مع الصديقة مريم بنت عمران
نعيش اليوم مع قول الحق جل وعلا:“إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”(سورة آل عمران، الآيتان 33-34).
سورة آل عمران هي سورة في القرآن الكريم، سُمّيت باسم والد مريم بنت عمران.
وآل عمران هم:عمران وزوجه، ويُذكر أن اسمها حنة، وكذلك مريم التي كان من نسلها المسيح عيسى بن مريم. هؤلاء هم آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى.
قصة عمران:
عمران هو رجل صالح من بني إسرائيل. تزوج امرأة صالحة، وما أن شعرت بالحمل حتى نذرت ما في بطنها لله عز وجل.
كان هذا في شريعة بني إسرائيل حيث يُنذر الولد لخدمة بيت الله، حتى إذا بلغ سن التكليف، يُخير بين أن يبقى أو أن يعيش حياته خارج بيت الله.
كانت في ظنها أن المولود سيكون ذكراً، وأنه سيكون من الصالحين في بني إسرائيل، يقيم الصلاة ويؤم الناس.
فقالت امرأة عمران حينما شعرت بالحمل:“رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (سورة آل عمران، الآية 35).
ولكن عندما وضعتها أنثى، قالت:“رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ” (سورة آل عمران، الآية 36).
كلامها هذا لم يكن اعتراضاً على قضاء الله، بل إشارة إلى أنها كانت تتمنى أن يكون المولود ذكراً يقيم الصلاة.
ومع ذلك، استجاب الله رجاءها وأمنيتها، فجعل من نسل مريم رسول الله عيسى عليه السلام.
امرأة عمران قالت:” وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” (سورة آل عمران، الآية 36) ومريم تعني “العابدة لله” وقد كانت امرأة عمران قد نذرتها لخدمة بيت الله، فكفلها نبي الله زكريا عليه السلام.
كفالة زكريا لمريم:
والد مريم كان قد توفي، فاقترع بنو إسرائيل فيما بينهم من يكفل مريم؟ وكان الاختيار بإلقاء الأقلام في الماء، فمن يطفو قلمه تكون له الكفالة، ففاز زكريا عليه السلام بكفالتها، يقول الله:“وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ” (سورة آل عمران، الآية 44).
وكان زكريا يعتني بمريم، وكان يدخل عليها المحراب، وهو المكان الذي كانت تخلو فيه للعبادة. وذات مرة وجد عندها طعاماً لم يحضره لها، فسألها:
“يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا؟” فقالت:“هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (سورة آل عمران، الآية 37).
هنا تحركت في زكريا عاطفة الأبوة، فدعا الله قائلاً:“رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ” (سورة آل عمران، الآية 38).
فبشرته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب بمولد اسمه يحيى:“فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مصدقا بكلمةٍ من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحي” (سورة آل عمران، الآية 39).
ظلت مريم في نشأتها حتى شبت وكبرت في بيت المقدس.
وكانت الملائكة تكلمها هناك، ومن كراماتها أن رزقًا من مختلف الأصناف والألوان كان يأتيها من عند الله.
وكان كفيلها نبي كريم من أنبياء الله، وهو زكريا عليه السلام، الذي كان يرعاها.
اصطفاء مريم:
وبينما هي تصلي أخبرتها الملائكة أن الله تعالى قد اصطفاها على نساء زمانها، بل على نساء العالمين. يقول الله تعالى:“وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ” (سورة آل عمران، الآيتان 42-43).
كان كل هذا تمهيدًا لهذه الشخصية المباركة لما سيكون فيما بعد من معجزات.
هذه الأمور جعلت بعض العلماء، كابن حزم وغيره، يرون أن مريم من الأنبياء.
لكن جمهور العلماء يرون أن تكليم الملائكة للصالحين والصالحات ثابت في أكثر من موضع، سواء للرجال أو النساء.
أما الوحي والتكليف بالرسالة فلا بد فيه من نص صريح.
والله تعالى وصف مريم بأنها “صِدِّيقَةٌ”، كما قال:“وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ” (سورة المائدة، الآية 75) ومعنى “صِدِّيقَة” هو من لازم الصدق تمامًا. إذا لازم الإنسان الصدق في أقواله وأفعاله، سُمّي صديقًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:“ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا”.
الأحاديث الصحيحة في فضل مريم عليها السلام :
1- مريم من النساء الكاملات:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ” رواه البخاري ومسلم
2- مريم من أفضل نساء الجنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ” (رواه أحمد وصححه الألباني
3- حماية مريم وذريتها من الشيطان:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا” رواه البخاري
بشارة الملائكة بعيسى:
بعد مدة، كلمتها الملائكة بأن الله تعالى يبشرها بمولودٍ يخرج منها، اسمه المسيح عيسى ابن مريم. يقول الله: “إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ” (سورة آل عمران، الآيتان 45-46).
كان سؤال مريم للملائكة:“أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟” (سورة آل عمران، الآية 47) وهذا تساؤل طبيعي، لأنها لم تتزوج. فقالت لها الملائكة:“كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (سورة آل عمران، الآية 47).
معجزة الحمل بعيسى:
مرت الأيام، وبينما كانت مريم في محرابها تتعبد، رأت فجأة رجلًا بشرا سويًا ، وكان هوجبريل عليه السلام في هيئة بشرية. يقول الله تعالى:“فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا” (سورة مريم، الآية 17). فقالت له:“إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا” (سورة مريم، الآية 18).
فقال لها:“إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا” (سورة مريم، الآية 19).
قدرة الله في الخلق:
تساءلت مريم مرة أخرى:“أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا” (سورة مريم، الآية 20).
فقال لها جبريل:“كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا” (سورة مريم، الآية 21).
الشيخ الشعراوي رحمه الله أشار إلى معنى جميل في هذا الموضع، وهو أن الله أراد أن يظهر طلاقة قدرته. فالناس اعتادوا على الصورة المعتادة للخلق، رجل يتزوج امرأة فينتج نسلًا. لكن الله خلق آدم من غير أبٍ وأم، وخلق عيسى من أمٍ فقط، ليبين طلاقة قدرته.
يقول الله:“إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (سورة آل عمران، الآية 59).
ولدت مريم عيسى عليه السلام، فتفجرت عين ماء صغيرة بجانبها، أطلق عليها القرآن الكريم اسم “السَّرِيَّ”. السري هو الجدول أو العين التي تفور بالماء، ويكون لها سريان صغير، أي ليست كنهر كبير، بل عينًا صغيرة تشرب منها مريم. يقول الله تعالى:“فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا” (سورة مريم، الآية 24)ثم أمرها الله تعالى بهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجني. يقول الله:“وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا” (سورة مريم، الآيتان 25-26)هز جذع النخلة ليس بالأمر السهل حتى للرجال الأقوياء، ولكن الله أمرها بذلك من باب الأخذ بالأسباب، وليظهر لها معجزة تساقط الرطب الطازج.
كم هي مدة حمل المسيح؟
بخصوص مدة حمل الصديقة مريم عليها السلام بنبي الله عيسى عليه السلام، فقد اختلفت آراء العلماء والمفسرين في ذلك، ولم يرد نص صريح من القرآن الكريم أو السنة النبوية يحدد هذه المدة بدقة.
أبرز الآراء الواردة:
1. الحمل الكامل (تسعة أشهر): ذهب بعض العلماء إلى أن مريم عليها السلام حملت بعيسى عليه السلام مدة تسعة أشهر كغيرها من النساء. يستند هذا الرأي إلى أن الأصل في الحمل هو المدة المعتادة، ما لم يرد دليل يثبت خلاف ذلك.
2. الحمل القصير (ساعة أو ساعات): نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال”. يُستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: “فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ” [مريم: 22-23]، حيث تفيد الفاء التعقيب السريع.
3. مدد أخرى: وردت روايات تشير إلى أن مدة الحمل كانت ثمانية أشهر، أو ستة أشهر، أو ثلاثة أيام، أو غير ذلك.
تحليل الآراء:
• الرأي الأول (تسعة أشهر): يستند إلى القياس على العادة الجارية في النساء، وهو رأي معتبر.
• الرأي الثاني (ساعة أو ساعات): يستند إلى ظاهر النص القرآني، ولكن يُرد عليه بأن الفاء في اللغة العربية تفيد التعقيب، وليس بالضرورة التعقيب الفوري. كما أن مراحل خلق الإنسان المذكورة في القرآن تأتي متعاقبة، ولكنها تستغرق مددًا زمنية مختلفة.
الخلاصة:
لا يوجد نص قطعي يحدد مدة حمل السيدة مريم عليها السلام بعيسى عليه السلام. والأقوال الواردة في ذلك اجتهادية، ولكل منها مستنداته. لذا، لا يمكن الجزم بمدة معينة، والأمر متروك لعلم الله تعالى.
هل ولد عيسى في الصيف أم في الشتاء؟
اختلف العلماء هل كان وقت ميلاد عيسى عليه السلام في ” الصيف ” لكون ذلك الوقت موسم الرطب ، أو كان الأمر كرامة من الله تعالى في إيجاد تلك الثمرة في غير موسمها ، كما أجرى الله تعالى الماء من تحت أمه مريم وقت ولادة ابنها عيسى عليه السلام ، وكما أنطق الله تعالى ابنها وهو طفل صغير ؟! خلاف بين العلماء في التفسير.
ومما يعزز القول بأن المسيح ولد في الصيف ما ورد في إنجيل ” لوقا ” حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام : ” وكان في تلك الكورة رعاة متبدين ، يحرسون حراسات الليل على رعيتهم ، وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب حولهم ، فخافوا خوفاً عظيماً ، فقال لهم الملاك : ” لاتخافوا ، فها أنا أبشركم بفرح عظيم ، يكون لجميع الشعب ، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح ” .( إنجيل ” لوقا ” ، إصحاح 2 ، عدد 8-9-10-11 ) .
ومعنى ذلك : أن الميلاد كان في وقت يكون الرعي فيه ممكناً في الحقول القريبة من ” بيت لحم ” المدينة التي ولد فيها المسيح عليه السلام ، وهذا الوقت يستحيل أن يكون في الشتاء ؛ لأنه فصل تنخفض فيه درجة الحرارة – وخصوصاً بالليل – بل وتغطي الثلوج تلال أرض ” فلسطين “
وعلى كل حال : ليس ثمة ما يُجزم به ، وليس هذا من العلم النافع الذي ينبني عليه عمل، لكنها محاولة لفهم النص القرآني.
مواجهتها مع بني إسرائيل:
بعد ولادة عيسى، أمرها الله أن تذهب بعيدًا عن الناس لبعض الوقت، لتتفادى الأذى والكلام الجارح من بني إسرائيل.
ثم أوصى الله مريم أن تأتي بقومها ومعها مولودها لإظهار الآية الإلهية.
أمرها كذلك بعدم الكلام، فإذا خاطبها أحد تشير إلى فمها لتفهمهم أنها صائمة عن الكلام. يقول الله تعالى:“فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا” (سورة مريم، الآية 26).
تحركت مريم بأمر الله وهي تحمل عيسى عليه السلام.
وعندما وصلت إلى قومها، بدأوا في اتهامها والحديث عن أسرتها قائلين:“يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا” (سورة مريم، الآيتان 27-28).
كلمة “يا أخت هارون” إما أن هارون كان رجلاً صالحًا في بني إسرائيل وشُبهت مريم به في صلاحها وتقواها، أو أن لها أخًا اسمه هارون، وهو من الرجال الصالحين. عندما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال:“كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم”.
معجزة كلام عيسى عليه السلام:
لم تجب مريم قومها، بل أشارت إلى المولود. فتعجبوا قائلين:“كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” (سورة مريم، الآية 29).
فأنطق الله عيسى عليه السلام ليبين براءة أمه ويظهر معجزته:“قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا” (سورة مريم، الآيات 30-33).
الخاتمة:
هذه هي قصة ميلاد عيسى عليه السلام، التي تجلت فيها قدرة الله وحكمته. يقول الله:
“ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (سورة مريم، الآيتان 34-35).
سبحان الله العظيم، الذي أظهر في خلق عيسى عليه السلام آيةً على طلاقة قدرته وعظمته، ليكون عبدًا لله ورسولاً إلى بني إسرائيل.
دروس وعبر من قصة الصديقة مريم:
1- الاصطفاء الإلهي تكليف وتشريف: الاصطفاء ليس فقط شرفًا بل مسؤولية عظيمة؛ الله اصطفى آل عمران ليكونوا نموذجًا للصلاح والتقوى.
2- الإيمان بقدرة الله المطلقة: خلق عيسى عليه السلام دون أب هو معجزة إلهية تؤكد طلاقة القدرة الإلهية ؛ فكما خلق آدم من دون أب وأم، وخلق حواء من آدم، خلق عيسى من أم فقط. وهذا يبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قادر على تحقيق ما يظنه البشر مستحيلًا.
3- التقوى تنفع الذرية: امرأة عمران نذرت ابنتها لخدمة بيت الله، ويموت والدها فيكفلها نبي كريم هو زكريا -عليه السلام- والذي رباها-ولاشك- على العبادة والطاعة، وكانت النتيجة أن نشأت مريم صالحة مخلصة لله، لتكون مستعدة لحمل رسالة عظيمة، وتكون هي وابنها آية للعالمين.
4- التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب: أمر الله لمريم وهي متعبة بعد آلام المخاض أمرها بهز جذع النخلة لتأكل الرطب وتشرب الماء، وهذا يعلمنا أن السعي مطلوب من العبد وأن الله يجعل النتائج بيده بعد بذل الجهد.
5- الصبر والثبات في مواجهة البلاء: مريم عليها السلام واجهت اتهامات قومها بالصبر والتسليم لأمر الله؛ الذي أظهر براءتها بمعجزة نطق عيسى في المهد.
6- القناعة والرضا بقضاء الله وقدره: امرأة عمران كانت تتمنى مولودًا ذكرًا ليخدم بيت الله، لكنها رزقت بمولود أنثى، وهي من حملت بعيسى رسول الله، فالعبد يتمنى ولا يدري الخير سيكون في الذكر أم الأنثى، فتقبلت امرأة عمران عطاء الله برضا ودعت لابنتها بالبركة فبارك الله فيها.
7- كرامة المرأة الصالحة: اختيار الله لمريم لحمل عيسى دليل على أن المرأة الصالحة لها مكانة عظيمة عند الله. دورها في الإيمان والطاعة والعبادة لا يقل أهمية عن الرجل، بل قد تكون سببًا في تحقيق معجزات عظيمة.
8- طلاقة القدرة الإلهية: رزق مريم بالطعام في المحراب بدون سبب، وتساقط الرطب عليها عند ولادة عيسى، ونطق عيسى في المهد كلها أمثلة على قدرة الله التي لا تحدها حدود.
9- من تمام العبودية التسليم لأمر الله: طاعة مريم لأمر الله بحمل عيسى إلى قومها رغم صعوبة الموقف يدل على أهمية التسليم والاستجابة لله دون تردد، وأن العبد يجب أن يثق في حكمة الله في كل أمر.