أبو بكر الصديق (ثاني اثنين إذ هما في الغار)

تاريخ الإضافة 19 يونيو, 2025 الزيارات : 3540

أبو بكر الصديق (ثاني اثنين إذ هما في الغار) 

تمهيد:

من واجبنا ألا نغفل الحديث عن هذه الصفوة المباركة وهذا الجيل الرباني الذي تخرج في مدرسة النبوة، فإن ديننا العظيم لم يأت إلينا إلا من خلال هؤلاء الكرام ؛ عبر جهاد طويل بذل فيه هؤلاء الرجال أنفسهم وأموالهم لله .

وسأتكلم معكم اليوم عن رجل هو أفضل الأمة بعد نبيها بلا خلاف ، وما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل خير منه ؛ إنه

أبو بكر الصديق رضي الله عنه .

عناصر الخطبة:

أولا/ من مناقب أبي بكر الصديق.

ثانيا/ أبو بكر ثاني اثنين إذهما في الغار.

ثالثا/ إنفاق ماله كله في سبيل الله.

رابعا / هل نص النبي على خلافة أبي بكر له؟

خامسا/ وفاة أبي بكر الصديق.

أولا/ من مناقب أبي بكر الصديق

أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو أحد أعظم الشخصيات في تاريخ الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من آمن برسالة النبي محمد ﷺ من الرجال، ورافقه في دعوته وساهم بشكل كبير في نشر الإسلام ،وكان مثالا يحتذى به في الزهد والتقوى، وله مناقب وفضائل كثيرة سطرت فيها مجلدات وذلك لعظم مكانته وفضله رضي الله عنه.

ومن أجمع الكلمات في حقه قول إمام التابعين سعيد بن المسيب: أبو بكر ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام وكان ثانيه في الغار وثانيه في العريش يوم بدر، وكان ثانيه في إمامة المسلمين الصغرى ، وإمامتهم الكبرى، وكان ثانيه في القبر، وما قدم المسلمون، ولا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر أحدا .

ومما ورد في فضائله:

  • أول من أسلم من الرجال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما عرضتُ الإسلام على أحد إلا كانت له كَبْوَة[1] ، إلا أبو بكر، فإنه لم يَتَلَعْثَم في قوله ) [2]

  • ومن فضائله أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فقد سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . قال : قلت : من الرجال ؟ قال : أبوها . رواه مسلم

  • شدة حبه للنبي صلى الله عليه وسلم:

قالت أسماء بنت أبي بكر:لما دخل رسول الله ﷺ مكة، جاء أبو بكر بصحبة أبيه أبي قحافة (لأنه كفَّ بصره)، فلما رآه النبي ﷺ، قال له: «هَلا تَرَكْتَ الشَّيخَ في بَيْتِهِ حتّى آتيَه؟»

 فأجاب أبو بكر رضي الله عنه: «هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه يا رسولَ الله». فأجلسه النبي ﷺ بين يديه، ثم مسح صدره، وقال: «أسلم» فآمن) رواه مسلم

ويروي أن أبا بكر بكى، فقالوا له : هذا يوم فرحة، فأبوك أسلم ونجا من النار فما الذي يبكيك؟

 قال: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الآن أبو طالب(عم النبي) لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر!!

ويذكر أن رجالا كانوا يتحدثون في خلافة عمر رضي الله عنه فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي ؟

فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك .

فقال :يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟

قال : نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك ، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة ، فدخل واستبرأ ، قم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل .

فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة .

  • ومن فضائله أن النبي اتخذه أخا له وصاحبا:

وروى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر .

وقال : إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي ، فأقبلت إليك فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر – ثلاثا –

ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبو بكر ؟ فقالوا : لا ، فأتى إلى النبي فجعل وجه النبي يتمعر ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : يا رسول الله والله أنا كنت أظلم – مرتين –

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي – مرتين – فما أوذي بعدها .

وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال : إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله .

قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر .

  • سبب تسميته بالصديق:
  • قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الله تعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقا وسبب تسميته أنه بادر إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازم الصدق فلم تقع منه هنات ولا كذبة في حال من الأحوال.
  • ولما أسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى ذهب أبو جهل لأبي بكر رضي الله عنه:ليشككه في كلام النبي ﷺ فقال: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟
    قال: – لئن كان قال ذلك، فقد صدق، إني لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدّقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سُمّي أبو بكر الصديق.
  • ومن فضائله رضي الله عنه أنه يدعى من أبواب الجنة كلها

في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير ؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان .

فقال أبو بكر : ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر .) رواه البخاري ومسلم .

  • ومن فضائله أنه جمع خصال الخير في يوم واحد:

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصبح منكم اليوم صائما ؟

قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .

قال : فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟

قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .

قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟

قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .

قال : فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟

قال أبو بكر رضي الله عنه : أنا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة .

  • ورعه وتحريه الحلال :
  • كان أبو بكر إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم. اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون.
  • وقالت عائشة رضي الله عنها : كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر يأكل من خراجه ، فجاء يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : وما هو ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته ، فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه . رواه البخاري 
  • وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال : لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه قال : يا عائشة أنظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها والجفنة التي كنا نصطبح فيها والقطيفة التي كنا نلبسها فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين ، فإذا مت فاردديه إلى عمر ، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلت به إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : رضي الله عنك يا أبا بكر لقد أتعبت من جاء بعدك .

ثانيا/ أبو بكر ثاني اثنين إذ هما في الغار

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها؛ حديث الهجرة أذكره بشيء من الاختصار:

قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان) فهاجر من هاجر قبل المدينة ، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانت عنده. فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك؟ فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله.

قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن).

قالت عائشة : (فجهزناهما أحث (أسرعه) الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب؛ فبذلك سميت ذات النطاقين ، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر في غار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ؛ وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت؛ فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر رجلا من بني الديل؛ وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل؛ فأخذ بهم طريق السواحل.

وقال سراقة بن جعشم يقول: (جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أشخاص أراها محمدا وأصحابه) ، قال سراقة : (فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت برمحي الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره. أي: لا يمضي ويرجع.

 فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا بأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية.

وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني لم يأخذا مني شيئا ولم يسألاني إلا أن قالا: أخفِ عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وسمع المسلمون في المدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم ورجعوا إلى بيوتهم.

 فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم على حصن قلعة لليهود، أشرف عليها اليهودي بعدما انصرف المسلمون الذين كانوا ينتظرون النبي لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون جدكم أي: حظكم فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة.

التعليق :

(جاء النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في نحر الظهيرة ) اختار صلى الله عليه وسلم الوقت الذي يأتي فيه لأبي بكر الصديق يكون الناس فيه مرتاحين يأوون إلى بيوتهم أو نياما لشدة الحر في الظهيرة (القيلولة)، فاستغرب آل أبي بكر الصديق قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا (مغطيا رأسه )

عرف الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء لأمر مهم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرج من عندك؟) لأن النساء والصبيان ربما يتكلمون مع أحد، ولكن الصديق رضي الله عنه قال: (إنما هما ابنتاي، إنما هم أهلك يا رسول الله) عائشة وأسماء رباهم الصديق على عينه، ويثق في كتمانهما.

قوله: (الصحبة يا رسول الله قال: نعم) في رواية قالت عائشة: (فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح) وهذا من إخلاصه رضي الله عنه؛ لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة شرف لا يعادله شرف؛ ولذلك بكى الصديق من الفرحة.

فالبكاء: أنواع منه: بكاء حزن، وبكاء فرحة، وبكاء دهشة، وبكاء ألم، فالبكاء أنواع، أما بكاء أبي بكر فقد كان بكاء فرحة.

 وعرض الصديق من كرمه وبذله في سبيل الله إحدى راحلتيه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا أركب بعيرا ليس لي. قال: هو لك. قال: لا. ولكن بالثمن).

لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عطية صاحبه؟

قالوا: لأنه أراد أن يكسب أجر الإنفاق على الهجرة من ماله؛ لأن الهجرة هنا سفر طاعة عظيم، كلما أنفق الإنسان فيه كان أكثر أجرا، فأحب ألا تكون هجرته إلا من مال نفسه.

قيل: إن هذه الناقة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق بالثمن هي القصواء؛ وقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا ثم ماتت في خلافة أبي بكر الصديق .

(وصنعنا لهما سفرة في جراب) وعاء للزاد يوضع فيه الزاد من الماء والطعام، جهزته عائشة وأسماء راحلتي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبيهما أفضل الجهاز وكل ما يحتاج إليه في السفر.

لماذا قال تعالى في قصة الغار: ( فأنزل الله سكينته عليه ) ولم يقل عليهما ؟

في قوله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) التوبة/40.

الراجح أن الضمير يعود على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( فأنزل الله سكينته عليه) على أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه ؛ لأن الله أخبر عنه أنه قال : ( لا تحزن إن الله معنا)  فأنزل الله سكينته على أبي بكر ليأمن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه ، وذهب روعه ، وحصل له الأمن 

والضمير يعود على أقرب مذكور، وهو أبو بكر ؛ لأنه تعالى قال : ( إذ يقول لصاحبه ) والتقدير : إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن، فأنزل الله السكينة على أبي بكر ليصير ذلك سببا لزوال خوفه.

ثالثا/ إنفاق ماله كله في سبيل الله

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما .

قال : فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله

وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟

فقال : أبقيت لهم الله ورسوله !

قال عمر قلت : والله لا أسبقه إلى شيء أبدا . رواه الترمذي .

وقال سبحانه : ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ [الليل: 17-21]

وهذه الآيات نزلت في ابي بكر رضي الله عنه ، عندما أعتق بلال بن رباح رضي الله عنه من العذاب الذي كان يلاقيه في سبيل الله.

رابعا / هل نص النبي على خلافة أبي بكر له؟

ليس عندنا قولا صريحا عن النبي صلى الله عليه وسلم ينص على خلافة أبي بكر لكن هناك عدة دلائل على صحة هذا الأمر:

  • أمره النبي وهو في مرضه أن يصلي بالناس:

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما مرض النبي مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال : مروا أبا بكر فليصل .

قلت : إن أبا بكر رجل أسيف [ وفي رواية : رجل رقيق ] إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة . قال : مروا أبا بكر فليصل . فقلت مثله : فقال في الثالثة – أو الرابعة – : إنكن صواحب يوسف ! مروا أبا بكر فليصل ، فصلى .

ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله لديننا ؟!

  • ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر :

وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر .

  • إن لم تجديني فأتي أبا بكر :

وجاءت امرأة إلى النبي فكلمته في شيء فأمرها بأمر ، فقالت : أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك ؟ قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر . رواه البخاري ومسلم .

خامسا/ وفاة أبي بكر الصديق

قيل: إنه اغتسل وكان يوما باردا فأصابته الحمى خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس، ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ فقال: أتاني وقال لي: أنا فاعل لما أريد، فعلموا مراده وسكتوا عنه ثم مات.

وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن وأن يكفن في ثوبيه ويشتري معهما ثوب ثالث، وقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصديد.

وتوفي في يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين سنة .

رضي الله عن أبي بكر الصديق

وجزاه الله عنا خير الجزاء

وجمعنا الله مع نبينا وصحابته الكرام

في جنات ونهر

في مقعد صدق عند مليك مقتدر

اللهم آمين.


[1] ومعنى (كبوة) كبا الفرس يكبو: إذا خرّ لوجهه، والمراد: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يتوقف في تصديقه النبي – صلى الله عليه وسلم- كما يجري للعاثر، إنما بادر إلى التصديق.ومعنى (التلعثم) : التردُّد في القول والفعل والتَّتعتع فيه، وهو قريب من الكبْوة في الاستعارة.

[2] الحديث أخرجه البلاذُري في أنساب الأشراف  (1914) وهو ضعيف لأنه مرسل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وله شاهد من حديث البخاري عن أَبِي الدَّرْدَاءِ وفيه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ» فهذا شاهد صحيح يقوي هذا الحديث، فهو به صحيح لغيره .

Visited 47 times, 1 visit(s) today


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14348 زائر

خواطر إيمانية

كتب الدكتور حسين عامر

جديد الموقع