الإنسان في القرآن: 11- ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾

تاريخ الإضافة 23 أغسطس, 2021 الزيارات : 2586

الإنسان في القرآن: 11- ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾

نحن في سلسلةٍ من الخُطَب تدور حول عنوان (حقيقة الإنسان في القرآن) واليوم موضوع الخطبة آيةٌ كريمة تتحدث عن الإنسان وهي قول الحق جل وعلا(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) التين 4

معنى الآية الكريمة

هذه الآية الرابعة من سورة التين التي أقسم الله في مطلعها بأربعة أشياء: أقسم بالتين، وبالزيتون، وهما من الثمار المشهورة، وهما يشيران إلى بيت المقدس مهبط عيسى – وأقسم بجبل الطور “طور سيناء” الذي كلَّم الله عليه موسى تكليمًا، – وأقسم بالبلد الأمين (مكة المكرمة) مهبط الوحي الإلهي الشريف، يقسم الله بها جميعاً أنك أيها الانسان خلقت في أحسن تقويم.

(لقد خلقنا الإنسان) (الإنسان) أي جنس الإنسان مؤمن وكافر.

(في أحسن تقويم) التقويم في اللغة: تصيير الشيء على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها في التعديل والتركيب، تقول: قومت الشيء تقويماً، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها في التعديل والتركيب.

وفي الآية قولان لعلماء التفسير:

القول الأول: خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، معتدل القامة، جميل الصورة، وفي وجهه للنظر عينان، وللسمع أذنان، ولسان وشفتان، ومنحه الله يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعقلا يفكر به، ونفخ الله فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وكرّمه الله تكريما عظيما، وفضّله على كثير من مخلوقاته، قال تعالى: ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. (الإسراء :70) والمرادُ من الصّورة الحَسنة: ليسَ هو جمال المنظر ؛ إذ ليسَ جميعُ البشر كذلك، بل المقصودُ تناسبُ أجزاءِ الإنسان بعضها مع بعض وتناسبُ مجموعِها مع الغاية التي خُلِق من أجلِها، فالأجهزةُ الفعّالةُ في جسم الإنسان فيها غايةُ التناسبِ والاِنسجام وتفاعلِ بعضِها مع البعض الآخر حتّى في جسم الإنسان الذي له يدٌ زائدة، أو رجلٌ أو غير ذلك، فجسمُ كلّ إنسانٍ متناسبُ الأجزاءِ والأجهزة بمعنى اِنسجام بعضِها مع البعض الآخر، وأيضاً بمعنى اِنسجامها مع الغايةِ والهدف من الخليقة، حيثُ أنّ مجموعَ هذا التركيب الخاصّ من الجسم والرّوح يعتبرُ منسجماً مع درجةِ الكمال التي ينبغي للإنسان الوصولَ إليها من خلال هذه التركيبة الخاصّة المكوّنة من الجسم والروح.

فتضمن جواب  القسم في هذه الآية أكبر مظاهر ‏القدرة والعلم ‏والرحمة وهي موجبة ‏للإيمان بالله وتوحيده ولقائه ، وهو ما كذب به أهل ‏مكة ‏وأنكروه ، وبيان ذلك أن ‏الإنسان كائن حي مخلوق فخالقه ذو قدرة قطعا وتعديل ‏خلقه ‏بنصب قامته وتسوية ‏أعضائه وحسن سمته وجمال منظره دال على علم وقدرة ‏وهي ‏موجبة للإيمان بالله ‏ولقائه ، إذ القادر على خلق الإنسان اليوم وقبل اليوم قادر ‏على ‏خلقه غدا كما شاء متى ‏شاء ولا يرد هذا إلا أحمق جاهل.

