عظمة الله رب العالمين: (15) ” اللهم ربنا لك الحمد حمدا ملء السموات…”

تاريخ الإضافة 15 يناير, 2025 الزيارات : 8404

(15) ” اللهم ربنا لك الحمد حمدا ملء السموات…”

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربنا لك الحمد، حمداً ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» صحيح مسلم.

الشرح:

(اللهم ربنا لك الحمد، حمداً ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما)

هذا الحمد الذي تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوله بعد الرفع من الركوع، فيه تمجيد لله وثناء عليه بما هو أهله سبحانه وتعالى فهو يحمد الله تعالى حمداً عظيماً.
والحمد، قول، والقول ليس له مادة أو كثافة، لكن من باب المبالغة، لو أن هذا الحمد تجسم وصار كتلةً لها حجم، فإنه من كثرته يملأ السماوات كما يقال لشخص: أنا أحبك كهذه الدنيا، وليس المقصود أن هذا الحب شيء مجسم، بل إشارة إلى كبر هذا الحب وكأنه ملأ الدنيا.

والله تعالى نحمده حمداً لو تجسم وصار له حجماً يملأ مكاناً لملأ السماوات والأرض وما بينهما، كما جاء في قوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما)

(وملء ما شئت من شيء بعد)

ومعنى ذلك أن ما شاء الله مما هو أعظم من السماوات والأرض يدخل ضمن هذا الحمد ملك الله ليس فقط السماوات والأرض، بل الجنة التي عرضها السماوات والأرض، والعرش، والكرسي، والسماوات السبع، والأرضين فقد جاء في الحديث أن السماوات السبع بجانب الكرسي كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة.

ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الثناء والمجد)

 وكلمة أهل هنا منصوبة على حذف ياء النداء، أي: يا أهل الثناء والمجد.

وفي السياق، حذف ياء النداء يدل على القرب، مثلما أقول لشخص قريب مني: فلان بدلاً من يا فلان.

وأهل الشيء يعني أحق الناس به، فالله سبحانه وتعالى هو أهل الثناء والمجد، أي أحق من يُثنى عليه ويمجد؛ فعندما نقول لشخص إنه كريم، فإن هذا الكرم نسبي، أما كرم الله فهو بلا حدود، وعندما نقول: يا أكرم الأكرمين، فهذا وصف حقيقي لله تعالى

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الإفراط في مدح الأشخاص لئلا يؤدى ذلك إلى هلاكهم فقال: «فإن كان لابد فاعلاً، فليقل: أَحْسِبُه كذا وكذا» صحيح مسلم، لأن المدح للبشر قد يكون ناتجاً عن مجاملة أو تملق، أما حمد الله فهو عن يقين واستحقاق.

وقوله: (أحق ما قال العبد) :

خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذا الكلام أحق ما قال العبد.

فحمد الله والثناء عليه وتمجيده : أحق ما قاله العبد أي أصدقه وأثبته.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: وفي هذا الكلام دليل ظاهر على فضيلة هذا اللفظ فقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا أحق ما قاله العبد فينبغي أن يحافظ عليه لأن كلنا عبد ولا نهمله وإنما كان أحق ما قاله العبد لما فيه من التفويض إلى الله تعالى ، والإذعان له والاعتراف بوحدانيته ، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به ، وأن الخير والشر منه ، والحث على الزهادة في الدنيا والإقبال على الأعمال الصالحة .

ويقول: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت)

وهذا مستنبط من قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) [فاطر: 2]، فإذا شاء الله حياة إنسان، لا يستطيع أحد أن يضره، وإذا شاء الله موت إنسان، لا يستطيع أحد أن يبقيه حيًّا.

فالأنبياء أنفسهم تعرضوا لمحاولات القتل، مثل زكريا ويحيى عليهما السلام، ولكن الله حفظ رسله الآخرين، مثل محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام

ثم يقول: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)

كلمة الجد هنا لها معانٍ متعددة، مثل: الغنى والحظ.

ومعنى الحديث أن الغنى أو الحظ أو المال لا ينفع صاحبه إذا جاء الموت.

والحظ هنا ليس هو المعنى المتبادر للذهن مثل الحظ العشوائي أو ما يأتي صدفة، بل هو ما قسمه الله لك من رزقٍ وعطاءٍ.

يعني أن الله قسم لكل إنسان نصيبًا من المال، نصيبًا من الصحة، نصيبًا من الأولاد، نصيبًا من الزكاة، ونصيبًا من العلم، وكل هذا يُسمى حظًا، أي نصيبك من هذا الشيء، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) [فصلت: 35]

أما الحظ الذي يتبادر للذهن عند كثير من الناس، مثل أن فلانًا محظوظ لأنه حصل على شيء صدفةً، فهذا معنى غير صحيح شرعًا، لأن كل شيء عند الله بمقدار.

فكلمة الحظ في الناحية الشرعية تعني ما قسمه الله لك من نصيب.

ومعنى قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي أن الذي أعطاه الله الذكاء، أو المال، أو السلطان، أو الصحة، كل ذلك لا ينفعه إذا جاءه الموت.

إذن، عندنا أكثر من معنى لهذه الكلمة، ويسمى هذا في اللغة العربية جناس، وهو استخدام كلمة واحدة بمعنيين مختلفين في نفس السياق

مثال على ذلك، بعض الشعراء قال:

عضنا الدهر بنابه ** ليت ما حل بنا به حد

ففي الجملة الأولى، عضنا الدهر(بنابه) بمعنى أصابتنا مصائب الزمان، وفي الثانية يقصد بها معنى مختلف تمنى لو كان الذي نزل بهم نزل به.

وكذلك قول أحدهم

ودارهم ما دمت في دارهم    وأرضهم ما دمت في أرضهم

فهنا استخدام دارهم بمعنيين مختلفين.

في قوله: ولا ينفع ذا الجد منك الجد

المعنى الأول: ذا الجد يعني الشخص الذي أعطاه الله نصيبًا من عطاء سواء مادي كالمال أو معنوي كالعقل والذكاء.

والمعنى الثاني الجد يعني الموت، أي أنه لا ذكاء الإنسان ينفعه، ولا ماله، ولا سلطانه، ولا صحته إذا جاءه الموت، لأنه قدر الله النافذ الذي قهر به عباده

في يوم القيامة: هل الأعمال التي توزن أم الأشخاص؟

احتج بهذا الحديث طائفة من العلماء على أن الأعمال هي التي توزن يوم القيامة، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل العلم: هل الذي يوضع في الميزان هو الإنسان نفسه يوم القيامة، وعلى قدر صلاحه وفساده يكون الوزن، أم أن الذي يوزن هو عمله قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً، أم مجموع الأمرين؟

فقال بعض العلماء: الذي يوزن هو الإنسان نفسه؛ لقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، ولقوله عليه الصلاة والسلام لما اهتزت الشجرة بـ ابن مسعود فضحك الصحابة من دقة ساقيه: (ما يضحككم من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد)

 فهذا يدل على أن الموزون هو الإنسان نفسه.
وقال بعض العلماء: إن الموزون هو العمل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. 
فقد دلّ هذا الحديث الصحيح على أن قول الإنسان للذكر هو الموزون، قالوا: فالعمل شامل للقول والفعل، وكله يوزن.
والصحيح أن الإنسان نفسه يوزن وكذلك عمله؛ لأن النصوص وردت بالجميع، والقاعدة تقول: النصوص إذا وردت بأمرين فلا يصح إثبات أحدهما ونفي الآخر إلا بدليل، فكما أن الله أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن الإنسان يُوزَن، وأخبر بما يدل على أن العمل يُوزَن فنقول: كلٌ صحيح، وكلٌ خرج من مشكاةٍ واحدة، فالإنسان يوزن، وعمله يُوزن .
فقوله عليه الصلاة والسلام:  ملء السماوات وملء الأرض  دلّ على أن الحمد موزون، وأن له ثقل، فقال في هذا الثقل:  ملء السماوات وملء الأرض ، وهذا يدل على عظم ما للعمل الصالح من عاقبةٍ، وكونه له أثر في ثقل ميزان العبد يوم القيامة.

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 يناير, 2025 عدد الزوار : 13995 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع