الإنسان في القرآن: 12- ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾

تاريخ الإضافة 26 يونيو, 2024 الزيارات : 2544

الإنسان في القرآن: 12- ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾

نحن في سلسلةٍ من الخُطَب تدور حول عنوان (حقيقة الإنسان في القرآن) واليوم موضوع الخطبة آيتين كريمتين تتحدثان عن الإنسان وهما قول الحق جل وعلا : ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ العلق:7،6

معنى الآيتين الكريمتين

﴿كَلَّا﴾ تَرِدُ “كلا” في القرآن الكريم على عدَّة معانٍ، منها أن تكون بمعنى حقًّا كما في هذه الآية.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ ﴿الْإِنْسَانَ﴾ المراد جنس الإنسان.

﴿ لَيَطْغَى ﴾ من الطُّغيان: وهو مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ.

﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ رَآهُ أَيْ لِأَنْه رَأَى نَفْسَهُ.

﴿ اسْتَغْنى﴾: الاستغناء امتلاك الشيء الذي يجعل مالِكَهُ غنياً عن غيره، غير محتاجٍ إلى أحد، واستغنى: هو استفعال من “الغنى”، والاستفعال يأتي على معانٍ، لعلّ الأنسب منها في المقام معنيان:

أ- الصيرورة، فـ “استغنى” بمعنى: صار غنيّاً.

ب- الحدث المجرّد، فـ “استغنى” بمعنى: غَنِيَ. فيكون الفعل قد ورد بلفظ المزيد فيه، لكنّه بنفس معنى الفعل المجرّد، والمؤدّى لكلا المعنيين واحد، وإن كان الأرجح هو الثاني, لأنّهم مثّلوا للصيرورة بمثل: “استحجر الطين”, أي صار حجراً أو كالحجر في صلابته، و”استأسد الجنديّ” أي صار كالأسد في شجاعته وقوّته، ونحو ذلك من الأمثلة التي فيها استحالة الشيء عن حقيقته إلى حقيقةٍ أُخرى.

فالمعنى: حَقًّا إنَّ الإنْسانَ لَيَتَجاوَزُ حَدَّهُ ويَسْتَكْبِرُ عَلى رَبِّهِ، إنْ رَأى نَفْسَهُ اسْتَغْنَتْ.

 طغيان الإنسان وأسبابه

أنواع الاستغناء :

الاستغناء نوعان: استغناءٌ حقيقي، واستغناءٌ وهْمِيّ، فالمُستغني حقيقة في الكون هو الله وحده، لأنه صمدٌ، وجوده ذاتيّ، قدرته ذاتيّة، لا يتعلَّق وجوده على جهةٍ أخرى..فالمُستغني الوحيد عن كل خَلْقِهِ هو الله، وهذا نفهمه من معنى اسم الله الغني.

 أما الإنسان، فإنه إذا امتلك مالاً ظن أن هذا المال يغنيه عن الله ويطغيه على الناس ويستعلي به عليهم فهذا وهم كاذب، وضلال مُبين؛ مبنيٌّ على ضعفٍ في رؤيته، وقد بين سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ سورة فاطر: 15

ما سبب طغيان الإنسان؟
سببه أنه رأى نفسه مستغنيا عن غيره، وهذا عمى في الحقيقة؛ فالمرء لا يستطيع الاستغناء عن غيره، كما قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعضٌ لبعض وان لم يشعروا خدم
كلُّ إنسان لا يستطيع أن يعيش وحده، بل لا بدَّ أن يحتاج إلى آخرين، كما يحتاج إليه آخرون؛ فالغنى في ذاته ليس شرا، فقد آتى الله بعض خلقه المال، والملك وكثير من النعم، وفي الحديث أن النبي قال لعمرو بن العاص: “نعْم المال الصالح للعبد الصالح” ، ولكن المذموم هو الاستغناء واعتقاد الإنسان نفسه غنيا عن كل ما سواه؛ لأن لديه مالا وثروة، فهذه الرؤية هي التي غشَّته، وطمست على بصيرته.
فليس الغنى هو مصدر الطغيان، بل رؤية الشخص نفسه مستغنيا عن غيره.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :كلُّ إنسانٍ من بني آدم إذا رأى نفسَه استغنى فإنَّه يطغى.
  • إذا رأى أنَّه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يُبالِ.
  • إذا رأى أنَّه استغنى عن الله عز وجل في كَشْف الكُرُبات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي.
  • إذا رأى أنَّه استغنى بالصحة نَسِيَ المرض.
  • وإذا رأى أنَّه استغنى بالشبع نَسِيَ الجوع.
  • إذا رأى أنَّه استغنى بالكسوة نَسِيَ العُري … وهكذا؛ فالإنسان من طبيعته الطُّغيان والتمرُّد متى رأى نفسَه في غِنًى.

أسباب أخرى للطغيان 

1- الجاه والسلطان :

من الناس من يطغيهم ملكهم، وشَرُّ سَلِفٍ لهم فرعون الذي ظن لنفسه فضلاً على كليم الله موسى عليه السلام بحجة فارغة حيث قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف/51]، ثم جاوز الحد في الطغيان حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات/24]

2- القوة :

ومنهم من تطغيهم قوتهم وهؤلاء سلفهم عاد قوم هود حيث قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت/15]

الجزاء من جنس العمل:

لما كان الطغيان علواً في الأرض بغير الحق كانت عاقبته الذلة والهوان، أما فرعون الذي غره ملكه وادعى أنه الرب الأعلى فقد سلبه الله ملكه ، ثم جعله الله لمن خلفه آية، وأما عاد الذين غرتهم قوتهم فقد أخزاهم الله وأرسل عليهم جنداً من جنده، قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت/16]، وأما قارون الذي اختال على الناس بكنوزه وأمواله وعلا بها عليهم فقد صيره الله عز وجل أسفل سافلين، قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص/81] هذا في الدنيا وللظالمين أمثالها؛ وأما في الآخرة فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات/37-39].

استثناء المؤمنين الصادقين :

وذكر الإنسان هنا في هذه الآية المقصود به الجِنْسِ البشري، فهوحكمٌ على جنس الإنسان، والحُكْم على الجنس لا يعني بالضرورة استغراق جميع الأفراد، فالمؤمنون مُسْتَثْنَوْن من هذا الشعور الكاذب، ومن هذا الطغيان المرير، لأن إيمان المؤمن يبعده عن الاستغناء والطغيان ويقرِّبه من الافتقارإلى الله والتواضع بين الخلق، لأن المؤمن يوقن أن الله حينما يُعْطي الإنسان قوةً فهذا فضلٌ من الله عليه، كما قال نبي الله سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده  : “هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ” [ النمل: 40] 

ولما دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً، وحوله عشرة آلاف موحد ، دخل مكة مطأطئ الرأس حتى كادت ذقنه تُلامس الرحل إجلالا وتعظيما لله عزَّ وجل.

فالمؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين، فهو دائمًا مفتقرٌ إلى الله سبحانه وتعالى، يسألُ ربَّه كلَّ حاجة، ويلجأُ إليه عند كلِّ مكروه، ويرى أنَّه إنْ وَكَله الله إلى نفسه وَكَله إلى ضعفٍ وعجْزٍ وعورةٍ وأنَّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسانٌ من طبيعته الطغيان.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 ديسمبر, 2024 عدد الزوار : 13941 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع