شرح الأربعون النووية:40- كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ

تاريخ الإضافة 7 نوفمبر, 2024 الزيارات : 42

شرح الأربعون النووية

40- كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمنْكبيَّ فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُوْلُ: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ. وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوْتِكَ..) رواه البخاري.

شرح الحديث

الحديث يدور حول التخفف من الدنيا وترك الانشغال بها عن الآخرة، وتقصير الأمل فيما فيها، والحث على طلب الصالحات والتحذير من تسويف التوبة، واغتنام الأوقات في طاعة الله.

(أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمنْكبيَّ)أي تناوله بيده وقبض عليه، والمنكب: مجمع الذراع والكتف. وقد روى بمنكبي بالإفراد دون التثنية.

 ويُستفاد من هذا جواز – بل استحباب – إمساك المعلّم بمنكب المتعلم أو يده أو نحو ذلك منه. وذلك لما فيه من الأمور التالية:

1 – إحضار قلبه وتنبيهه وتذكيره، وليكون أبعد عن النسيان، إذ العادة غالبًا ألا ينسى من فُعل ذلك معه.

2 – أن فيه تأنيسًا لقلب المتعلم، وإشعارًا بالمحبة والشفقة نحوه.

وذلك على سبيل الغالب، لكنه لا يلزم.

ولهذا أمثلة في الأحاديث والآثار، ومنها:

١ – حديث جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم حين أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه (لأن جبريل جاء معلمًا) .

٢ – وعند نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة، قال له جبريل عليه السلام: اقرأ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أنا بقارئ”، فغطّه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله. الحديث.

٣ – فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود رضي الله عنه في تعليم التحيات، حيث قال ابن مسعود: “علّمني رسول الله التشهد وكفّي بين كفّيه”وفي هذا دليل على محبته لابن مسعود.

وفي حديث الباب دليل على محبته لابن عمر رضي الله عنهما أيضًا، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض على كتفيه تنبيهًا له على ما سيقول له وإيناسًا له، وتبسطًا معه.

(فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا) في مدة إقامتك فيها.

(كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ) أي متشبهاً بالغريب، يعني: لا تركن إلى الدنيا، ولا تطمئن فيها، ولا تتعلق بها؛ لأنك على جناح السفر منها إلى وطن إقامتك، وهو كالغريب الذي لا يستقر في دار الغربة، ولا يسكن إليها، ويظل مشتاقاً إلى وطنه.

وجه الشبه بينه وبين الغريب:

أن الغريب مستوحش في دار الغربة، لا يجد من يأنس به، ولا مقصد له إلا الخروج من غربته إلى وطنه، من غير أن ينافس أحدًا من أهل غربته؛ وكذلك المؤمن في الدنيا.

(أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ)أي: جائز طريق. و “أو” هنا ليست للشك؛ بل تفيد: العطف بمعنى “بل”، وقيل: تفيد التخيير، وهذا محتمل، والأصح الأول؛ فهي هنا من باب عطف الخاص على العام بمعنى “بل”.

والمعنى: كن في الدنيا كغريب بل كعابر سبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، وكذلك المؤمن في الدنيا.

ولماذا شُبِّه المؤمن في الدنيا بالغريب أو المسافر؟

1 – لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها” (أخرجه أحمد  من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع).

فالفيء والظل يزولان، وإن لم يزل المستظل والمسافر.

2 – ولأن المؤمن قد وطئت قدماه الدنيا، وهو يتناقص في عمره حتى ينتهي بالموت، فعند ذلك يصل إلى وطنه.

هكذا كانوا غرباء في الدنيا:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه: لقد رأيت سبعين من أهل الصُّفَّةِ، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته ( أخرجه البخاري).

2 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” (أخرجه مسلم).

3 – وعن ابن عمر رضي الله عنهما: “لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه” (الدقل: تمر رديء.).

4 – ومرَّ أبو هريرة رضي الله عنه بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير”. وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والذي نفسي بيده ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا ).(أخرجه البخاري).

5- وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: “والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهِلَّة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار”. فقلت: يا خالة! فما كان يُعيِشُكُم؟ قالت: “الأسودان؛ التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا” (أخرجه البخاري  ومسلم ).

عقَّب به ما قبله؛ للحثّ على ترك الدنيا والزهد فيها، وهذا للحثّ على العمل الصالح وعدم التسويف.

(وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ) جاء بكلام ابن عمر عقب الحديث:لأن قول ابن عمر أصرح في بيان المعنى المراد من سياق الحديث، فهو كالتفسير والتتميم للمعنى المذكور في الحديث.

يَقُوْلُ: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ) أي إذا دخلت في المساء فلا تحدّث نفسك بالبقاء إلى الصباح، وكذا إذا دخلت في الصباح فلا تنتظر المساء، بل انتظر الموت على كل حال، واجعله نصب عينيك؛ فإن من قصر أمله زهد، ومن طال أمله طمع ورغب، وترك الطاعة، وتكاسل عن التوبة، وقسا قلبه لنسيانه الآخرة.

ويحتمل أن يكون المراد: إذا أصبحت فاعمل ما يليق بهذا الوقت من وظائف الأوقات والأعمال، ولا تنتظر المساء، فهو حثّ على المبادرة إلى العمل في كل وقت،

(وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ) فمن كان محافظًا على وردٍ معين من الأعمال الصالحات، أو كان مستمرًا على فعل من صلاة أو صدقة أو صيام ثم عرض له ما يمنعه من عمله هذا، كُتب له أجره، كما لو كان عاملاً، وكان حاله في هذا العارض صدقة من الله سبحانه وتعالى على عبده.

وقد ورد هذا المعنى في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا.

(وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوْتِكَ.) أي اغتنم ما ترجو نفعه بعد موتك ما دمت حيًا، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، واعلم أنه سيأتي عليك زمان طويل وأنت تحت الأرض، لا يمكنك أن تتقرب فيه بشيء إلى مولاك.

والمؤمن مكلّف أن يعمل في الدنيا بطاعة الله تعالى وما أمره به، والاجتهاد في ذلك؛ لأنه لا يدري أي وقت يدركه الموت، ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل” ( أخرجه أحمد من حديث أنس بن مالك، وصححه الألباني )فلا وقت لدى الإنسان في مثل هذه الحالة لجني الثمار وحصاد النتائج؛ وإنما يفعل ذلك استجابةً لما طُلب منه، وإذعانًا لما أُمِرَ به.

تنبيه: وإنما ذمّ طول الأمل؛ لما فيه من معنى إيثار الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، والرضا بالدنيا الأدنى على الآخرة الأعلى. والمقصود أن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه وعقله وتفكيره، حتى لا يستولي عليه حبها فيُفسده.

وهذا شبيه بالحث على الزهد في الدنيا، بجانب الحثّ على إصلاح المال، واتخاذ أسباب الكسب، والإنفاق على النفس ومن تعول. فالمراد من ذلك كله: قطع العلائق التي تحول بين المرء وبين إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وتفريغ القلب من كل شائبة تشغل بغير الله سبحانه وتعالى، وليس المقصود التفريط في جانب على حساب جانب آخر من الأوامر والنواهي.

أو كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا”.

 

فوائد الحديث

1 – الدنيا دار عمل لا دار جزاء، والآخرة هي دار القرار؛ كما قال تعالى: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].

2 – المسارعة إلى التوبة وقصر الأمل في الحياة الدنيا.

3 – الحرص على اغتنام الأوقات والحذر من التفريط فيها.

4 – الجدية في الطاعات واغتنام أوقات الصحة والفراغ.

5 – إعداد الزاد ليوم المعاد واغتنام الخيرات.

6 – الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، وقد قال جل وعلا: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64]، أي: لهي دار الحياة الحقيقية فلا موت فيها.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 ديسمبر, 2024 عدد الزوار : 13941 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع