الإنسان في القرآن: 9-﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
نحن في سلسلةٍ من الخُطَب تدور حول عنوان (حقيقة الإنسان في القرآن )
واليوم موضوع الخطبة آيةٌ كريمة تتحدث عن طبيعة الإنسان قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾[ سورة الكهف : 54]
معني الآية الكريمة:
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ أيّ بيَّنا ونوَّعنا، أيْ تارةً بالأمر، وتارةً بالنهي، وتارةً بالقصة، وتارةً بالمَثَل، وتارةً بالتحذير، وتارةً بالتبشير، وتنوع الأساليب من خصائص القرآن ؛ لأنه كِتاب هدايةٍ ورشد.
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ الجدال يقصد به المحاجة أو المناظرة ، واستعراض الآراء المدعومة بالحجج والبراهين التي تدعم رأى أحد المتجادلين، أو تدعم وجهة نظره على نظيره الاخر .
يقول: ابن كثيرمفسرا الآية “ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها، كي لا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى اللّه وبصره لطريق النجاة؛ قال الإمام أحمد، عن علي بن أبي طالب أنَّ رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- طرقه وفاطمة بنت رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- ليلة، فقال: “ألا تصليان”، فقلت: يا رسول اللّه إنما أنفسنا بيد اللّه، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئاً ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه ويقول: “وكان الإنسان أكثر شيء جدلا”أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
الإنسان وكثرة الجدل :
استخلف الله تعالى الانسان في الأرض وكلفه بعمارتها ، وزوده سبحانه بالقدرات والإمكانات التي تمكنه من إيصال رسالته وتعينه على أداء مهمته والانسان مدنى بطبعه لا يعيش إلا داخل جماعة من بنى جنسه يتفاعل معهم يؤثر فيهم ويتأثر بهم ، ويأتي الجدال كمطلب من أهم متطلبات هذا التفاعل، وذلك لحكمة بالغة وغاية نبيلة فى استجلاب الحقوق ودفع المظالم، وإعلاء الحق ودحض الباطل .
أنواع الجدال
أولا / الجدل المحمود:
وهو الذي يكون الغرض منه تقرير الحقِّ، وإظهاره بإقامة الأدلة والبراهين على صدقه، وقد جاءت نصوص تأمر بهذا النوع من الجدال، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الجدال في قوله تعالى : ” ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ” [النحل: 125]
وهو الذي يكون وسيلة من وسائل الدعوة الى الله وائتلاف قلوب العباد وترغيبهم في الخير وفضائله وتنفيرهم من الشر وغوائله ، والأمر بالمعروف بمعروف والنهى عن المنكر بلا منكر ، والحض على فعل الواجبات واجتناب المنهيات،.
ويشترط فيه هذه الشروط :
1- أن يكون موضوعه ذو قيمة وأن يبتغى من طرحه للحوار جدوى وفائدة عامة كدفع ضرر شديد أو استجلاب خير وفير.
2- أن يرجى من المجادل عدم العناد واتباع الهوى بل تبدو عليه أمارات التجرد وعلامات التعقل ، أما المعاندين المكابرين فجدالهم مذموم محظور قال تعالى : ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) العنكبوت 46
3- أن يكون الجدال بالتي هي أحسن من الرفق ولين الجانب وعدم التعالي والغرور، وإلا كان مذموماً لأنه سيؤول الى مفاسد عظيمة وأضرار بالغة.
4- أن يكون عن علم وبصيرة بموضوع الجدال وإلا كان ممقوتاً ،قال تعالى : (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)آل عمران 66
ثانيا/ الجدل المذموم :
هو الجدال الذي يكون غرضه تقرير الباطل بعد ظهور الحقِّ، طلبا للشهرة أوالمال والجاه، وقد جاءت الكثير من النصوص والآثار التي حذَّرت من هذا النوع من الجدال ونهت عنه، ومن هذه النصوص : قوله تعالى : ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ” [الحج: 3] .
وقوله تعالى : ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ” [الحج: 8] .
وهذا النوع من المجادلين يغلب عليهم التعصب الاعمى، ويسيطر عليهم الغضب؛ مما يفضى في النهاية الى المنازعة والمخاصمة وربما أدى الى أسوء من ذلك .
وأقبح صور الجدال والمراء الجدال عن الباطل، قال -تعالى-: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُو مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)[النساء: 107-109].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدىً كانُوا عليهِ إلا أُوتُوا الجدلَ) ثمّ تلا هذه الآية: {وَقَالوا ءَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمونَ}.
وقال الأوزاعي : ( إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ، ومنعهم العمل )
وقال عمر بن عبدالعزيز: ( من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل )
كان أبو قلابة يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم .
ويشيع هذا النوع بين الذين لم يحصّلوا قدرا كافيا من العلم والثقافة فما أن يطرح أحدهم موضوعاً ما إلا ويسارع المحيطين بالإدلاء بآرائهم وطرح أفكارهم وبنفس السرعة يتحول الحضور الى فريقين مؤيد ومعارض ويسير الجدال فى عدة مراحل من السيء الى الأسوأ ، ويحاول كل طرف أن يثبت تفوقه وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ وأن رأى الطرف الاخر خطأ لا يحتمل الصواب ، واليوم ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي صيّرت من اللاشيءِ شيئاً، وجرأت السفهاء على العقلاء، وأصبح لكل شخص منبرا يتحدث منه ، وهذه المعارك الكلامية، والتراشقات اللفظية، أغلبها مراءِ يُسْتخرجُ بها الغضب، وتُترجمُ بسيء العبارات، وتنتهي تلك المنازلات بوحشة في النفوس، وتفرقٍ في القلوب، وفرحةٍ للشيطان؛ حين حقق هؤلاء أحبّ وظيفة له بين الناس! وهي التحريش بينهم.
قال الله -تعالى-: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة:197] عن ابن مسعود في قوله: (وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قال: “أن تماري صاحبك حتى تغضبه” وعن ابن عباس قال: “الجدال: المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك”.
وقد رغب النبى صلى الله عليه وسلم في ترك الجدال من هذا النوع ، فعن أبي أُمَامَة -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: قال رسولَ اللهِ ﷺ: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإنْ كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ لمَنْ تركَ الكذبَ وإنْ كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه). رواه أبو داوود وحسَّنَهُ الألباني.
وقوله: (أَنَا زَعِيم): يعني أنا ضامنٌ وكفيلٌ وملتزم بأنَّ مَنْ فعل كذا فله كذا.
و(البيتُ) هُنا هو القَصْرُ في الجَنَّة.
(رَبَضُ الْجَنَّة)هو ما حولها، فالرَّبَضُ هُنا حَوالِي الجنةِ وأطرَافُهَا، لا في وَسَطِها.
اللهم أرنا الحق حقا ارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
ما علينا لو اختلفنا في مسألة ولم تختلف قلوبنا ؟
تناقش الامام الشافعي- رحمة الله عليه- مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى في مسألة فاختلفا، وانتهى الحوار، ولم يتفقا، قال: فأمسك الشافعي بيدي وقال : ما علينا لو اختلفنا في مسألة ولم تختلف قلوبنا .
ما المشكلة لو اختلفنا في مسألة ولم تختلف قلوبنا ؟ ما المانع أنك تأخذ بفتوى، أو برأي فقهي بتصور معين إلى آخره ما المانع من هذا؟
اختلاف العقول أو اختلاف الاختيارات لكن بعد ذلك لا تختلف القلوب.
نحن عندنا تختلف قلوبنا وأضلاعنا و تنهدم الدنيا و نمكر الشر والسوء بمن خالفنا و نتفنن كيف نؤذيه، وكيف ننشر أسراره ونهتك أستاره ، ونفضحه ونشهر به أمام الناس ، ماالسبب يا أخي ؟ لقد اختلف معي!!! فنحن كمسلمين تختلف عقولنا لكن لا تختلف قلوبنا نختلف في كل شيء نتصوره وندركه ونعرفه ربما في اختلاف بحق وفي اختلاف بباطل لكن علاجه الحوار، ومبدأ من وافقني فهو قديس ومن خالفني فهو ابليس !!! هذا مبدأ سقيم ، لأن قائله لم يعلم أن الأنبياء الكرام جميعا تعاملوا مع المخالفين لهم بالحوار، الحوار يا إخواني أن يسمع بعضنا بعضا أن يوضح كل واحد منا موقفه من الآخر، فإذا وضحت الرؤية وضح التصور ، ووضح الحكم .
ولما تنازع أحد العبيد مع آخر كان يستقون الماء فقال أحدهم: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للانصار!! قال النبي : ( دعوها فإنها منتنة) رائحة العصبية و اختلاف القلوب واستدعاء العصبيات أنا مهاجري وأنت أنصاري هذه نتن ، يعني من أخلاق الجاهلية لا ينبغي للمسلمين أن يتصفوا بها وفيهم نزل قول الحق ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )- [آل عمران/103] ) .
إذن نختلف لكن لا تختلف قلوبنا ، نتحاور لكن لا نتعادى ولا نتخاصم أيا ما كان من يخالفنا نحاورهم ونكلمهم، والله تعالى قال لمن هوخيرمنا : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء )- [البقرة/272] يعني إن كنت على الحق تبينه لكن ليس بمستطاعك أن تلزم الناس بما تعتقد أو بما تتصور ليس لك ولاية على أن يتقبل الناس دينك أوفكرتك أو رأيك أو تصورك وليس هناك إكراه ( لست عليهم بمصيطر )- [الغاشية/22]