من السنن الإلهية: قانون الاستدراج وواقعنا المعاصر
تكلَّمْنا في عدَّة خُطَبٍ سابقة عن فقه السُّنن الإلهيَّة، وقلنا: إنَّ فَهْمَ سنن الله في الكون يؤدِّي إلى فَهْم الواقع وما يجري فيه.
وقلنا: إنَّ هذه السُّنن الإلهية ثابتةٌ ودائمةٌ ومضطردةٌ.
ولذلك، فإنَّ ثُلثٌ القرآن الكريم يتحدث عن قصص السابقين، وتجد دائمًا أو غالبًا بعد ذِكْر القصص في سورةٍ من السُّور تعقيبًا قرآنيًّا عن السنن الكونية الجارية: “سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ” (الأحزاب: 38)،و “سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا (الإسراء: 77)، و “قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ” (آل عمران: 137) وهذا كلُّه لنفقه الواقع الذي نعيشه.
مرَّ على حرب غزَّة هذه الشهور الطويلة، نسأل الله أن يُفَرِّج عنهم، وما زال الناس يتساءلون، هذا السؤال الذي يتكرر كثيرا وماذا بعد؟ ما هي النهاية؟ نقول لك: إذا فقهتَ سنن الله الكونية ستعرف الجواب.
لكن قبل أن أدخل إلى سُنَّة اليوم، أود أن أنبه إخواني على أمر مهم:
إن سماع الأخبار في وقتنا الحالي دون أن يكون لك زادٌ من القرآن، سيُصيبك باليأس والإحباط والفشل.
أيُّ قناةٍ إخباريةٍ الآن هَمُّها هو الإحصاءات، والأرقام، والتحليلات، والأبعاد، والسياسات، والاستراتيجيات، ولا تجد قناةً منهم تتكلم عن قدرة الله، أو رَبْط الناس بالله، أو معنى الابتلاء، أو معنى الصبر، أو المعاني الإيمانية التي يجعلها الله تعالى بردًا وسلامًا على القلوب عند نُزول هذه الأزمات، أو عند شدتها.
فحتى لا يكون عندك يأسٌ وإحباطٌ وفشلٌ وترددٌ، بل وربما حيرةٌ وشكٌّ وسوءُ ظنٍّ، والعياذ بالله، سوءُ ظنٍّ بالله، وسخطٌ على هذا الواقع، نقول لك: لا بدَّ من زادٍ من القرآن، لا بدَّ أن تفقه سنن الله في الكون.
وحديثنا اليوم عن سنة من سنن الله لها ارتباط كبير بواقعنا، هي: سُنَّة الاستدراج.
أولا/ ما معنى سُنَّة الاستدراج؟
عندنا “السُّلَّم” نُسمِّيه درج. لماذا درج؟ لأنَّه دَرَجَةٌ فوقها درجة، فوقها درجة، حتى تصل إلى ما تريد: الطابق الثاني، الثالث، وهكذا.
فالاستدراج من التدرج، وهو معنى: أنَّك تقترب من الشيء حينًا بعد حين، درجةً بعد درجة.
وهذا ما ورد في القرآن:“وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ”(سورة القلم، الآيتان 44-45) سنستدرجهم معناه نأخذهم درجة فدرجة شيئاً فشيئاً، واستدرج الله العبد : أمهله ولم يباغته، أو جرّه قليلاً قليلاً إلى العذاب، بمعنى أن يُنعم الله على الإنسان نعمةً بعد نعمة، ويتركه في الغفلة والمعصية.
“وأُمْلي لهم”: الإملاء هنا بمعنى الإمهال؛ يُملي الله لهم يعني يُمهلهم، يُعطيهم مُدَّة، يُعطيهم وقتًا وزمنًا.
لكن بعد هذا الاستدراج، وهذا الإملاء أو الإمهال: “إن كيدي متين”.
ثانيا/ العطاء الدنيوي لجميع الخلق:
حينما ننظر إلى دُنيا الناس نفتتن، ويتساءل البعض:
لماذا هذا رجل لا يؤمن بالله، عاصٍ، ظالم، فَعَل وفَعَل وفَعَل، ومع هذا هو في نعمة؟!
يلبس أفخم الملابس، ويركب أحسن سيارة، ويعيش في كذا، ويأكل كذا، وإلى آخره.
ثم ننظر إلى الجهة الأخرى، نجد أهل الإيمان أهل ابتلاء، واستضعاف، ويُنَكَّل بهم، ويُؤذَون، ويُضيَّق عليهم، فيُفتن المرء إذا لم يفقه سُنَّة الله تعالى في الكون.
العطاء الإلهي في الرزق للجميع: مؤمن وكافر، والعطاء للمؤمن أو للكافر بحكمة، ليست فوضى.
بحكمةٍ يعلمها الله، “وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلرِّزْقِ” (النحل: 71).
كما أن هناك عصاة وكفار أغنياء، يوجد مسلمون أتقياء، أولياء لله، أغنياء.
وكما أن عندنا كفار أغنياء، يوجد كفار فقراء، وعصاة فقراء، وتجد من اجتمع عليه الشقاء بخسارة الدنيا والآخرة.
وهناك مؤمنين فقراء إلى الله عز وجل، أغنياء بالله، بل هم أغنى ما يكون، كما يُذكرعن عيسى عليه السلام: افترش الأرض، والتحف السماء إني لأغنى الأغنياء.
غناهم في قلوبهم، وليس بالأشياء المادية الزائفة، التي يظنها الناس أنها منتهى السعادة وقمة الغنى والمجد والثروة، إلى آخر ذلك.
اسمعوا ماذا قال الله عز وجل: “فَأَمَّا ٱلْإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبْتَلَىٰهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّىٓ أَكْرَمَنِ. وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّىٓ أَهَـٰنَنِ. كَلَّا…” (الفجر: 15–17).
هذا هو الإنسان الذي ليس عنده هدى الله، يرى أن العطاء والغنى والثروة وسائر الخيرات، علامة حب الله له: “رَبِّي أَكْرَمَنِ”،
وأن المنع والتضييق والابتلاء علامة الإهانة: “رَبِّي أَهَانَنِ”.
قال الله: “كَلَّا”، ليس الأمر كما تظنون،“بَل لَّا تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ. وَلَا تَحَٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلًۭا لَّمًّۭا. وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّۭا جَمًّۭا” (الفجر: 17–20).
المشركون في زمن النبي ﷺ قالوا:“نحن أكثر أموالًا وأولادًا، وما نحن بمعذّبين.”غنيّ الدنيا هو غنيّ الآخرة؟!
فبيَّن الله لنبينا ﷺ، والآيات في سورة سبأ:“قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (سبأ: 36).
وبيَّن الله سبحانه وتعالى أن البسط أو التضييق – “يقدر” يعني يضيق – ليس علامة حب الله أو بغض الله.
“وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُكُم بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰٓ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا۟ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ” (سبأ: 37).
إذًا فـالقُربى عند الله عز وجل، ليست بما تملك من مال، ولا شهادات علميَّة، ولا مناصب.
القُربى من الله بالعمل الصالح، الكرامة عند الله ليست بكثرة مالك، ولا عيالك، ولا مكانتك، ولا ألقابك، ولا نياشينك، ولا أوسمتك، إنما بعملك الصالح:“إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ” (الحجرات: 13).
إذًا يا إخواني، هذه قاعدة مهمة: العطاء الدنيوي لجميع الخلق.
قال تعالى: “كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰٓؤُلَآءِ وَهَـٰٓؤُلَآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا” (الإسراء: 20).
وبيَّن الله عز وجل أنه إذا أعطى، يُعطي لحكمة، وإذا مَنع، مَنع لحكمة، حتى ينبني الكون على الحاجة.
لأنَّه لو لم تكن هناك حاجة، لَتوقَّف الكل.
ما الذي يدعوك أن تذهب إلى العمل؟ في الحر، وفي البرد، عندك مرض، عندك ألم، في زحام، أو ما في زحام….. تذهب للعمل رغم كل هذا لماذا؟.
الحاجة هي المحرّكة.
قال تعالى:“وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍۢ مَّا يَشَآءُ ۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرٌۭ بَصِيرٌۭ” (الشورى: 27).
فالله تعالى يُعطي الجميع، وليس معنى العطاء أنه أحبَّ هذا وأبغض ذاك.
حب الله وبُغضه يتوقف على طاعة العبد لربه.
ثالثا/ متى أعلم أن ما أنا فيه نعمة أم استدراج؟
إذا كنت على طاعة الله، فاعلم أنك في نعمة.
الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ الغني الشاكر عند الله سبحانه وتعالى له درجة، وله مكانة.
ونحن عندنا من الصحابة الأجلاء: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، كلهم من المبشّرين بالجنة، وغيرهم كثيرون، كانوا أغنياء كرماء.
عثمان بن عفان، النبي ﷺ قال:“ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.”لماذا؟ لأنه بذل ماله لله.
أبو بكر الصديق، قال الله تعالى عنه: “وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلْأَتْقَى ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ. وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٍۢ تُجْزَىٰٓ. إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلْأَعْلَىٰ. وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ” (الليل: 17–21).
إذاً إذا كنت في نعمة، فاسأل نفسك: هل أنا مُطيع لله أم على معصية لله؟
فإذا كنت في طاعة الله، تكسب مالك من حلال، من عرق جبينك، تعرف حق هذا المال بالزكاة، وإعانة المحتاج والملهوف، وتصل به الرحم، وتنفق به على زوجتك وعيالك، فقل: اللهم لك الحمد.
إنما رجل، سبحان الله، كلما فتح الله له نعمة، ازداد عصيانًا وطغيانًا، فاعلم أن هذا استدراج من الله. نسأل الله العافية.
ونرى بعض الناس يقول: “أنا ربنا فاتح علي!”
اسمعوا يا إخواني: الفتح نوعان: فتح إنعام، وفتح استدراج.
فتح إنعام، كقول الله تعالى:“إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًۭا مُّبِينًۭا” (الفتح: 1)،وقوله تعالى:“وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ” (الأعراف: 96).
ففتح الله تعالى على عبدٍ من عباده فتح إنعام، بأن يفتح له باب طاعة، باب عمل صالح، باب إحياء سُنّة، باب إمامة في الخير؛ هذا فتح إنعام من الله.
أما فتح الاستدراج، فهذا الذي قاله الله عنه في سورة الأنعام:“فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍۢ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَآ أُوتُوا۟ أَخَذْنَـٰهُم بَغْتَةًۭ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ” (الأنعام: 44).
كل وسائل الحضارة المادية ملكوها، كل وسائل القوة ملكوها، “فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ”، حتى إذا فرحوا بما أوتوا، عَلَوا، وفرحوا، وأصابهم الغرور والطغيان، وزاد الظلم، وزاد الأذى، أخذناهم بغتة.
أصابهم عذاب الله فجأة، “فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ”، متحيّرون، من أين أُتوا؟ كيف أصابهم البلاء؟!
“فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ ۚ وَٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ” (الأنعام: 45).
نقرأ في القصص القرآني كيف وقف فرعون يقول في كبرياء وغرور:“أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ” (النازعات: 24).
ونقرأ عن قوم عاد كيف قالوا لنبي الله هود عليه السلام:“مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً” (فصلت: 15).
ووقف قارون، أغنى من عرفتْه البشرية، يقول عن ماله:“إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ” (القصص: 78).
وغيرهم كثير من أمثلة القرآن.
فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانوا كمن يسعى إلى مكان هلكته:
-
أما فرعون: فمات غريقًا، لا حول له ولا قوة.
-
وقارون: “فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ” (القصص: 81).
-
وعاد: أهلكهم الله بريحٍ صرصرٍ عاتية، ريح شديدة مهلكة، أفنتهم عن آخرهم، فأصبحوا “فَأَصْبَحُوا۟ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَـٰكِنُهُمْ” (الأحقاف: 25).
هذا هو القرآن يا إخواني، لكننا، كما قال النبي ﷺ، نستعجل. نريد مشهد النهاية.
إذاً، فهناك علامات للاستدراج:
-
كلما زادت النعمة، زاد الطغيان،
-
زاد الظلم،
-
زاد الفجور،
-
زاد الإفساد في الأرض.
كلما زادت النعمة، ظنّ أنه مُخلَّد فيهاالأرض…
نبي الله هود قال لقومه:“أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ” (الشعراء: 128–129).
“مصانع” هنا ليست جمع “مصنع” بمعنى شركات الصناعات – كلا، “مصانع” هنا: أبنية معينة، كانوا يبنونها، وقصورًا،وقلاعًا،
“وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون”وعندنا إلى الآن قصور وقلاع تاريخية، في العالم كله، لها آلاف السنين.
أين أهلها فَنوا، انتهوا.
“وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين” (الشعراء: 129–130).
يصدر القرار، فيُقلب الأرض عاليها سافلها، وتحدث خسائر بالملايين، بالمليارات.
يُصدر القرار، بسفك دماء، وتدمير مدن، وغرور، وطغيان، وفساد.
الله تعالى يُطمئننا، يقول:“وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًۭا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ” (إبراهيم: 42).
رابعا / لماذا يُمهل الله الظالم؟
لماذا يتركه الله، بل ويُعطيه؟ لعدة حكم:
1- لأن الدنيا ليست دار الجزاء، الدنيا ليست هي النهاية.
هذا المشهد الذي نحن فيه مشهد الابتلاء للجميع. قال تعالى“وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةًۭ ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” (الأنبياء: 35).
ولذلك قال الله تعالى:“وَلَوْلَا كَلِمَةٌۭ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ” (يونس: 19)،و “وَلَوْلَا كَلِمَةٌۭ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًۭا وَأَجَلٌۭ مُّسَمًّۭى” (طه: 129).
ما هي الكلمة؟ أن هذه الدنيا للابتلاء.
بهذه الكلمة، أمهل الله إبليس لما تمرد على أمر الله ورد الأمر على الله ؛ قال:“قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ. إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ” (ص: 80–81).
أمهله الله؛ لأن الدنيا دار ابتلاء.
وأمهل الله تعالى فرعون، لما قال:“أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ” (النازعات: 24).
وأمهل قارون، وأمهل عاد وثمود كل هذه الأمم، ويُمهل الظالمين قديمًا وحديثًا، حتى إذا ظن أنه الزعيم الأوحد، الخالد، الكبير، العظيم، الجليل، الذي يفعل ما يشاء، ويصدر القرارات، ويذل من يشاء، ويقرّب من يشاء….هنا، يأتي بأس الله، ويأتي أمر الله عز وجل، فلا يُردّ بأسه،عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ.
قال رسول الله ﷺ:“إن الله لَيُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِته.”
فالله حليم لا يُعجِّل، لأنه لا يخشى فوات الشيء.
2- الحكمة الثانية:والله سبحانه وتعالى يُمهل؛ عسى أن يتوب الطاغية ويرجع إلى الله .
3- وحتى لا يكون له عذر عند الله فيقول “يا رب، أنت عجلتني بالعذاب، كنت أريد أن أتوب، كنت أنوي أن أتوب!”
أمامك المدّة، تُب إلى الله.
يرسل الله تعالى الرسل:“رُّسُلًۭا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌۭ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ” (النساء: 165).
4- أيضًا: من الحكم ابتلاء للمؤمنين! لماذا لا نسلِّم بهذه الحقيقة؟
الذي يحدث من مجازر، ومآسٍ، ومقاتل، ومظالم، وسجون، ومعتقلين، قديمًا وحديثًا، ابتلاءات، قَدَر الله عز وجل، هذا ليرفع درجات عباده المؤمنين،وليتبيّن مَن الصادق ومَن الكاذب.
قال تعالى: “أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓا۟ أَن يَقُولُوٓا۟ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت: 2).
5- من الحكم، أن يبرز معنى أن الكون بيد الله، يا إخواني، ألا تقرؤون سورة يس؟
آخر آية:“فَسُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍۢ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (يس: 83).
هو المُهيمن جل جلاله،هو المُهيمن، بيده ملكوت كل شيء،وإليه يُرجع الأمر كلّه، يُدَبِّر الأمر،“وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (هود: 123)،و“وَٱللَّهُ بَصِيرٌۭ بِٱلْعِبَادِ” (غافر: 44) ألا نقرأ هذه الآيات في القرآن؟!
تأمّلوا الواقع الذي نعيشه، الله ليس بغائبٍ عنه جل جلاله، ولا بغافلٍ، حاشاه سبحانه.
فالسؤال العجيب الذي يتكرّر: أين الله مما يحدث؟ لماذا كذا؟ لماذا؟
يا أخي، من أنت؟ حتى تُسيء الأدب مع الله؟ وتملي على الله ماذا يفعل، وماذا يترك؟
جل جلاله، يفعل ما يشاء بحكمته، ويحكم ما يريد بعزّته.
فليس من حقّ أي عبد من عباد الله أن يُملي على الله: “افعل كذا” أو “لا تفعل كذا” لأنه جل جلاله “فَعَّالٌۭ لِّمَا يُرِيدُ” (البروج: 16)،و“وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ” (القصص: 68).
لقد حدث هذا لخير خلق الله، من الأنبياء، لنتعلَّم يا إخواني ونتربّى.
ألم يقتل نبي من أنبياء الله، سيدنا يحيى عليه السلام، وقتل أيضا أبوه زكريا،
وتآمروا على نبي الله عيسى عليه السلام، فرفعه الله إليه، والنبي محمد ﷺ تعرّض لمحاولات عدة للقتل، فنجّاه الله بقدرته سبحانه وتعالى، وغيرهم من أنبياء الله عليهم جميعًا الصلاة والسلام…
لنتعلّم يا إخواننا، لنتأسّى.
الدنيا ليست مشهد النهاية، النهاية عند الله يوم القيامة“وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ” (آل عمران: 185)،
“وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌۭ شَيْـًۭٔا” (الأنبياء: 47).
أنت ترى المشهد كله: مآسي، دماء، مجازر، مذابح…وتنسى أن هذا المشهد عند الله له صورة أخرى، أنت لا تراها، لأنها غيب.
ارتقى 70 شهيدًا من الصحابة في غزوة أُحد،وأصاب المسلمين مصابٌ عظيم، فما من بيت إلا وفيه شهيد أو جريح.
فأراد رسول الله ﷺ أن يُبشّرهم، فقال:“لما قُتِل إخوانكم يوم أُحد، جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأوي إلى قناديل مُعلَّقة في ظلّ العرش.”فلما رأوا طِيب مأكلهم ومشربهم، قالوا:“من يُبشّر إخواننا؟ من يُخبر إخواننا؟ لئلا يَنكلوا، حتى لا يتراجعوا أو يتكاسلوا عن نصرة رسول الله، وعن نصرة دين الله.”فقال الله: “أنا أخبر عنكم.”
ونزلت الآيات، هذه الآيات نقرأها في سورة آل عمران:“وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتًۭا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا۟ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ ۖ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍۢ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ” (آل عمران: 169–171).
أيها المؤمن، نعم، نحن بشر، نتألّم، نتوجّع، نبكي، والله… مما نرى:
-
الصحفي الذي أُحرِق حيًّالما قُصِفَت خيمة الصحفيين،والمستشفيات التي تُدمّر، والأطفال التي يُصيبها ما يُصيبهم،ومآسٍ كثيرة…هل تظن أن الله غافل عن كل هذا؟ هؤلاء الشهداء أُكرِموا بكرامة الله، ارتقوا إلى ربٍّ عظيم، يُجازي ويُعطي الأجر الجزيل، وتبقى لعنة هذه الدماء على من أصابها، واقترفها، ومن أعان عليها.
لكن، كما قال النبي ﷺ:“ولكنّكم تستعجلون…”
وبدلًا من السؤال: “ما هي نهاية الأمر؟” أقول لك: ماذا فعلت لإنهاء هذا الأمر؟للتخفيف من هذا الأمر؟
الأخت المهندسة ابتهال أبو السعد، التي وقفت في احتفال “مايكروسوفت”، وقالت كلمة حق زلزلت عرش مايكروسوفت،
بحضور كل القيادات، وكل المسؤولين، فهوَت أسهم مايكروسوفت في الأرض.
هذه المرأة بمليون حاكم عربي، بمليون عسكري مقاتل، هذه أدّت دورها هي.
وكلماتها القليلة كانت أقوى من 1000 طلقة رصاص، لأنها أصابت هؤلاء الداعمين لهذا الكيان المعتدي الظالم الطاغي وفضحتهم أمام وسائل الإعلام العالمية وتناقلتها وكالات الأنباء ونشر المقطع ملايين المرات عبر وسائل التواصل.
ومعنى هذا أن في الأمة قلوبًا حيّة، وألسنًا طاهرة تنطلق بقول الحق، مع علمها بأن لهذه الكلمة ضريبة ستدفعها، فأمتنا بخير.
والبشرية لن تعدم الإنسانية فهناك على المستوى الإنساني الكثيرون، ممن في قلوبهم الرحمة يتألمون ويحزنون على ما يحدث بغزة .
فبدلًا من وضع اليد على الخد والبكاء، والصعبانيات (كما نقول في العامية)، اسأل نفسك ما هو دوري؟ ماذا أستطيع أن أفعل للتخفيف عن إخواني؟ماذا أستطيع أن أفعل لإيقاف هذا النزيف الدائم؟
ماذا أفعل لآخذ على يد الظالم في ظلمه؟
المظاهرات التي خرجت في نيويورك الأسبوع الماضي، لم تكن غير مسبوقة.
أدت إلى الإعلان الآن أن الحرب ستتوقف في أقرب فرصة بعد التوصل إلى اتفاقية لتبادل الأسرى.
فلا بد يا إخواني أن يكون هناك دعم إيجابي،غضب عاقل يصب في مصلحة الضغط على الحكومات، لايقاف الحرب أو لتخفيف المصاب عن المصابين.
أنا لا أغمض عيني وأقول: “لا يوجد شيء”، إنما أقول: نبذل ما في وسعنا، ونبذل ما في طاقتنا حتى نعذر إلى الله، ثم يفعل الله ما يشاء.
ما عجزت عنه ليس في قدرتي، فهو على حسب ما يقضي الله.
له حكمه، وله سبحانه وتعالى قضاء نافذ.
نسلّم له، ونستسلم له، ونرضى بما يقدره سبحانه وتعالى، ونعلم أن للظالم يوما يقع به بأس الله.
وأقصد بـ”ظالم” هنا اسم جنس، الظالم هذا سواء كان شخص، أو دولة، أو كيان، أو حزب، أو حكومة، أو أمة.
هذا الظالم، قديمًا وحديثًا، له يوم قال تعالى: “وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ” (يوسف :110).
“وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِۦ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ” (الرعد: 41).
اقرؤوا القرآن يا إخواني، هو زادنا في هذه الأيام، تصبروا بما ورد في القرآن من قصص الأنبياء والأمم السابقة،وحال هؤلاء الكرام: حملة وحي الله، ومبلّغي رسالات الله إلى البشرية.
كيف صبروا، وكيف احتسبوا، وكيف كانت العاقبة للمتقين؟
كما قال الله لنبينا: “فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّۭ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ” (الروم: 60).
**********
نسأل الله سبحانه وتعالى في هذه اللحظات المباركات:
اللهم، يا سامعًا لكل نجوى، ويا كاشفًا للضرّ والبلوى،
أنت غياثنا، فبك نغوث، وأنت لِياذنا، فبك نلوذ.
اللهم، فرّج الكرب والبأساء والضراء عن المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم، اغث إخواننا بفلسطين،
اللهم، فرّج الكرب عن إخواننا بغزة،
اللهم، فك عنهم الحصار والتضييق،
اللهم، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.
اللهم، استر عوراتهم، وآمن روعاتهم.
اللهم، احفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك، واعزهم بنصرك، يا خير الناصرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.