هل تعرف ما الحكمة من خلق الإنسان ؟

قال الدكتور عبد المجيد الزنداني في إحدى محاضراته :جرت مجادلة بيني وبين أحد علماء بريطانيا: البروفسور كروستوفر بالس ، وهو طبيب من مشاهير علماء بريطانيا في الطب ، فقلت له : هل وُجِدَت عينك لحكمة ؟
قال : نعم .
قلت : وهل وُجِدَ أنفك لحكمة ؟
قال : نعم.
وأخذت أعدد أعضاء الجسم .
فقال لي : هذه مواضيع أبحاث علمٍ يسمى علم وظائف الأعضاء لا يتخرج الطبيب من أي كلية في الطب إلا إذا درسه .
فقلت له : هل الحكمة من هذا العضو خاصة بالعضو نفسه ، أم أنها من أجل الكل؟(أردت أن يعترف أن الحكمة من الأجزاء ليست من أجل الأجزاء نفسها وإنما من أجل الكل).
فقال: أرأيت لو جئت بالجهاز الهضمي وحده من دون الجسم أله قيمة؟
قلت: لا .
قال: كيف تقول: إن الأعضاء والأجهزة أحكمت من أجل نفسها ولم تحكم من أجل الكل؟
قلت له: أنا كنت أسأل وأنت قد أجبتني ،
فما الحكمة من هذا الكل؟ (يقصد الإنسان ) فبهت وأطرق برهةً وأدرك أنه وقع في الفخ!!
وقال: هذه فلسفة !
قلت له: قبل قليل كان علماً (علم وظائف الأعضاء)!! ولكن عندي سؤال أفي استعمال حذائك حكمة ؟
قال: نعم لها فائدة: فهي تقيني الأذى، فهي تحمي قدمي من الاصطدام بالأجسام الثقيلة ومن الخدش بالأجسام الحادة ، ومن التضرر بالسوائل الضارة ، ومن تقلبات الجو ، ومن اختراق بعض الكائنات وغير ذلك .
فقلت له: ألوجودك حكمة ؟ فبهت مرة ثانية !
فقلت له: والله أني لأعجب يا برفسور من حضارتكم التي تقول لكم: إن الإنسان أحقر من نعله !! فلاستعمال الحذاء حكمة، ولابسها لا حكمة من وجوده!! أما لماذا لم تعرفوا الحكمة ولماذا هربت فذلك لأن الحكمة من خلقك لا تعرف إلا بتعليم من الخالق ، وأنتم لا تعرفون الخالق ، فكيف ستعرفون حكمة وجودكم؟! لذلك سيبقى الإنسان في نظركم أقل شأناً من الحذاء.

القول الثاني: منحناه ما لم نمنحه لغيره، من بيان فصيح، ومن عقل راجح ، ومن علم واسع ، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه في هذه الحياة ، بإذننا ومشيئتنا، وخلق الله الإنسان على الفطرة النقية الصافية ألا وهي الإيمان بوجود الخالق جل وعلا ، ولذلك لم يأت الرسل لاثبات وجود الله إنما أرسلوا لتصحيح الاعتقاد في الله ، فالإنسان مخلوق على الفطرة ، ويفسر هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه » ؛ ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتعليمه. 

والله تعالى الذي اصطفى الإنسان من بين مخلوقاته ، خلقه خلقاً متميزاً وفريداً؛ ليتمكن من حمل الأمانة التي أوكلها الله إليه ،وحملها الانسان مختارا طائعا ، ألا وهي تحقيق الاستخلاف في الأرض ،وعمارتها ، في إطار تحقيق العبودية الخالصة ، العبادة لله وحده في مفهومها الشامل ، ولذلك كان من الطبيعي أن يزوده الله تعالى ( الخالق جل جلاله ) بكل ما يلزمه من أدوات ووسائل ؛ليتمكن من تحقيق الغاية التي خلق من أجلها، فأصبح بما وهبه الله من هذه القدرات والاستعدادات والإمكانات في أحسن صورة، ولكن في حال استخدامها للغاية التي خلق من اجلها وهي تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى ،أما أولئك الذين تنكبوا الطريق ، وابتعدوا عن النهج الإلهي، وتمردوا على الغاية التي خلقوا من أجلها فإنهم لم يعودوا في أحسن تقويم ، وإنما وصفهم الباري جل جلاله بوصف آخر ، قال تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ( التين : 5-6 ) ،وهذا يعني أن الذين حافظوا على أصل فطرتهم، واتبعوا ما أمرهم الله تعالى به ، والتزموا منهج الله تعالى ، واتبعوا ما أنزل إليهم ، فقد حافظوا على وسام التكريم الذي اختصهم الحق جل وعلا به ، وهم الذين استحقوا ثبات وصف ” أحسن تقويم ” في حقهم.

قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) فيه قولان لعلماء التفسير:

القول الأول: أسفل سافلين أي أرذل العمر، كقوله تعالى : {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} ( يَس : 68 ) أي : ومن نُطِلْ عمره حتى يهرم نُعِدْه إلى الحالة التي ابتدأ منها حالة ضعف العقل وضعف الجسد, أفلا يعقلون أنَّ مَن فعل مثل هذا بهم قادر على بعثهم؟

وعلى هذا القول يكون المعنى : ثم رددناه بعد ذلك ‏التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه ، ‏فقوَّس ظهره بعد اعتداله ، وابْيَضَّ شعره بعد سواده ، وتكمش جلده ، وكَلّ سمعه ‏وبصره، وربما وصل إلى مرحلة ضياع الذاكرة وخرف العقل، واهتزاز اليد وقلة الحيلة، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من أن يرد إلى أرذل العمر.

القول الثاني: أسفل سافلين: إلى النار يعني الإنسان الكافر ،‏ أي :  جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح ، وأسفل من كل سافل ،

الإيمان والعمل الصالح هما سبيل النجاة للإنسان من التردي :

واستثنى الحق جل جلاله من هذه النهاية المقررة في قوله تعالى : ‏{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}‏، على القولين السابق الاشارة إليهما : النار للكافر ، أو أرذل العمر لعموم الناس ، استثنى من تلك النهاية الفريق الذي تمسك بالإيمان ، وتحلى بالعمل الصالح في كل ما يأتي وكل ما يدع ، فقال تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ،

قال ابن القيم رحمه الله (في كتابه : التبيان في أقسام القرآن) بعد أن أورد قولي أهل العلم في معنى أسفل سافلين : ( النار ، أو الهرم ) : ” … والصواب القول الأول ( أي النار ) لوجوه: أحدها : أن أرذل العمر لا يسمى أسفل سافلين ، لا في لغة ولا عرف ، وإنما أسفل سافلين هو سجين الذي هو مكان الفجار ، كما أن عليين مكان الأبرار .

الثاني: أن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليل جداً ، فأكثرهم يموت ولا يرد إلى أرذل العمر .

الثالث: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رد من طال عمره منهم إلى أرذل العمر ، فليس ذلك مختصاً بالكفار حتى يستثنى منهم المؤمنين .

الرابع : أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار بل جعله لجنس بني آدم فقال : {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}، فجعلهم قسمين قسماً متوفى قبل الكبر ، وقسماً مردوداً إلى أرذل العمر ولم يسمه أسفل سافلين .

الخامس: أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين ، وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان ، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين ، وجزاء المؤمنين أجراً غير ممنون .

السادس : أن قول من فسره بأرذل العمريستلزم خلو الآية عن جزاء الكفار وعاقبة أمرهم ، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس ، فيكون قد ترك الأخبار عن المقصود الأهم ، وأخبر عن امر يعرف بالحس والمشاهدة ، وفي ذلك هضم لمعنى الآية وتقصير بها عن المعنى اللائق بها .

السابع: أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في مبدأه ومعاده ، فمبدؤه خلقه في أحسن تقويم ، ومعاده رده إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير ممنون ، وهذا موافق لطريقة القرآن ، وعادته في ذكر مبدأ العبد ومعاده ، فما لأرذل العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه.

الثامن: أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس ، وإخراج الكلام عن ظاهره والتكلف البعيد له فإنهم إن قالوا إن الذي يرد إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين كابروا الحس ، وإن قالوا إن من النوعين من يرد إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثناء ، فمنهم من قدر ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل اعمالهم إذا ردوا إلى أرذل العمر ، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة ، فهذا وإن كان حقاً فإن الاستثناء إنما وقع من الرد لا من الأجر والعمل ، ولما علم أرباب هذا القول ما فيه من التكلف خص بعضهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرآن خاصة فقالوا من قرأ القرآن لا يرد إلى أرذل العمر ، وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما أن الاستثناء عام في المؤمنين قارئهم وأميهم وأنه لا دليل علىما ادعوه وهذا لا يعلم بالحس ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه والله أعلم .

التاسع: أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان وعبادته وحده لا شريك له فينقله حينئذ من هذه الدار إلى أعلى عليين فإذا لم يؤمن به وأشرك به وعصى رسله نقله منها إلى أسفل سافلين وبدله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم صورة من أقبح الصور في أسفل سافلين فتلك نعمته عليه ، وهذا عدله فيه وعقوبته على كفران نعمته .

العاشر: أن نظير هذه الآية قوله تعالى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين ، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك والأجر غير الممنون هناك هو المذكور هنا والله أعلم.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 29 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع