تفسير آية الكرسي

تاريخ الإضافة 4 نوفمبر, 2024 الزيارات : 8079

تفسير آية الكرسي

آية الكرسي :

إن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ ففيها من المعاني ومن صفات الله وأسمائه وتنزيهه ما لا يحيط به إنسان، ولا يسطره بنان.

ومن تأمل هذه الآية وتدبرها ظهر له من هذه المعاني ما يُعرّفه بقدر هذه الآية، وفضلها وعلوّ منزلتها، فحريّ بكل مسلم أن يحفظها، وأن يعي تفسيرها؛ ليكون له عند الله الثواب العظيم، والأجر الجزيل.

فضلها :

هي أعظم آية في القرآن ، تتكون من خمسين كلمة، وتكرر فيها اسم الله جل وعلا ثماني عشرة مرة ما بين مضمر وظاهر.

والرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين فضل هذه الآية ومكانتها في عدد من أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم :

1- آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم

عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر -يخاطب النبي أُبي بن كعب – أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ فقال أُبي بن كعب: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] يقول أُبي: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: ليهنك العلم -أي: هنيئاً لك العلم- أبا المنذر) رواه الإمام مسلم

2- اشتمالها على اسم الله الأعظم :

عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في هاتين الآيتين: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 – 2]: إن فيهما اسم الله الأعظم) أخرجه الإمام أحمد وحسنه الألباني

يستفاد من هذا الحديث أن اسم الله الأعظم هو: الله لا إله إلا هو الحي القيوم؛ لأن هذا هو القاسم المشترك بين هذين الموضعين .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه) فالتمستها فوجدت في سورة البقرة قول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} آية الكرسي، وفي سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 – 2] وفي سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].صححه الألباني في صحيح ابن ماجة

فمن رغب في الدعاء باسم الله الأعظم ليستجاب له فليدعُ بما جاء في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، فمن توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد أن يدعو الله عز وجل باسمه الأعظم؛ لأن الإنسان إذا دعا باسم الله الأعظم وتوسل به فإنه إذا سأل الله أعطاه، وإذا دعاه أجابه.

والاسم الأعظم لله سبحانه يحتاج إلى بحث مستقل، وهناك خلاف كبير بين العلماء في تعيين اسم الله الأعظم، والروايات، في هذا كثيرة، لكن هذه إحدى الروايات التي تؤيدها بعض الأدلة في أن اسم الله الأعظم هو: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن اسم الله الأعظم هو: الحي، حيث قال: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها؛ ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا هو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتفى بالحي؛ لأنه لو لم يكن إلا اسمه الحي لاستلزمت حياته سائر الصفات.

فرأي ابن تيمية: أن (الحي) هو اسم الله الأعظم.

أما ابن القيم فإنه يرى أن اسم الله الأعظم هو: الحي القيوم، فقد قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم (الحي القيوم).

ومن الروايات التي وردت في اسم الله الأعظم: دعاء ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].

ومنها: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) إلى آخر الدعاء.

3- قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة من أسباب دخول الجنة :

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) رواه النسائي وصححه الألباني

قوله: (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت): أي: أن الموت يكون هو الحاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا انقضى هذا الحاجز -الموت- حصل دخول الجنة.

وهذا يدل على أن من أراد أيضاً أن يختم له بخير فليحرص على آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة

4- آية الكرسي من أعظم ما يحصن العبد من الشيطان الرجيم

فالشيطان يسعى إلى الإضرار بالعباد، والله عز وجل -وهو الرءوف بالعباد- شرع لهم أموراً تقيهم من شر الشيطان وتبعده عنهم.

فمن تلك الأمور التي يتقى بها شر الشيطان: قراءة آية الكرسي، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قراءة آية الكرسي تبعد الشيطان عن قارئها وتحفظه من شره.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيالٌ وبي حاجةٌ شديدة

يقول أبو هريرة: فرحمته فخليت سبيله

فلما أصبحت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟

فقلت: يا رسول الله! اشتكى حاجة وعيالاً وفقراً فرحمته وخليت سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود

يقول أبو هريرة: فعرفت أنه سيعود لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلما جاء يحثو من الطعام أخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إلى أبي هريرة ما شكاه المرة الأولى، قال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيال وبي حاجة شديدة

يقول أبو هريرة: فرحمته وخليت سبيله، فلما أصبحت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟

فقال: يا رسول الله! اشتكى إليَّ عيالاً وحاجةً وفقراً فرحمته وخليت سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود

 

يقول: فعرفت أنه سيعود فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها

قال أبو هريرة: ما هن؟

فقال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح

يقول فلما أصبحت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟

فقال أبو هريرة: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هن؟

فقال أبو هريرة: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، ألا تعرف من تخاطب منذ ثلاثٍ يا أبا هريرة؟

قال أبو هريرة: لا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان) صحيح البخاري

تفسير آية الكرسي :

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذا هو شعار الإسلام، وهذه كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله تبارك وتعالى.

فالمعنى : أن الله جل جلاله هو المتفرد في استحقاق العبودية، فلا يعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات.

وروى البخاري عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألاّ يعذب من لا يشرك به شيئاً).

 

الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلاه
 
الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
 
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
 
والنمل تحت الصخور الصمِّ قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه
 
والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
 
***
 
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذي الصحاري والجبال الرواسيا
 
سل الروض مزداناً سل الزهر والنـدى سل الليل والأصداح والطير شاديا
 
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا
 
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
 
أإله مع الله، لا رب غيره ولا معبود سواه.

(الحي) الباقي الدائم الذي لا يموت أبداً ، وإثبات هذا الاسم بهذا المعنى يستلزم أن كل ما سوى الله تبارك وتعالى ميت ، فإن الحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا لله الأحد تبارك وتعالى، وكل من سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 – 27].

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، ثم قال: واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.ووافقه الحافظ الذهبي رحمهم الله تعالى.

 

فالشاهد قوله: (يا محمد! عِشْ ما شئت)، أي: افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت، فإنك ميت.

ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ذكر اسم الحي مباشرة بعد قوله: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، وفي ذلك استدلال على إثبات تفرده بالألوهية، فكأن الحي دليل لإثبات قوله: (الله لا إله إلا هو)، فالدليل على أنه لا إله إلا هو: أنه الحي، فهذا استدلال على إثبات تفرده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو.

وقد يقول قائل: إن هذه الأصنام كانت جمادات، ولكن من عبد إنساناً أو كائناً حياً فإنه يعبد حياً، نقول: لا، يوجد وصف الحياة المستقلة الذاتية التي لم تأتِ بمصدر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، فليس هناك حي بهذا المعنى إلا الله، وبالتالي فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن حياة كل ما سوى الله إنما هي من عند الله، فهو الذي يحيي ويميت، وغيره لا يحيي ولا يميت ، وقد نبّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى التلازم بين الحياة الدائمة واستحقاق العبودية، وهذا كان في الخطبة التي ألقاها رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كانت الصدمة عليهم أشد ما تكون، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : (من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت )

فأراد أبو بكر أن يلفتهم إلى أنه لا غرابة في أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ليس إلهاً يُعبد، وإنما هو بشر من البشر، وأن الذي نعبده هو الله عز وجل، فهو حي لا يموت.

 

(القيوم) قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (الحي) كمال الأوصاف، و (القيوم) تعبير عن كمال الأفعال.

(القيوم) مأخوذ من القيام، ومعناه : أنه جل جلاله قائم بأمر الخلق برزقه ورعايته وحفظه، وما من شيء إلا وإقامته بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى.

وهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته.

وذكر اسم (القيوم) لله عز وجل بعد (الله لا إله إلا هو) فيه ما يدل على تفرده تعالى بالألوهية والعبودية؛ لأنه هو المتفرد لقيام أمر الخلق، من رزقهم وحفظهم ورعايتهم من غير ندّ ولا شريك، فما دام لم يقم الخلق، ولم يدبر أمرهم، ولم يرزقهم، ولم يُحيهم، ولم يعافهم، ولم يفعل بهم كل هذا إلا الله عز وجل وحده، فينبغي ألا نوجّه العبادة إلا إلى الله عز وجل؛ لأنه هو المستحق وحده لجميع أنواع العبادات، دون أن يشرك معه فيها أحد.

(لا تأخذه سنة ولا نوم) {لَا تَأْخُذُهُ} أَيْ: لَا تَغْلِبُهُ سِنَةٌ وَهِيَ الْوَسَنُ وَالنُّعَاسُ (والوسن أول النوم ) وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا نَوْمٌ} لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّنَةِ ، أي لَا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ وَلَا غَفْلَةٌ وَلَا ذُهُولٌ عَنْ خَلْقِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ، وَمِنْ تَمَامِ الْقَيُّومِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ .

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) صحيح مسلم

قال النووي معناه الإخبار أنه تعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه النوم فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس والله منزه عن ذلك .

وسبحات (بضم السين والباء)وجهه نوره وجلاله وبهاؤه
والمعنى لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته .

وحديث موسى الذي ذكر فيه أنه سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ هَلْ يَنَامُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَرِّقُوهُ ثَلَاثًا فَلَا يَتْرُكُوهُ يَنَامُ فَفَعَلُوا ثُمَّ أَعْطَوْهُ قَارُورَتَيْنِ فَأَمْسَكَهُمَا ثُمَّ تَرَكُوهُ وَحَذَّرُوهُ أَنْ يَكْسِرَهُمَا. قَالَ: فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَهُمَا فِي يَدِهِ فِي كُلِّ يَدٍ وَاحِدَةٍ قَالَ: فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَيَنْبَهُ وَيَنْعَسُ وَيَنْبَهُ حَتَّى نَعَسَ نَعْسَةً فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَكَسَرَهُمَا قَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يقول: فكذلك السموات وَالْأَرْضُ فِي يَدَيْهِ.

قال ابن كثير معلقا : وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عز وجل وأنه منزه عنه.

وعلى هذا أخطأ من رواه على سبيل الاستشهاد بل الأولى ذكره للتحذير منه لأن شبهة الوضع عليه ظاهرة .

 

(له ما في السموات وما في الأرض) إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْجَمِيعَ عَبِيدُهُ وَفِي مُلْكِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ كَقَوْلِهِ:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مَرْيَمَ: 93-95] فالملك ملكه، والجميع تحت قهره وتحت عبوديته.

(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) فلا يجوز لمخلوق البتة أن يشفع يوم القيامة إلا بعد إذن الله، وبعد رضا الله جل وعلا ،وهذا كَقَوْلِهِ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْمِ:26] كان المشركون يعبدون الأصنام ويقولون : إنها تشفع لهم عند الله في الآخرة: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]
فأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغ المشركين: قل لهم يا محمد: هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجودا في السموات ولا في الأرض، وهو الخالق لكل ما في السموات والأرض ومُنزه سبحانه عن أن يكون له شريك في الُملك.
لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا لله شركاء ويقولون: إن هؤلاء الشركاء هم الذين سيشفعون لنا عند الله. فيقول الحق سبحانه: إن الشفاعة لا يمكن أن تكون عندي إلا لمن أذنت له أن يشفع. إن الشفاعة ليست حقا لأحد. ولكنها عطاء من الله، لذلك يقول: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} .
وَهَذَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: “آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ” قَالَ: “فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ”.

(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ما بين أيديهم : الحاضر والمستقبل ، وما خلفهم : الماضي ، وهذا دَلِيلٌ عَلَى إحاطة عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ: مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا

 

(ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) أَيْ: لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ إلا بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طَهَ:110] .

، فلا يطلع أحد على علمٍ إلا بعد أن يعلمه الله إياه ، كما في قصة موسى و الخضر عليهما السلام وجاء عصفورٌ حتى وقع على حرفِ السفينةِ . ثم نقَر في البحرِ . فقال له الخَضِرُ : ما نقص علمي وعلمُك من علمِ اللهِ إلا مثلَ ما نقص هذا العصفورُ من البحرِ رواه مسلم

(وسع كرسيه السماوات والأرض وَالْأَرْضَ) عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ) صححه الألباني موقوفا ، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُرْسِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “والذي نفسي بيده ما السموات السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ” صححه الألباني

وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” ما أعجب شي رَأَيْتَهُ”؟ قَالَ: رَأَيْتُ امْرَأَةً عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلُ طعام فمر فارس فأذراه (فرقه وبعثره)، فقعدت تجمع طَعَامَهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا:” لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ- أَوْ كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ- لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا”.

العرش والكرسي

العرش في اللغة: مأخوذ من الرفع والارتفاع , كما قال جل وعلا في ذكر فرعون: ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) يعني يبنون ويرفعون من الأبنية ، وقال جل وعلا: ( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) المعروشات يعني التي جعل لها البناء الذي يسمى تعريشا ، أو العريش ، ولأجل هذا الارتفاع والعلو سمي العرش عرشاً ، فإذن مادة العرش في اللغة ترجع إلى الارتفاع.

ومعناه : السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: (ولها عرش عظيم )

والعرش بالنسبة لله جل وعلا خلق عظيم جدا ، كما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ولذلك أضافه تعالى إلى نفسه في قوله : ( ذو العرش ) ، ومن أوصافه في القرآن : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] وأنه على الماء وهو عبارة عن سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف جنة الفردوس ، وفي السنة الصحيحة (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلي عاتقه مسيرة سبع مائة سنة)

وأما الكرسي ففيه قوله تعالى : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) [ البقرة : 255 ] والكرسي هو الذي بين يدي العرش وقد صح عن ابن عباس موقوفا عليه من قوله : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى ، ولم يصح فيه حديثا مرفوعا سوى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)

وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا هو رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم.

وثبت أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)

( وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أَيْ: لا يثقله حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بَيْنَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ

خلاصة تفسير هذه الآية :

هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وعظمته وجلاله وكماله، فهي تدل على أن الله تعالى متفرد بالألوهية والسلطان والقدرة، قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة، لا يغفل عن شيء من أمور خلقه، وهو مالك كل شيء في السموات والأرض، لا يجرأ أحد على شفاعة بأحد إلا بإذنه، ويعلم كل شيء في الوجود، ويحيط علمه بكل الأمور وأوضاع الخلائق دقيقها وعظيمها، ومن دلائل عظمته أن كرسيه وسع السموات والأرض ، ويظل بالرغم من التدبير للخلائق والعلم المحيط بالأشياء هو العلي الشأن، القاهر الذي لا يغلب، العظيم الملك والقدرة على كل شيء سواه، فلا موضع للغرور، ولا محل لعظمة أمام عظمة الله تعالى.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1033 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع