خمس عبادات قلبية قبل الذهاب للحج . د.خالد أبو شادي
منقول من كتابه رحلة المشتاق الحج والعمرة
فضل الحج وثوابه
الحج لغة : القصد والكفّ والقدوم ، والغلََبة بالحجة وكثرة الاختلاف والتردد ، وقصد مكة للنسك ، والفاعل حاجٌّ وحاجِج ، ومؤنثه حاجّة ، والجمع حُجّاج وحَجيج ، والمرة الواحدة حِجَّة بالكسر.
واصطلاحاً : قصد البيت الحرام في زمن مخصوص بنية أداء المناسك من طواف وسعي ، ووقوف بعرفة وغيرها.
الحج يهدم ما كان قبله:
عن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال : لما جعل الله الإسلام في قلبي ، أتيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت : ابسط يدك لأبايعك ، فبسط ، فقبضتُ يدي. قال : مالك يا عمرو؟ قلت : أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال : ” أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1329 في صحيح الجامع
وهذا ما ورد في الحديث : ” من حج لله فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته أمه “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 6197 في صحيح الجامع.
وهذه رسالة بعثها الله إليك مفادها : إذا كنت قد قصّرتَ في الماضي فها هو سبحانه يخلقك من جديد ، ويسويك بقدرته الربانية في صفاء ونقاء عجيب.
أخي المشتاق ..
الحج حرفان : حاء وجيم ، فالحاء حلم من الرب ، والجيم جُرْم من العبد ، فمن حج البيت فقد أدخل صغير جرمه في عظيم حلم الله فربح البيع وكان الفوز وأعظم فوز.
الحج من أفضل أعمال البر
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – : أي الأعمال أفضل؟ قال : إيمان بالله ورسوله. قيل : ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل : ثم ماذا؟ قال : حج مبرور. متفق عليه ، وفي الحديث : ” الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 3170 في صحيح الجامع.
ومعنى (الحج المبرور) أي الذي يقابله الله بالبر وذلك بأن يقبله ، وقالوا في تعريفه أنه :
* … الذي لا يخالطه شيء من الإثم.
* … وقيل أن يرجع خيراً مما كان عليه.
* … وقيل أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة.
* … وقيل الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق.
* … وقيل أنه إطعام الطعام ، وطيب الكلام ، وإفشاء السلام.
والصحيح أنه يشمل ذلك كله.
من أعظم البر
أن تبر إخوانك الحجاج وتحسن إليهم وتكون عونا لهم وفي خدمتهم ، فهذا من أعظم ألوان البر في الحج ، وبدونه يتحول هذا العدد الهائل من الحجاج إلى متنازعين متشاكسين لا مودة بينهم بل عداء ، فيظفر بهم الشيطان ويوقعهم في شباكه. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 1651 في صحيح الجامع.
كان عامر بن عبد قيس التميمي إذا أراد الغزو وقف يتوسم الرفاق ، فإذا رأى فئة قال : يا هؤلاء .. إني أريد أن أصحبكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خلال ، فيقولون : ما هي؟! قال : أكون لكم خادما لا ينازعني أحد في الخدمة ، وأكون مؤذنا لا ينازعني أحد في الأذان ، وأنفق عليكم بقدر طاقتي ، فإذا قالوا نعم انضم إليهم ، فإن نازعه أحد منهم شيئا من ذلك بحث عن غيرهم.
وكان عبد الله بن المبارك [ ت : 181 هـ] إذا أراد الحج جمع أصحابه وقال : من يريد منكم الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم ، فيضعها في صندوق ويغلقه ، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة ، ويطعمهم أطيب الطعام ، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من هدايا ، ثم يرجع بهم إلى بلده ، فإذا وصلوا صنع لهم طعاماً ، ثم جمعهم عليه ، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فردّ إلى كل واحد نفقته!!
الحجاج و العمار وفد الله
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” الحجاج و العمار وفد الله دعاهم فأجابوه و سألوه فأعطاهم “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 3173 في صحيح الجامع.
والوفد هم الذين يقصدون الأمراء لزيارة وإقامة ونحو ذلك ، وأنت تعلم ما يُفعل مع الوفود من البشر من حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة ، وهذا حال البشر مع البشر ، فما بالك باستقبال رب البشر للبشر؟!
ومن عظيم الكرم ومنتهى الجود أن هذا الوفد يُكرم قبل أن يصل وتُغدَق عليه الهدايا بينما هو في الطريق. قال – صلى الله عليه وسلم – : ” ما ترفع إبل الحاج رجلا ولا تضع يدا إلا كتب الله تعالى له بها حسنة أو محا عنه سيئة أو رفعه بها درجة “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 5596 في صحيح الجامع.
قال علي بن الموفق : حججتُ ستين حجة , فلما كان بعد ذلك جلست في الحِجْر أفكر في حالي , وكثرة تردادي إلى ذلك المكان , ولا أدري هل قُبل مني حجي أم رُدّ , ثم نمت فرأيت في منامي قائلا يقول لي : هل تدعو أنت إلى بيتك إلا من تحب؟! فاستيقظتُ وقد سُرِّي عني.
الحج جهاد وأعظم جهاد
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :
” نعم الجهاد الحج “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 6769 في صحيح الجامع ، وقال : ” لكن أحسن الجهاد و أجمله : حج مبرور “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5160 في صحيح الجامع.
وذلك لأن الحج أخو الجهاد في المشقة وبذل المال والنزوح عن الوطن ومفارقة الأهل وإيثار ما عند الله ، والحجاج مثل الجنود في ارتدائهم زيا موحّدا ، وانتظامهم انتظاما واحدا ، واتجاههم وجهة واحدة ، وتحرّكهم بفكرة واحدة وكأنهم جيش نظامي ، وتأمل تجرّدهم من قانون الحياة العادية ، والتزامهم بقانون آخر صارم غاية الصرامة لا يمكن التسامح فيه ولو بكلمة شاذة من رفث أو فسوق وإلا بطل الحج وضاع هباء منثورا ، وتأمل طاعتهم لأي أمر يصدر إليهم وتنفيذه على الفور كأنهم في ساحة قتال ، ومن ثم جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الحج أحد الجهادين ، وجعله جهادا للمرأة لأنها لا تقوى على القتال ، فقال لعائشة رضي الله عنها : ” جهادكن الحج “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3102 في صحيح الجامع ، بل وجعل ذلك جهاد كل الضعفاء ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : ” الحج جهاد كل ضعيف “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 3171 في صحيح الجامع.
المدهش في فضل الحج
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :
” أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام ، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك ، يكتب الله لك بها حسنة ، ويمحو عنك بها سيئة ، وأما وقوفك بعرفة ، فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا ، فيباهي بهم الملائكة ، فيقول : هؤلاء عبادي .. جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ، ويخافون عذابي ولم يروني ، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج ـ أي متراكم ـ أو مثل أيام الدنيا ، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك ، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك ، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة ، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدت أمك “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 1360 في صحيح الجامع.
الحج أبو العبادات
تتضمن مناسك الحج وشعائره كل أنواع العبادات من صلاة وصيام وصدقة ، فيدخل في الحج أداء ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم ، ومن كفارات الحج الصيام والهدي ، وعلى هذا فالحج عبادة قائمة على ألوان العبادات جميعا ، والتي تشغل القلب والقالب وتتمكن من الظاهر والباطن ، ولذا كان أبو حنيفة ]ت : 150هـ[ يفاضل بين العبادات قبل أن يحج ، فلما حج فضّل الحج على العبادات كلِّها.
ويبرِّر ذلك مفتي البصرة أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي (ت : 93هـ) بقوله : رأيتُ الصلاة تهلك البدن دون المال ، والزكاة تهلك المال دون البدن ، والحج يهلكهما معا ، لذا فهو أفضل الأعمال.
وبعبارة أخرى يقول ابن الجوزي (ت : 597هـ) : ” فالصلاةُ والصيامُ يجمعان سببين من هذه الثلاثة : عقد القلب وفعل البدن ، والزكاة تجمع سببين : عقد القلب وإخراج المال ، والحج يجمع الأركان الثلاثة ؛ فبان فضله ، ثم إن إنهاكه للبدن أشدُّ , وإجهادُه للمال أكثر”.
وقد بيّن الإمام الكاساني كغيره من العلماء فضل الحج على غيره من العبادات فقال : ” في الحجِّ إظهارُ العبوديّة وشكرُ النعمة ، أما إظهارُ العبوديةِ فهو إظهارُ التذلُّلِ للمعبود , وفي الحجِّ ذلك ؛ لأنّ الحاجَّ في حالِ إحرامِه يُظهِرُ الشَّعَثَ ويرفضُ أسبابَ التزيُّن , ويظهر بصورة عبد سَخِطَ عليه مولاه ؛ فيتعرَّض بسوء حاله لعطف مولاه ، وأما شكرُ النعمة ؛ فلأن العبادات بعضها بدنية , وبعضها مالية , والحجُّ عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال ؛ ولهذا لا يجب إلا عند وُجودِ المالِ وصحةِ البدن ، فكان فيه شكرُ النِّعْمتَيْن ، وشكرُ النعمة ليس إلا استعمالها في طاعة المُنْعِم , وشكرُ النعمةِ واجبٌ عقلاً وشرعا “.
ثانيا : قبل الرحلة
عبادات قلبية
هذه خمس عبادات قلبية لابد لك منها حتى تجني ثمار رحلتك وتحصد غراس تعبك:
(1) الفهم :
افهم شرف هذا البيت الذي تذهب لزيارته ، ولو لم يكن له شرف إلا إضافة الله إياه إلى نفسه بقوله ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) [الحج : من الآية26 ] لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا ، بل ونصبه مقصدا لعباده ، وجعل ما حوله حرما تعظيما لأمره ، فاستشعر بركة هذا البيت ، فمن بركته أنَّ حجارته وضعَتْها يدُ إبراهيم ويدُ إسماعيل عند بنائه , ثم يدُ محمد – صلى الله عليه وسلم – عند وضعه الحجر الأسود ، ومن بركته اختيار الله له.
ولله در الشيخ الشعراوي حين قال : ” وإذا كانت المساجدُ في جميعِ بقاعِ الأرضِ بيوتَ الله وفيها نتقربُ إليه بالجماعةِ والاجتماعِ على الذكرِ والاعتكافِ مع أنها بيوتُ الله ولكنْ باختيارِ عِباده ؛ فكيف يكون التقربُ إلى الله في بيتِهِ الذي اختاره؟! “.
ومن بركته أن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة ، وكذلك الحسنة بمائة ألف بينما في غيره بعشر حسنات ، ومن بركته أنك تمتنع فيه عن الآثام وتلزم الإنابة ، ومن بركته اتساع المكان فيه لهذه الأفواج الهائلة والجموع الحاشدة ، ومن بركته اتساع القلوب فيه لتحمل الزحام ، ومن بركته أن الأفئدة تهوي إليه استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام : ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) [إبراهيم : من الآية37 } ، فافهم معنى { أَفْئِدَةً } لتدرك أن الرحلة ليست رحلة أجساد غائبة بل رحلة قلوب مشتاقة وأرواح منقادة تنجذب إلى بيت الحبيب رغما عنها ، وتسعى إليه دون أن تشعر.
ومن الفهم أن تفهم أن الله قد اختارك من وسط مئات الملايين لتنال شرف الزيارة وتشهد كرامة اللقاء ، فكم من كافر على وجه الأرض حُرِم نعمة الإسلام؟ وكم من عظيم ورئيس أغلق دونه الباب؟ لقد اختارك الله دون الكثيرين واختصك بالفضل عن غيرك من المسلمين ، بل ذلّل لك كل العقبات ، فلم يمنعك ضعف صحة أو قلة مال أو كثرة عيال ، فما أعظم كرامتك على الله وما أغلى مكانتك عنده.
(2)التوبة :
أخي المشتاق .. إياك أن تبني صرح حجك على شفا جرف هار ، فتحج وأنت تنوي أن تعود إلى المعصية ، وإلا فكيف تفد بيت الله ، وتدعوه أن يغفر لك ويرحمك وقد عقدت العزم على محاربته بعد عودتك؟!
من أراد أن يدق باب الحرم بيده غدا فليطرق باب التوبة بقلبه اليوم ، فالذنوب عوائق عن الوصول ، بل حتى وإن وصلت البيت فالمعاصي موانع تحول بينك وبين القبول.
ويضرب لذلك الشيخ علي الطنطاوي أجمل مثل فيقول:” هل ترتفع الطائرة إذا أثقلتها بالحديد ، وحمّلتها أضعاف ما تريد ، ثم ربطتها بحبال الفولاذ إلى صخور الجبل؟! إنها لا ترتفع إلا إذا خفّفت أحمالها ، وكذلك الأعمال : فإذا أردتم أن يصعد حجكم فخففوا عن عواتقكم أثقال الذنوب ، واقطعوا الحبال التي توثقكم بأرض الشهوات أو حُلّوها “.
أسمى غاية المؤمن : توبة
قال تعالى : ( لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة : 117].
قال ابن القيم (ت : 751هـ) : ” هذا من أعظم ما يُعرِّف العبدُ قدر التوبة وفضلها عند الله ، وأنها غاية كمال المؤمن ، فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات ، بعد أن قضوا نَحْبَهم ، وبذلوا نفوسَهم وأموالَهم وديارَهم لله ، وكان غايةُ أمرِهم أن تاب عليهم ، ولهذا جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم توبة كعب بن مالك خير يوم مرَّ عليه منذ ولدته أمُّه “.
(3) الشوق :
فيتحقق بأن تستشعر أنك تطأ بقدمك موضعا وطأته قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وترابا مشى عليه الحبيب ، ولعلك تبكي من خشية الله فيسيل دمعك على تربة سقتها دمعة صحابي أو رواها دم نبي ، وتتنفس نسمات هواء ملأت صدور خير خلق الله ، وها هي الآن تملأ صدرك لتزيدك شوقا وتغمرك حبا وتعيد إليك ذكريات الكرام المرسلين والصحب الأولين.
هنا بمكة آي الله قد نزلت هنا تربى رسول الله خير نبي
هنا الصحابة عاشوا يصنعون لنا مجدًا فريدًا على الأيام لم يشُبِ
وقد أخرج البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في كتاب الحج بابا سماه باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : العقيقُ وادٍ مُبارَك : ” قد أناخ بنا سالم يتوخّى بالمُناخِ الذي كان عبد الله يُنِيخُ يتحرَّى مُعَرَّسَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي ” ، والمُعَرَّس : موضع النزول , والتعريس : النزول آخر الليل , والنزول في هذا المكان ليس من مناسك الحج , وإنما فعله من فعله من أهل المدينة تبركا بآثاره – صلى الله عليه وسلم -.
ومن الشوق أن تدرك أنك تزور رب البيت لا البيت ، وتطلب القرب من الغفار لا من الأحجار ، ولذا جاء في الحديث : ” إن الله تعالى يقول : إن عبدا أصححت له جسمه و وسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1909 في صحيح الجامع
وتأمل قوله تعالى : ” لا يفد إليّ ” ولم يقل إلى بيتي ، فالحج ليس إلا رحلة إلى الله ، فبالله كيف لا يكون محروما من لا يرحل إلى الله؟!
لكنك وإن زرته في بيته فلن تراه اليوم ، فحدّث نفسك بيوم تنجلي فيه الحُجُب عن الله فتنظر إلى وجهه الكريم ، ولا تستعظم على ربك أن يمُنّ عليك بهذا الفضل العظيم فقد مَنّ عليك بزيارة بيته الكريم. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :” إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 523 في صحيح الجامع.
ومن الشوق أن الناس يثوبون إلى البيت كلما فارقوه ، ويشتاقون إليه فور أن يتركوه ، ولا يشبعون منه أبدا ، كحجر المغناطيس يجذب الحديد ، لأن من ذاق لذة القرب عرف ، ومن شرب من نهر الحب اغترف. قال تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ) [ البقرة : من الآية125].
من سادات المشتاقين
قال شيخ الإسلام سفيان بن عيينة (ت : 198هـ) : شهدتُ ثمانين موقفا (وقفة بعرفة) ، وكان من شده شوقه وحبه يدعو الله في كل موقف : اللهم لا تجعله آخر العهد بك ، وعلم الله صدق محبته وشدة شوقه فاستجاب دعاءه ولم يحرمه ، فلما كان العام الذي مات فيه لم يقل شيئا ، فسئل عن ذلك فقال : قد استحييتُ من الله تعالى.
خذوني خذوني إلى المسجد خذوني إلى الحجر الأسود
خذوني إلى زمزم علَّها تبرد من جوفيَ الموقد
خذوني لأستار بيت الإله أشد به في ابتهال يدي
دعوني أحطُّ على بابه غزير الدموع وأستنفد
* كان السلطان ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان (ت: 385 هـ) يتأمل الحجاج يوما فرقّ قلبه واشتاق إلى البيت ، فنزل عن فرسه وسجد وعفّر وجهه في التراب وبكى وقال لهم : بلّغوا سلامي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وقولوا له : العبد العاصي يقول لك : يا نبي الله .. لو كنت أصلح لتلك الحضرة المقدّسة لكنت في الصحبة ، فضجّ الناس في البكاء ودعوا له.
* قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ( ت : 241 هـ) : حجّ أبي خمس حجات .. ثلاث حجج راكبا واثنتين ماشيا ، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهما ، وكان من شدة شوقه أنه إذا لم يجد زاد الحج عمل حمّالا للقافلة ليغطي تكاليف الرحلة ولا يُحرم.
* خرجت أم أيمن زوجة أبي علي الروذباري من مصر وقت خروج الحجيج ، ورأت الجمال وهي تتوجه إلى مكة فصرخت : واضعفاه .. واعجزاه .. واحسرتاه ، ثم زاد بكاؤها وعلا نحيبها أكثر وأكثر وهي تقول : هذه حسرة من انقطع عن البيت فكيف تكون حسرة من انقطع عن رب البيت؟!
لسان حال القوم : لئن سار الناس وقعدنا وقربوا وبعدنا فنخشى أن نكون ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
(4) العزم :
* ومن العزم مفارقة راحتك ورفاهيتك التي كنت تجدها في بيتك طلبا لثواب الله.
* ومن العزم أن تجعل عملك خالصًا لوجه الله ، فلا تحج طلبا للسمعة أو الشهرة ، أو سعيا للمنفعة والتجارة ، نعم يحل لك في الحج أن تتاجر على أن لا يكون ذلك مقصدك في الأساس ، وبهذا يكون سفر الحج خير الأسفار على الإطلاق ، ولذا حين رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نفرا من الحجاج يوماً وهو بطريق مكة فقال : تشعثون وتغبرون وتتلون وتُضحّون ، لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا ، ما نعلم سفراً خيراً من هذا.
وهذا المعنى قليل من الحجاج من يتمثّله ، ولذا قال شريح القاضي ( ت : 78هـ) : الحاجّ قليل ، والركبان كثير ، ما أكثر من يعمل الخير ، ولكن ما أقلّ الذين يريدون وجهه.
* ومن العزم حسرتك على فوات الطاعات وضياع الحسنات ، ومن ذلك تحسر عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – على ما لا يدركه سوى صاحب قلب قوي وعزم فتي حيث قال : ما آسى على شيء فاتني من الدنيا إلا أنني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر!! اسمع قول الله تعالى : ( يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ) [ الحج : من الآية27 ]
* ومن العزم تصميمك على أن لا يضيع منك نفَسٌ إلا في طاعة ، ولا يخرج إلا في عبادة ، فلا تعمل إلا في زيادة حسنات أو نيل قُربات ، وهذا هو رأس مالك الحقيقي
قال ابن عطاء :” رُبَّ عمر اتسعت آماده وقلت أمداده ، ورُبَّ عمر قليلة آماده كثيرة أمداده “
وصدق – رحمه الله – فقد تُوفِّي الشافعي في الرابعة والخمسين وقد ملأ الأرض علمًا ، وتوفي عمر بن عبد العزيز في الثامنة والثلاثين بعد أن حكم الأمة عامين وأشهرًا فحقق ما لا يحققه آخرون في قرون ، وتُوفِّي الإمام النووي في الثانية والأربعين وقد ترك تراثًا يعجز أحدنا أن يقرأه فضلا عن أن يكتب مثله.
الخذلان كل الخذلان
واحذر من اتساع الوقت والفراغ من الشواغل ، ثم التفريط في هذه النعمة الجليلة. تابع ابن عطاء حكمه فنبّهك إلى أن :
” الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه ، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه “.
وهل هناك وقت وفراغ من مشاغل في وقت مثل وقت الحج الذي ألقى فيه الحاج أعباء الدنيا وراء ظهره وفّرغ نفسه من كل شيء رجاء رضا مولاه وقربه منه ، فهل يليق به بعد ذلك أن يلهو ويلعب؟! ويزهد في الثواب ولا يرغب؟! ويقضي حجه سعيا في الأسواق فإذا نُصح يغضب؟! فالموفق اليوم من تلمح قصر هذا الموسم والجزاء الأوفى فيه الذي لا آخر له ، فانتهز حتى اللحظات وزاحم كل الحسنات ، لعلمه أنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها ، ومعنى هذا أن هذه الفضائل في حاجة إلى وثبة أسد وإلى حبل عزم جديد منسوج من حديد.
لا عمل إلا بنية.
جميل بك أخي الحاج في ختام رحلتك الميمونة و سفرك المبارك أن تحمل إلى أهلك و أقاربك بعض الهدايا التي تدخل السرور عليهم ونيتك في ذلك : ( وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ) ( حسن ) انظر حديث رقم : 176 في صحيح الجامع ، وقد ذُكِر أن أحد الحجاج عاد إلى أهله فلم يقدم لهم شيئاً فغضب واحد منهم و أنشد فيه شعراً فقال :
كأن الحجيج اليوم لم يقربوا منى ولم يحملوا منها سواكاً و لا مسكا
أتونا فما جادوا بعود أراكة ولا وضعوا في كف طفل لنا كعكا
على أن ذلك مشروط بأن لا يستغرق منك كثير وقت إلا يوما أو بعض يوم ، وإلا وقعت في فخ الشيطان وذهبت رحلتك سدى بعد بددت جهدك ونسيت هدفك الذي خرجت له ولم تسمع تحذير نبيك – صلى الله عليه وسلم – لك : ” و شر البقاع الأسواق “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 3271 في صحيح الجامع.
مناجاة
إلهي .. قد اقتربت سفينة عمري من ساحل قبري ، وما في المركب بضاعة من عمل صالح بل قلب ظمآن ونفس شحيحة وروح شريدة .. اللهمَّ هبني الإحساس بكل لحظة تمر من عمري ، وأعطني القدرة على اقتفاء خُطا الزمان الهارب من يدي .. اللهمَّ أعنّي حتى أُخرِج من الفراغ شغلا ، وأنسج من اليأس أملا ، وأصنع من الظلمة نوراً.
(5) قطع العلائق :
فمعناه أن لا يلتفت قلبك إلى غير الله ، فلا تعود تذكر أهلك ومالك وعملك ، بل لا يملأ قلبك طوال رحلتك سوى هم جليل يتزلزل بسببه كيانك وتضطرب أوصالك ، قد يكون مثلا أن يغفر الله لك فيقلب صحيفة ذنوبك بيضاء نقية ، أو أن يصطفيك من عباده فيُمتِّعك بالنظر إلى وجهه الكريم ، أو أن يؤويك إلى جوار نبيه ويجعلك من جلسائه المقرّبين ، أو غير ذلك من عظائم الآمال وجلائل الأمنيات ، فحدد غايتك من حجتك ، ووحّد هدفك من الآن ، فإن توحيد الهدف يعجِّل بالوصول إليه ، ويصون من تبدد القوى المبذولة في إدراكه.
أخي ..
هل ستصحبك الدنيا في كل رحلاتك حتى في رحلة التزود للآخرة؟!
هل ستنشغل بالمال عن رب المال وصاحبه ومانحه ومعطيه وأنت وافد عليه واقف بين يديه؟!
أعط الدنيا أجازة وامنح نفسك راحة ودع للآخرة في قلبك مساحة.
واجبات تنفيذية :
وهي واجبات تبعث في قلبك إذا تأملتها أن هذه الرحلة هي آخر رحلات حياتك ، وأنك لن ترجع بعدها إلى دارك بل إلى قبرك ، وأنك تستعد لحلول أجلك مع آخر خطوة تخطوها من طواف الوداع ، فيدفعك قصر الأمل وقطع تعلّق القلب بالعودة إلى أن تجدّ في السير وتتقن الحج. قال ابن عقيل ( ت : 513 هـ) رحمه الله :” ما تصفو الأعمال والأحوال إلا بتقصير الآمال ، فإن كل من عدَّ ساعته التي هو فيها كساعته عند مرض الموت حسُنَتْ أعمالُه ،فصار عمره كله صافياً “.
فأدِّ حجتك دون أن تخلِّف أي تبعة وراء ظهرك ، وذلك بأن تحرص على ما يلي :
– قضاء الديون : فسداد الديون مقدّم على أداء الحج ، وقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يسأل قبل أن يصلي على الميت : هل عليه دَيْن؟! فإن قضاه أحد وإلا لم يُصلّ عليه ، وأنت ذاهب في رحلة قد لا ترجع منها ، فإن كانت عليك ديون لا تستطيع أداءها فعليك استئذان أصحابها في الخروج للحج وإلا فلا تخرج.
- ردّ المظالم : فإن كنت قد ظلمت شخصا فعليك أن ترد مظلمته وتطلب السماح والصفح منه ، حتى تطهّر نفسك من حقوق العباد قبل سفرك ، فتلقى الله وليس في ذمتك مظلمة لأحد ، ولا يبقى عليك بعد ذلك سوى حق الله الذي سيغفره لك بفضله وعفوه وكرمه.
قال أبو حامد الغزالي (ت : 505هـ): ” فكل مظلمة مثل غريم حاضر متعلق بتلابيبه ينادي عليه ويقول : إلى أين تتوجه؟ أتقصد بيت ملك الملوك وأنت مُضيّع أمره في منزلك هذا ومستهين به ومهمل له؟ أَوَلا تستحيي أن تُقدِم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك؟ فإن كنت راغبًا في قبول زيارتك فردّ المظالم وتبْ إليه أولاً “.
– رد الوادئع وإبلاغ أصحابها بأنك مسافر للحج وقد لا تعود.
– كتابة الوصية : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا و وصيته مكتوبة عنده “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5614 في صحيح الجامع. قال الطيبي : ” فذكر الليلتين تسامح ، والأصل : يبيت ليلة ؛ يعني سامحناه في هذا القدر فلا يتجاوزه للأكثر “.
– توديع الأهل وكأنك لن تراهم بعد اليوم ، وذلك بالدعاء المأثور اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فقد (كان إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده و يقول : أستودع الله دينك و أمانتك و خواتيم عملك). ( صحيح ) انظر حديث رقم : 4795 في صحيح الجامع.