو الذى يريد أن يستمع برضاه واختياره؛ فلذلك يكون استعداده للقبول أكثر مما لو أجبر على الاستماع دون رغبة منه.
وكان ابن مسعود رضى الله عنه يقول : (إن للقلوب شهوة وإقبالاً وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها)
القاعدة السابعة/ الإسرار بالنصيحة:
من طبيعة النفس البشرية أنها تحب ألا تبدو ناقصة أمام الآخرين، وأنها تبغض من يحاول أن يبدى بعض عيوبها أمام الآخرين، بغضاً يجعلها تأبى قبول النصح أو النقد، حتى وإن كان النقد فى محله، والعيب موجود، وذلك على سبيل العناد لمن بين هذه العيوب.
يقول الإمام الشافعى :
تعمدنى بنصحك فى انفرادى
وجنبنى النصيحة فى الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتنى وعصيت قولى
فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
القاعدة الثامنة/ ترك الاستفزاز واستخدام الحجة:
قال تعالى : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) [الأنعام:108] فليس من واجب الدعاة سب رموز الضلال، وخصوم الدعوة أو الاستهزاء بهم، ولئن كان هذا هو أسلوبهم، فليس من اللائق أن يتشبه بهم الدعاة فى هذه الأساليب الرخيصة وينزلوا إلى مستواهم.
والإسلام دين فيه قوة ذاتية، وبالتالى فهو لا يحتاج إلى الإرهاب والسلاسل والحديد لإقناع الناس باتباعه، فمن طبيعته أنه دين حجة ومنطق لا يخالف الفطرة أبداً ولا يصادمها.
ونرى إبراهيم عليه السلام مع النمرود الطاغية الذى أراد أن يكون إلهاً من دون الله، كيف يخاطبه، وكيف يعرض عليه الحجج دون أن يجرحه، أو يسبه، أو يستهزئ بطريقة تفكيره، يقول تعالى: (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين)[البقرة:258 ]
كان من الممكن أن يكون جواب ذلك الملك الذى حاج إبراهيم فى ربه مستفزاً لإبراهيم عليه السلام، ومفقداً لأعصابه، وبذلك يتمكن عدو الله منه بسهولة، لكن إبراهيم عليه السلام، الداعية الحكيم، تمالك أعصابه، ولم يتسفزه هذا الجواب من ذلك الملك الأحمق، ولم يرد أن يدخل معه فى جدال عقيم وسباب ومشاتمة، فينحرف عن الهدف الذى حدده مع ذلك الطاغية، وما أحب أن يدخل معه فى نقاش طويل حول ما ادعاه من الإحياء والإماتة؛ لأن الملك ما كان يستوعب، أو أنه كان مكابراً ويعتقد أنه يمكن أن يحي بالعفو عن رجل حكم عليه بالإعدام، ويمكن أن يميت بقتل رجل برئ، وما دام هذا هو تفكيره بما فيه من سطحية، فلقد انتقل معه إلى حجة لا يمكن إنكارها… وهذا هو فن الدعوة، وفن الإنكار بالحجة.
… إن الداعية الذى تستفزه كلمات أعداء الدعوة، فيفلت من لسانه ما يكون حجة عليه من خصومه، لا يعلم أنه يساهم فى تأصيل المنكر، وتثبيته فى نفوس أصحاب الضلال، ويفقده التأييد من جمهور المستمعين إلى الطرفين، ويجعل لأصحاب الضلال المبرر لسب دينه وقرآنه .
نبغض الباطل ولا نبغض أهله :
والكثير يخلطون بين الباطل والقائم به، مما يجعلهم لا يتركون فراغاً فى قلوبهم وإن كان يسيراً فيه رحمة وشفقة تدعوهم للقيام بنصيحة ذلك العاصى، بل يتركونه مع الشيطان دون أن ينتزعوه منه أو يحاولوا الانتزاع، ويحرموه حتى من بسمة حانية تعيد له الأمل بالرجوع إلى الصراط المستقيم.
وهذا الصحابى الجليل أبو الدرداء يمر على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة فى الدعوة قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم : لو وجدتموه فى قليب (بئر ذهب ماؤه)، ألم تكونوا مستخرجيه؟
قالوا : بلى .قال : فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذى عافاكم.
فقالوا : أفلا نبغضه؟ فقال : إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخى.
القاعدة التاسعة / ادفع بالتى هى أحسن:
فلابد للداعية أن يتوقع أنه سيواجه أثناء عملية الإنكار السب والاستهزاء والمكابرة من مقترف المنكر؛ لأنه يعتقد أنك تدخلت فى شؤونه الخاصة، أو أنه يشعر أنك أردت الاستهزاء به والتعالى عليه؛ لذلك كان من فقه الإنكار أن يستخدم الداعية أسلوب رد السيئة بالحسنة، وهو الأسلوب الذى تعامل به أصحاب الرسالات مع أقوامهم، منطلقين من القاعدة القرآنية التى أمرهم الله بتطبيقها فى قوله تعالى: (ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم)(فصلت : 34 )
هكذا أدركها زين العابدين على بن الحسين رضى الله عنه، عندما خرج يوماً من المسجد فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، فقال :(دعوه، ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم. فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء)
والحسن البصرى أهدى طبقاً فيه رطب لرجل قد اغتابه وأساء إليه، قائلا : (بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك)
القاعدة العاشرة / أخف الضررين:
هذا الخطيب المفوه الذى يجتمع إليه آلاف المستمعين، ويهتدى بتوجيهاته العشرات من الناس، ماذا عساه أن يجنى عندما يقوم بالإنكار الصريح دون استخدام التلميح على فرد من أصحاب النفوذ أو وضع يخالف الشرع، ماذا عساه أن يجنى أكثر من فوات كل هذه المصالح التى ذكرناها.
وهذه المجلة الإسلامية، والتى يقرؤها آلاف المسلمين فى بقاع الأرض، فيتصلون من خلالها بقضاياهم الإسلامية، ويهتدى بسببها الكثير منهم، والتى تقوم بتعديل الكثير من الأفكار المتطرفة وغير المتزنة عند بعض المسلمين، والتى تزول كثير من المناكر بسبب مواضيعها، وغيرها من المصالح الكثيرة التى تسببها، ماذا عساها أن تجنى عندما تجاوز الحد فى نقدها لمنكر لأحد الأنظمة أو أحد الأفراد المتنفذين أكثر من فوات كل هذه المصالح التى تسببها.
الآداب الواجبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
1-الإخلاص :
فلابد من تصحيح القصد، وإخلاص النية قبل أي عملية من عمليات الإنكار.
2-الرفق:
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
وفي الحديث : ” إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ” وفي رواية لمسلم : (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ).
وقال سفيان الثوري: “لا يأمر وينهى إلا من كان رفيقا فيما يأمر رفيقا فيما ينهى”.
وقال ابن تيمية: الرفق” سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
وتأمل ما ذكره المولى سبحانه في قصة موسى حين أرسله إلى طاغية كفرعون، فقال تعالى: ﴿ أَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيْنَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ تَخْشَى ﴾ [طه: 43 – 44]. وتأمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأبسط عبارة وألين توجيه، في قول مؤمن آل فرعون: ( أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28] .
وهل أتاك نبأ النبي الا الله مع الأعرابي الذي دعا لنفسه وللنبي صلى الله عليه وسلم فقط؟ ولم يلبث أن بال في المسجد؟ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِيُّ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَصَلَّى فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: اللهمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعا” فَلَمْ يَلْبَتْ أَنْ بَالَ فِي المَسْجِدِ فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ دَلْوَا مِنْ مَاءٍ” ثُمَّ قَالَ: “إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسّرِينَ ”
وتأمل حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ : يَرْحَمَكَ الله، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثكُلَ أُمِّياه! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفَخَادِهِمْ، فَلَما رَأَيْتُهُمْ يُصَمْتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتْ، فَلَا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلَّما قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَالله مَا كَهَرَنِي، وَلاَ ضَرَبَنِي، وَلا شَتَمَنِي، قَالَ: “إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ .
وقال أحمد : الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له .
تنبيه: وهذا الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني: السكوت على المنكرات، ولا يتعارض مع الغيرة على المحارم والغضب إذا انتهكت، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أرفق الناس، وأشجع الناس، وأغير الناس على محارم الله في آن واحد.
3- الحكمة :
وهى صفة ضرورية فيمن يتصدى لهذا الأمر؛ لذلك قال تعالى فى كتابه الكريم : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (النحل : 125)
وليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد فى النهى والأمر مع الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والمثقف والجاهل، والأمير والحقير، والغضوب والهادئ، بل لابد من تنويع أسلوب المخاطبة بما يناسب السن والثقافة والطبيعة النفسية والمركز الاجتماعي لكل فرد.
4- الصبر :
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يواجه معارضة ممن يأمرهم أو ينهاهم، ذلك؛ لأنه ينهاهم عن أمر يخالف أهواءهم وما اعتادوا عليه.
وصور المعارضة من أصحاب المنكر متعددة: فإما أن تكون على صورة ضرب وإيذاء، وإما أن تكون على صورة قتل، أو على صورة اتهام باطل، أو على صورة سب وشتيمة، أو على صورة طرد، أو على صورة سلب للممتلكات وغيرها من الصور الكثيرة. ، وهذا ما أمر به الله سبحانه وتعالى النبى – صلى الله عليه وسلم – عندما قال له: (واصبر على ما يقولون)( المزمل : 10)
5- القدوة :
وهو ركن لا تتم عملية الإنكار، ولا تؤتى ثمارها إلا به، وقد تكون الأفعال أكثر أثراً من الأقوال فى كثير من الحالات، وإنكار وموعظة لا يلتزم صاحبها بها تؤدى إلى شر عظيم، وتؤدى إلى فتنة السامع وعدم اقتناعه بصحة ما يقوله ذلك الداعية؛ لذلك يقول الحسن البصرى: (عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك)
وحتى يؤدى التأثير حقه عند عملية الإنكار لابد للمنكر أن يبدأ بنفسه قبل نصيحته للآخرين، هذا ما يبينه الحسن البصرى في موضع آخر إذ يقول : (الواعظ من وعظ الناس بعمله لا بقوله، وكان ذلك شأنه إذا أراد أن يأمر بشيء بدأ بنفسه فعله، وإذا أراد أن ينهى عن شيء انتهى عنه )
6- التواضع :
فكما أن لزيادة المال تأثيرا على بعض النفوس، يجعلها تطغى، وتتعالى على الخلق ، كذلك للعلم تأثير على بعض النفوس يجعلها تتكبر وتتعالى على الخلق، إعجاباً بما يرى مما لديه من علم يتميز به بين قرنائه فى الدعوة، أو يتميز به عمن يأمرهم وينكر عليهم؛ لذلك حذر وهب ابن منبه من هذا الأمر عندما ذكر (إن للعلم طغياناً كطغيان المال).
والتواضع قد يختلف فى تعريفه ومعناه الكثير، وقد حدث مثل هذا الاختلاف فى تعريف التواضع فى مجلس الحسن البصرى وهو ساكت (حتى إذا أكثروا عليه قال لهم : أراكم قد أكثرتم الكلام فى التواضع. قالوا : أى شىء التواضع يا أبا سعيد؟ قال : يخرج من بيته فلا يلقى مسلماً إلا ظن أنه خير منه )[ الزهد لأحمد : 279 ]
الفوائد من الحديث:
1- وجوب تغيير المنكر على هذه الدرجات والمراتب.
2- تيسير الشرع وتسهيله؛ حيث رتَّب هذه الواجبات على الاستطاعة؛ لقوله: (فإن لم يستطع).
3-المنكر لا يغير إلا بعد التثبت والتروي واليقين.
5- من لم يقم بتغيير المنكر عند تحققه وعدم المانع يأثم حيث إنه لم يزله.