الإنسان في القرآن: 10-﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾

تاريخ الإضافة 26 أكتوبر, 2023 الزيارات : 2766

الإنسان في القرآن: 10-﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾

نحن في سلسلةٍ من الخُطَب تدور حول عنوان (حقيقة الإنسان في القرآن ) واليوم موضوع الخطبة آيةٌ كريمة تتحدث عن طبيعة الإنسان وهي قول الحق جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ  الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (6:8) الانفطار
معنى الآية الكريمة :
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ) الخطاب لجميع بني الإنسان.

( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) هذا توبيخ وتبكيت للعبد من الله، أي ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق بل وكيف اجترأت عليه ، ولم تخفه ، فأضعت ما وجب عليك.

أقوال في التفسير :

1- قال عمر: غره والله جهله. غره والله جهله، يقصد أن الذي غر الإنسان بالله تعالى هو الجهل به سبحانه ،فلو علم الإنسان عظمة الله وقدرته لما عصاه .

2- قال قتادة: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ،أيُ شيءٍ غرَّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.

3- وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا قرأ:﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار:6] قال: يعني الجهل، ويبكي.

4-عن ابن عباس أيضا ( ما غرك بربك ) أي ما الذي غرك حتى كفرت ؟

5-  قال قتادة : غره شيطانه المسلط عليه . وقال الحسن : غره شيطانه الخبيث .

6-وقال ذو النون المصري :”كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر “

7- وقال ابن القيم “غره بربه الغرور (بفتح الغين )وهو الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه ” الجواب الكافي 13.

فالذي غر الإنسان جهله بالله ونفسه الأمارة بالسوء والشيطان المسلط عليه بالوسوسة ، وتمادى في العصيان وقد غره كرم الله عز وجل وإمهاله وحلمه، لكنه لا يجوز أن يغتر الإنسان بذلك فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

(الكريم ) وأتي سبحانه بلفظ الكريم وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه ، وأيضا لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة والمعاصي .

(يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم)

ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! ما الذي غرك، حتى تجاوزت حدود الله؟ ما الذي أذهلك، حتى انتهكت حرمات الكريم؟! فحلم الله على العبد في إمهاله، ولو شاء الله لعاجَلَه بالعقوبة، كما في الحديث عن أبي ذر عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما روى عن الله – تبارك وتعالى – أنه قال:

“يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا،يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلاَّ مَن هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلاَّ مَن أطعمته فاستطعموني أطعمكم،يا عبادي، كلكم عارٍ إلا مَن كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم،يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني،يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا،يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا،

يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك ممَّا عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخِل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه “صحيح مسلم.

قال سعيد بن عبدالعزيز: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثَا على ركبتيه إعظامًا له.

والكريم -سبحانه- هو الذي لا أكرم منه، فكرم كل كريم من كرمه، وهو من يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق، ويحسن من غير سؤال، كريم في عفوه حتى يبدّل سيئات التائبين حسنات، فهو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، ولا ينقطع سخاؤه، عمَّ بعطائه وإحسانه المؤمنَ والكافرَ، والمطيع والعاصي، وحلم الله تعالى على من عصاه واسع ، ولولا حلمه لهلك الناس كلهم كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (45) سورة فاطر.

وفى الأثر أن الله سبحانه يقول:” إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، أرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلىّ صاعد ، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغنى عنهم ! ويتبغضون إلىّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلى ، أهل ذكرى أهل مجالستي ، من أراد أن يجالسني فليذكرني ، وأهل طاعتي أهل محبتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا إلى فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب المعايب ، من أتاني منهم تائباً تلقيته من بعيد، ومن أعرض عنى ناديته من قريب ، أقول له : أين تذهب؟ ألك رب سواي ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة عندي بمثلها وأعفو ، وأنا أرحم بعبدي من الأم بولدها (1) 

 (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم

ما الذي خدعك حتى عصيت الواحد القهار؟ ما الذي خدعك فاقترفت الآثام بالليل والنهار؟ ما الذي خدعك ففرطت في حدود الله؟

ما الذي خدعك فتهاونت في الصلاة؟ ما الذي خدعك فأطلقت بصرك في الحرام؟ ما الذي خدعك فلم تخش الله كما كنت تخشى الناس؟

 أهي الدنيا؟ أما كنت تعلم أنها دار فناء؟وقد فنيت! أهي الشهوات؟ أما تعلم أنها إلى زوال؟ وقد زالت!

أم هو الشيطان ؟ أما علمت أنه لك عدو مبين؟ إذن ما الذي خدعك؟ أجب… أجب… لا عذر اليوم.

إنها لآية عظيمة وتذكرة مبينة لمن وعاها!!!

(الذي خلقك فسواك ) أي قدر خلقك من نطفة فسواك في بطن أمك ، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك.

(فعدلك) أي جعلك معتدلا سوي الخلق ، يدل عليه قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.

(في أي صورة ما شاء ركبك ) فيها ثلاثة أقوال :

1- إن شاء في صورة إنسان ، وإن شاء في صورة حمار ، وإن شاء في صورة قرد .

2-  إن شاء ذكرا ، وإن شاء أنثى .

3-  في أي صورة أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم .

قال سيد قطب رحمه الله في التفسير : “إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة، أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة، تفضلا منه ورعاية ومنة. فقد كان قادرا أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها. فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة.
وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سوي الخلقة، معتدل التصميم، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله.
وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!
وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه وليس هنا مجال التوسع الكامل في عرض عجائب هذا التكوين. ولكنا نكتفي بالإشارة إلى بعضها..
هذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي.. الجهاز العظمي. والجهاز العضلي. والجهاز الجلدي. والجهاز الهضمي. والجهاز الدموي. والجهاز التنفسي. والجهاز التناسلي. والجهاز اللمفاوي. والجهاز العصبي. والجهاز البولي. وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر.. كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها. وينسى عجائب ذاته وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس!
تقول مجلة العلوم الإنجليزية: إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة؛ وإنه من الصعب جدا- بل من المستحيل- أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف. فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة. وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا. وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها، ثم يزول الضغط بقلب الورقة. واليد تمسك القلم وتكتب به. وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة، إلى سكين، إلى آلة الكتابة. وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كل ما يريده الإنسان.. واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما.
وإن جزءا من أذن الإنسان الأذن الوسطى هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية قوس دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ، في الحجم والشكل، ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية. ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ، بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر. فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأركسترا ووحدتها المنسجمة..
ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء وهي أطراف الأعصاب، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا، والذي تعتبر حركته لاإرادية، الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة، كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب علىالعين من ظلال. وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهر….
وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان، ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي. ولتلك الحلمات أشكال مختلفة، فمنها الخيطية والفطرية والعدسية ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي، والعصب الذوقي. وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية، فينتقل الأثر إلى المخ. وهذا الجهاز موجود في أول الفم، حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنه ضار به، وبه يحس المرء المرارة والحلاوة، والبرودة والسخونة، والحامض والملح، واللاذع ونحوه. ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة، يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب. فكم عدد الأعصاب؟ وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردة، وتتجمع بالإحساس عند المخ؟.
ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم. وتتصل بغيرها أكبر منها. وهذه بالجهاز المركزي العصبي. فإذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم، ولو كان ذلك لتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم. وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف. وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية.
ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد غفل، فإننا ندرك توا أنه عملية عجيبة. إذ تهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها!
فأولا نضع في هذا المعمل أنواعا من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي، وندفعها بأي قدر من الماء..
ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة، تصبح غذاء لمختلف الخلايا. وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية، وتعني بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله. إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيماوي، بصرف النظر كلية تقريبا عما نتناوله، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية أوتوماتيكية لإبقائنا على الحياة. وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض. ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمرا، وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان، كما تتلقاها الخلية المختصة!
فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان! وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم! ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام!.
وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير. ولكن هذه الأجهزة- على إعجازها الواضح- قد يشاركه فيها الحيوان في صورة من الصور. إنما تبقى له هو خصائصه العقلية والروحية الفريدة التي هي موضع الامتنان في هذه السورة. بصفة خاصة: {الذي خلقك فسواك فعدلك}. بعد ندائه: {يا أيها الإنسان}..
هذا الإدراك العقلي الخاص، الذي لا ندري كنهه. إذ أن العقل هو أداتنا لإدراك ما ندرك. والعقل لا يدرك ذاته ولا يدرك كيف يدرك!!
هذه المدركات.. نفرض أنها كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق. ولكن أين يختزنها! إنه لو كان هذا المخ شريطا مسجلا لاحتاج الإنسان في خلال الستين عاما التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاعر والتأثرات، لكي يذكرها بعد ذلك، كما يذكرها فعلا بعد عشرات السنين!
ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة، والحوادث المفردة، والصور المفردة، ليجعل منها ثقافة مجمعة. ثم ليرتقي من المعلومات إلى العلم؟ ومن المدركات إلى الإدراك؟ ومن التجارب إلى المعرفة؟
هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة.. وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه، وليست أعلى مميزاته. فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله.. هنالك الروح الإنساني الخاص، الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود، وجمال خالق الوجود؛ ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود. بعد الاتصال بومضات الجمال في هذا الوجود.
هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه- وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية؟!- والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية حتى وهو على هذه الأرض. ويصله بالملأ الأعلى، ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود. وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد!
هذا الروح هو هبة الله الكبرى لهذا الإنسان. وهو الذي به صار إنسانا. وهو الذي يخاطبه بإسمه: {يا أيها الإنسان}.. ويعاتبه ذلك العتاب المخجل! {ما غرك بربك الكريم} هذا العتاب المباشر من الله للإنسان. حيث يناديه- سبحانه- فيقف أمامه مقصرا مذنبا مغترا غير مقدر لجلال الله، ولا متأدب في جنابه.. ثم يواجهه بالتذكير بالنعمة الكبرى. ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور!
إنه عتاب مذيب.. حين يتصور {الإنسان} حقيقة مصدره، وحقيقة مخبره، وحقيقة الموقف الذي يقفه بين يدي ربه، وهو يناديه ذلك النداء…”

فالمعنى الإجمالي للآيات:

 يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك، فخلقك من العدم وأنعم عليك بنعمة الوجود وجعلك في أحسن هيئة وأفضل صورة ما الذي غرك بربك، فجعلك تقصر في حقه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه؟ وهو ربك الكريم، الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره؛ ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه، والتي تميز بها وتعقل وتدرك ما ينبغي وما لا ينبغي في جانبه؟

(1)الأثر أخرجه الطبراني وابن عساكر والبيهقي في شعب الإيمان  عن أبي الدرداء –رضي الله عنه- ، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة  ، وقد ذكره بنصِّه غير واحد من أهل العلم، كالإمام ابن تيميَّة ذكره في ” مجموع الفتاوى ” (14/319) حيث قال :  ” وقد جاء فى بعض الأحاديث : ( يقول الله تعالى : أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، أي محبهم ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب)
وذكره ابن القيم رحمه الله في ” مدارج السالكين ” في منزلة التوبة  (1/194) من غير عزو لكتاب.
، وأخرج نحوه مختصراً ابنُ أبي الدنيا -في كتاب الشكر- عن مالك بن دينار رحمه الله قال: (قرأتُ في بعض الكتب أنَّ الله يقول: وذكر نحوه ، وروي من طرق أخرى، وكلها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يستأنس بها، ولا يزالُ أهل العلم ينقلونها في كتبهم كأثر من الآثار التي يستأنس بها .
وقال الشيخ المنجد بعد أن بين ضعف الحديث : ومع ذلك فمعنى الحديث صحيح مقبول ، وليس فيه ما ينكر ، إلا أنه لا تجوز نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم

وأفتى الشيخ ابن باز رحمه الله بجواز روايته وقام بشرحه فقال: هذا الحديث ليس بصحيح، وإنما هو من أخبار بني إسرائيل التي قال فيها النبي ﷺ حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ولكن معناه صحيح، فإن أكثر الخلق كفروا نعم الله ولم يعبدوه وحده، بل عبدوا الشياطين، وعبدوا الهوى، وعبدوا الأصنام والقبور وغير ذلك، فالمعنى صحيح يقول جل وعلا فيما يروى في هذا الأثر القدسي: “إني والجن والإنس في نبأ عظيم” صحيح خبرًا عظيم نبأً عظيم، «أخلق ويعبد غيري»، هو خلاق جل وعلا لجميع الخلق، الله خالق كل شيء، وهو سبحانه وحده الخلاق العليم، وهو القائل سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وأرزق ويشكر سواي، يعني: يشكر في الغالب غير الله يشكر زيد وعمرو وينسى الله هذا حال الأكثرين.

وتمام الأثر: خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهذا واقع من أكثر الخلق، فالواجب على المكلف الواجب عليه أن يعبد الله وحده ويشكره على نعمه بطاعته، يشكره ويثني عليه سبحانه.
وأعظم الشكر طاعة الأوامر وترك النواهي مع الثناء على الله جل وعلا، وهو القائل فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي[البقرة:152] وهو القائل جل وعلا: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
فالواجب على جميع العباد من الجن والإنس من الرجال والنساء أن يعبدوا الله وحده، بدعائهم وخوفهم ورجائهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا من العبادات كلها لله وحده، وأن يشكروه على إنعامه من الصحة والمال والزوجة والذرية وغير ذلك، وهكذا المرأة تشكر الله على زوجها على ذريتها على صحتها على ما أعطاها من الأرزاق، هكذا على جميع الجن والإنس عليهم الشكر لله والطاعة لله وعبادته  خلقوا لهذا الأمر، الله ما خلقهم عبثًا ولا سدى خلقهم ليعبدوه وأمرهم بهذا قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء:23] يعني: أمر.
فالواجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده بالصلاة والصوم والدعاء والاستغاثة به سبحانه، والحلف به جل وعلا وغير هذا من العبادات كلها لله وحده ، كما قال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[البينة:5]، فعلى العبد رجلًا كان أو أنثى على جميع العباد الرجال والنساء العرب والعجم الجن والإنس الملوك وغيرهم عليهم جميعًا أن يعبدوا الله وأن يتقوه ويطيعوا أوامره بصلاتهم وصومهم وغير ذلك وينتهوا عن نواهيه فلا يعصوه جل وعلا وعليهم أن يشكروا نعمه فيصلوها بطاعته.
ومن شكرها طاعتهم لله، وترك معصيته، هذا من شكر النعم، نعمة الصحة نعمة الأمن نعمة المال نعمة الذرية نعمة التجارة إلى غير هذا، هذا الواجب على جميع الثقلين أن يعبدوا الله وحده بصلاتهم وصومهم ودعائهم وغير ذلك، وأن يتبرءوا من عبادة ما سواه، وأن يشكروه في جميع إنعامه، يشكروه على جميع نعمه بطاعة الأوامر وترك النواهي، والثناء على الله، يحمده سبحانه ويثني عليه بأنه الكريم بأنه الجواد بأنه المحسن ويطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه، ويقف عند حدوده، ويسارع إلى مراضيه، ويبتعد عن معاصيه هكذا المؤمن وهكذا المؤمنة، وهذا هو الواجب على الجميع، وهذا هو الشكر الذي أمر الله به، وفق الله الجميع.

والرابط هنا: http://www.binbaz.org.sa/mat/10551


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 353 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم