موعظة عن الموت في وفاة أحد الإخوة -رحمه الله-
حضرنا جميعا في هذا الجمع الطيب لنعزي أهل المتوفى الأخ(….)، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد أخانا برحمته، وأن يجعله من أهل عفوه وعافيته، وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم آمين.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يربط على قلب أهله وذويه، وأن يرزقهم الصبر والثبات والسلوان، وأن يجعلهم عند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين…اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.
حينما نجلس، أحبتي، في هذه التعزية فإننا نتذكر أنها خير موعظة نتعظ بها، موعظة الموت.
كما ورد في الأثر: “من أراد واعظًا فالموت يكفيه”. ألم الفقد والموت واعظ ناطق وواعظ صامت.
حينما يكون الإنسان بيننا ملء السمع والبصر والفؤاد وفجأة يموت! مات فلان! سبحان الله! هذا أبلغ من ألف خطبة تسمعها.
ترى بعينك الشخص الذي تعرفه الآن يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه، ثم يواريه التراب ويدفن.
قال الله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)[سورة طه (الآية 55)]
ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مرت به جنازة، سأل: “من الميت؟” قالوا: فلان.
فقال عمر واعظًا نفسه: “مات فلان، وغدًا يقولون مات فلان، وبعد غد يقولون مات عمر، مات عمر”.
وسبحان الله جاء اليوم الذي قيل فيه: “مات عمر”.
وسيأتي اليوم الذي يقال فيه: “مات فلان وفلان وفلان أقصد أنا وأنت”.
قال تعالى : (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)[سورة آل عمران (الآية 185)]
ولو كان البقاء في الدنيا كرامة لأبقى الله فيها خير خلقه من الأنبياء.
فالله تعالى خاطب نبينا وهو أكرم الخلق عليه: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون)[سورة الأنبياء (الآية 34).]وقال له: (إنك ميت وإنهم ميتون). [سورة الزمر (الآية 30)]
ولما جلس النبي صلى الله عليه وسلم عند جنازة أحد الأنصار، ولما يُلحد بعد (أي يُجهز القبر)، فجعل النبي ينكت بعود في يده، ثم بكى وقال:
“يا إخوتي، لمثل هذا اليوم فاعدّوا. يا إخوتي، لمثل هذا اليوم فاعدّوا.”
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في ساعة سكرات الموت بين يديه ركوة (إناء) فيه ماء يمسح على جبهته، ويقول: “سبحان الله، إن للموت لسكرات. اللهم هون عليَّ سكرات الموت.) لا إله إلا الله.”
وخيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختار الرفيق الأعلى. ثم لما دُفن صلى الله عليه وسلم، سمعت ابنته فاطمة تقول:
“يا أبتاه! أجاب ربًّا دعاه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه. يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه.”
ثم بعدها قابلت بلالًا أو أنسًا في بعض الروايات، فقالت له معاتبة:“أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله؟”
طبعًا، ما طابت النفس بذلك، لكن هذه سنة الله عز وجل في خلقه، حتى في أكرم الخلق، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا سيدنا أبو بكر الصديق لما احتُضر وحضرته الوفاة، قالت أم المؤمنين عائشة ابنته متمثلة ببيت من الشعر: “تالله ما يغني الثراء عن الفتى إذا ماحشرجت يومًا وضاق بها الصدر.”تعني لما الروح تبدأ في الخروج.
فقال لها رضي الله عنه: “لا يا ابنتي، لا تقولين هذا. إنما قولي: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد).”[سورة ق (الآية 19)] سبحان الله العظيم.
وأمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعن في المحراب في صلاة الفجر، بقي بعدها ثلاثة أيام.
ثم أرسل ولده عبد الله بن عمر وقال: “اذهب فاستأذن عائشة.
ولا تقل لها أمير المؤمنين يقول: فلست اليوم لكم بأمير.”
فذهب عبد الله يستأذن، فقالت: “والله لقد ادخرت هذا المكان لنفسي، ولكن سأؤثر به عمر.” سبحان الله.
فلما أحس بساعات الوفاة، قال لابنه: “يا بني، ضع خدي على التراب.
عسى الله أن ينظر إليَّ فيرحمني.
ويل عمر! وأم عمر! إن لم يغفر الله لعمر!” الله أكبر.
وهذا سيدنا بلال رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، جعلت ابنته تصيح وتبكي وتقول:“واكرب أبتاه! وامصيبتاه!”
فقال لها: “لا يا ابنتي، لا تقولين هذا.
لا كرب على أبيك بعد اليوم! غدًا… غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه.”
هذا هو اليقين!
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: “أما المؤمن فإنه إذا مات فقد استراح من الدنيا وعنائها، وأما الكافر فإن البلاد والعباد والشجر والدواب تستريح منه.”
إخوتي، ذاق الموت خير خلق الله من الأنبياء، وذاقه الصالحون والطالحون، الرجال والنساء، الكبار والصغار.
الكل سيموت وسيُعرض في يوم بين يدي الله عز وجل. (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره)[سورة الزلزلة (الآيتان 7-8).]
وجبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت. وأحبب من شئت فإنك مفارقه. واعمل ما شئت فإنك مجزي به. واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس.”
لكن، إخوتي، أنا لا أحب في هذه المواطن أن يكون الهدف من الموعظة أن يرق الناس ويبكوا، ثم ينتهي الأمر بانتهاء الموقف.
لا، يا إخوتي، كل شيء له ما بعده.
حينما نسمع هذه الموعظة ونعيش هذه اللحظات، لحظات وفاة قريب أو حبيب أو عزيز لدينا، نتذكر دومًا أنه سيأتي يوم نلقى فيه الله عز وجل.
فإذا لقينا الله، نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان، نلقاه بعمل صالح ينفعنا عند الله.
فالقربى يومئذ عند الله ليست بالأموال ولا بالأحساب، إنما تكون عند الله بالعمل الصالح. قال الله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)[سورة الشعراء (الآيتان 88-89).]
فالعبرة من سماع الموعظة وشهود هذا الموقف أن يتساءل الإنسان مع نفسه: هل أنا جاهز للقاء الله؟
النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: “أكثروا من ذكر هازم اللذات، الموت”، لم يقصد أن يكون الإنسان مكتئبًا دائمًا أو مهمومًا دائمًا أو مفارقًا للدنيا ولأهله.
لا، لا، ليس هذا المقصود.
المقصود: هل أنت مستعد للقاء الله؟ هل أنت جاهز للقاء الله عز وجل؟
فإذا كنت مستعدًا، فتزود حتى تلقى الله وأنت على خير حال.
وإذا كنت غافلًا، فتنبه.
وإذا كنت عاصيًا، فتب إلى الله عز وجل.
فمثل هذه المواطن العمل فيها خير من أي شيء. كما قلت في بداية كلمتي: الموت واعظ صامت.
فأنا مقصر، أنا في غفلة، عندي معاصٍ، عندي ذنوب، عندي تقصير، عندي تفريط، عندي تضييع.
كيف ألقى الله وأنا على هذه الحال؟
سبحان الله العظيم!
فيا إخوتي، العمر أمامنا يبدو مديدًا كما نظن أو نزعم، لكنه أجل مسمى ومقدور عند الله عز وجل.
والله عز وجل علمنا أن الميزان عنده ليس بالغرام ولا بالقيراط ولا بالذرة ولا بمثل هذه الأشياء، إنما هو ميزان حساس دقيق. قال الله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة).
فلننتبه أن الله يقبل منا في الدنيا مثقال ذرة، ولكن غدًا، يوم القيامة، لن يقبل الله من الذين كفروا ملء الأرض ذهبًا ولو افتدوا به.
ما من أحد يستطيع أن يملك ملء الأرض ذهبًا، ولو ملكه فلن يستطيع أن يفتدي نفسه من عذاب الله.
أما الآن، وأنت من أهل الدنيا، فالله يقبل منك مثقال ذرة.
فلا تحقرن من المعروف شيئًا.
ولا تظنن أنك بعيد عن الله أو أنك بغفلتك ستنجو من الأجل المسمى الذي وقته الله.
اللهم اجعلنا من أهل طاعتك، واغفر لنا ذنوبنا.
ونسأل الله الكريم أن يرحم أخانا، وأن يغفر له، وأن يرزق أهله الصبر والسلوان، وأن يجعلهم من الشاكرين الصابرين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.