الإنسان في القرآن: 13- ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾

تاريخ الإضافة 1 سبتمبر, 2021 الزيارات : 3580

الإنسان في القرآن: 13- ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾

نحن في سلسلةٍ من الخُطَب تدور حول عنوان:  (حقيقة الإنسان في القرآن) 

واليوم موضوع الخطبة آية كريمة تتحدث عن الإنسان وهي قول الحق جل وعلا: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ العاديات 6

معنى الآية الكريمة

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ الآية تشمل عموم الإنسان.

{لربه لَكَنُودٌ ﴾ الْكَنُودُ لغةً: ترجع إلى الأرض الكنود، وهي التي غلب عليها السبخة ، فهي الأرض التي زادت نسبة الملوحة فيها ، فمهما رويت بالماء فلا تنبت زرعا .

فالتشبيه هنا للإنسان الكنود بهذه الأرض ، والكنود هو الذي يعدِّد المصائب وينسى النعم.

أقوال السلف في معنى الكنود:

  • قال ابن عباس رضي الله عنه: لكنود؛ أي: لكفور، جحود بنعم الله.
  • قال الحسن: “يَذْكُرُ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ”.
  • وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: “الْكَنُودُ الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِحْسَانِ، والشكور الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِحْسَانِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ.
  • وأخذ الشاعر هذا المعنى فقال:

يا أيها الظالم في فعله *** والظلم مردود على من ظلم

إلى متى أنت وحتى متى *** تشكو المصيبات وتنسى النعم !

قلت : هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود، فيبقى الإنسان متقلبًا في نعم الله زمانًا طويلًا، وهو في عافية، وممتَّعًا بهناءة العيش، وتيسير الأمور، وصلاح الأحوال؛ فإذا ما مسَّته نفحةٌ من بلاءٍ ونزلت به شدة عارضة؛ تبرَّم وتضايق، وأخذ يعد أيام البلاء، ويُكثِر الشكوى منها، وينسى أيام العافية ويجحدها، وهذا هو الْكَنُودُ بعينه، وهو طبع في جنس الإنسان إلا من رحمه الله وعافاه.

سورة العاديات 

جاءت هذه الآية ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ جوابا للقسم الذي افتتح به الحق جل وعلا سورة العاديات ؛ فأقسم تعالى بالخيل المسرعات في سيرها فقال تعالى “والعاديات ضبحا” أي العاديات عدواً بليغاً وقوياً يصدر عنه الضبح وهو صوت نفسها في صدرها عند اشتداد عدوها (الجري السريع) ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى تقدح الشرر منها ، قال تعالي “فالموريات” بحوافرهن ما يطأن عليه من الأحجار “قدحاً” أي تنقدح النار من صلابة حوافرهن وقوتهن إذا عدون “فالمغيرات صبحا” “فأثرن به” أي بعدوهن وغارتهن “نقعا” أي غبارا “فوسطن به” أي براكبهن “جمعاً” أن توسطنا به جموع الأعداء الذين أغار عليهم.

والمقسم عليه قوله ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ فهو حقيقة في نفس الإنسان الذي يجحد نعمة ربه، وينكر جزيل فضله ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالاً وأقوالاً.

وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ أي : وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِشَهِيدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَهِيدٌ، أَيْ: بِلِسَانِ حَالِهِ، أَيْ: ظَاهِرٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ أَيْ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ -وَهُوَ: الْمَالُ- لَشَدِيدٌ. وَفِيهِ مَذْهَبَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ.

وَالثَّانِي: وَإِنَّهُ لَحَرِيصٌ بَخِيلٌ؛ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ.

هذه فطرته وهذا طبعه ما لم يخالط الإيمان قلبه فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته ويحيل كنوده وجحوده اعترافاً بفضل الله وشكراناً كما يبدل أثرته وشحه إيثاراً ورحمة ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا .

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾

من أكبر مداخل الشيطان أن يجعلك ساخطا دائما لا ترضى عن شيء ، وقد قال الشيطان ذلك بنفسه كما ورد في القرآن في الحوار بين رب العزة جل وعلا وإبليس قال : -( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين )- [الأعراف/17]

فالشيطان دائما يزين للبعض الشعور الدائم بالقهر والظلم والنقص والتخبط في الحياة ، أنا رجل منحوس حظي سيء ، أنا هكذا انتقل من مصيبة إلى مصيبة ، لم يمر بي يوم سعيد أبدا ، ويغمسك غمسا في جو من الكآبة والحزن والشعور الدائم بأنك تعيس ومحروم ومظلوم ، ولم تأخذ حقك من الدنيا …الخ ، فبالتالي تكون ساخطا على الله وإن لم تنطق بذلك، ويجعلك تكرر هذه الأفكار فتتأكد لديك وتظل ساخطا على الله وأقداره، فلا يجري على لسانك كلمة الحمد لله، ودائما تجد أن غيرك افضل منك، وأنك مهما سعيت فأنت منحوس، النحس يلازمك، الشؤم يجري وراءك (وليس هناك شيء اسمه النحس بالمعنى الشائع عندنا لكن هكذا يوسوس الشيطان )، الفقر هو الذي ينتظرك كل يوم والمستقبل القريب أسود ومظلم …وهذا المدخل أضل الشيطان به عبادا كثيرين.

 والمؤمن، قد تعرض له وساوس، وهواجس، ولكنه إذا كان صاحب إيمان ويقين وكان موفقا من الله عز وجل، سرعان ما تزول تلك الوساوس وتختفي الهواجس، ويعود إليه منطق الإيمان ونور العقيدة القويمة… والاطمئنان.

حقيقة الدنيا:

وحتى نفهم الأمور جيدا : لا بد وأن نعلم أن الله لم يجعل الدنيا دار السلامة الدائمة ، الدنيا فيها كل شيء من ظن أن الدنيا كالجنة فهو واهم الدنيا ليست كالجنة ، والأجر العظيم وتوفية أجور الأعمال الصالحة لن يكون في الدنيا قال تعالى : -( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )- [آل عمران/185] الدنيا كلجنة الامتحان للطلبة ، كطالب مثلا في الجامعة حتى يتحصل على الشهادة النهائية لا بد له من دراسة أربعين مادة والامتحان فيها ، فأنت عندك في الدنيا اختبار في مادة الغنى وآخر في مادة الفقر ، اختبار الصحة واختبار المرض ، اختبار في الفتن : فتنة النساء ، المال ، التجارة ، معاملة الناس ، السلطة ، العلم ، ظلم ذوي القربى مثلا ، فتن كثيرة وامتحانات تتعرض لها ، وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى حينما قال : (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا ) يعنى مادة وراء مادة اختبار وراء اختبار ، وهكذا .

فكل العباد سيتعرضون لهذه الاختبارات حتي يأتي الأجل المسمى ( الموت ) ثم يكون الجزاء يوم القيامة ، فالدنيا ليست دار قرار ولا دار النعيم أو دار السلام ، وليس الأصل فيها السواد أو الكآبة لكنها أمور ستحدث في الدنيا ،وكلنا نتمنى العافية ونسال الله السلامة والصحة والغنى ، لكن سيمر الإنسان باختبارات شديدة وصعبة ربما سيرتقي وربما سيخفق ، ربما يوفق وربما يخذل ،هذا كله وارد ، ومن ظن ان الدنيا ليست كذلك فهو واهم ، من ظن أنه سيتحصل في الدنيا على كل شيء فهو واهم.

ولو استعرضنا الابتلاءات التي مر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم – فقد تقلب النبي في اليتم بداية من وفاة أبيه فأمه فجده …وكم مرة تعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- للقتل؟ وعاش النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفقر والمعاناة والجوع وشدة العيش لدرجة أنه كان يربط حجرين على بطنه …..فمر الرسول بابتلاءات كثيرة وصعبة، وعلى الرغم من هذا كله فقد كان يستقبل كل هذا بالحمد لله والشكر لله.

من علامات المؤمنين الحمد في السراء والضراء:

وقال تعالى -( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار )- [الزمر/8] خوله : أعطاه من النعم ما أعطاه بلا مقابل ، فهو مقبل على ربه حال الشدة ، فإذا كان في الرخاء نسي كل ذلك ، ولذلك من علامات المؤمنين أنهم يحمدون الله في السراء والضراء ، يتعرفون إلى الله في النعم بالشكر ، وعند الابتلاءات بالصبر ، قال تعالى : -( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون )- [البقرة/156] وفي الحديث (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيراً له).

فتنال البركة والمزيد في النعمة بالشكر قال الله عز وجل: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) [إبراهيم:7]، وتنال رضا الله عند الابتلاء بالصبر ، وأنت إن صبرت أو لم تصبر فالابتلاء نافذ لكن أولى بك أن تفوز بالصبر عليها .

قصة لحاتم الأصم :

رُوِي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجل أصابته مصيبة، فجزع منها وأمر بإحضار النائحات ، فسمع به حاتم فذهب إلى تعزيته مع تلامذته، وأمر تلميذًا له، فقال: إذا جلست فاسألني عن قوله تعالى:﴿ إن الإنسان لربه لكنود﴾ العاديات: 6.

فسأله فقال حاتم : ليس هذا موضع السؤال!! فسأله ثانيًا وثالثًا،

فقال : معناه إن الإنسان لكفور، عدّاد للمصائب، نسّاء للنعم، مثل هذا الرجل (يقصد صاحب العزاء ) إن الله -تعالى- متّعه بالنعم خمسين سنة، فلم يجمع الناس عليها شاكرًا لله، عز وجل ، فلما أصابته مصيبة جمع الناس يشكو من الله تعالى!!

فندم الرجل على ما فعل وصرف النائحات وتاب إلى الله عز وجل .

تعليق واحد



اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 42 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع