“وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين “
نتكلم اليوم عن روح الصلاة باستشعار معنى الصلة بالله عز وجل عندما نقف بين يديه مستقبلين القبلة .
يقول الله عز وجل : -( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )- [البقرة/153]
و قال تعالى : -( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين )- [البقرة/45] “وإنها “ علام يعود ضمير الغائب هنا ؟
الاستعانة أم الصلاة ؟
بكلا القولين قال العلماء ، أن الاستعانة كبيرة إلا على الخاشعين ،أو أن الصلاة كبيرة (ثقيلة)إلا على الخاشعين ،فالذي يشعر بثقل لأداء الصلاة فإنه لم يتذوق أطيب ما فيها وهو الخشوع .
الصلاة هي قرة عين المؤمن:
والصلاة هي قرة عين المؤمن ، وهي موعد اتصاله بربه عز وجل .
والصلاة كما نعلم هي الركن الثاني من أركان الإسلام ، بل هي عمود الدين كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-لمعاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد)
ومعنى قوله “وعموده الصلاة” : أن الخيمة لها أربعة أوتاد تثبت بها ، ثم في الوسط عمود الخيمة الذي به يرفع سقف الخيمة أو وسط الخيمة ، فأربع من الأركان كالأوتاد للإسلام والعمود الخامس الصلاة .
الصلاة معراج المؤمن:
والصلاة هي الفريضة التي فرضها الله بدون واسطة ، كل الأوامر الإلهية تنزل بها جبريل من الله عز وجل على قلب نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلا الصلاة رفع الله نبيه إليه فوق سبع سموات إلى سدرة المنتهى حتى وصل إلى مقام لم يصل إليه أحد قبله ، وفرض الله سبحانه وتعالى عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة
ففي حديث الإسراء (…… ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسَلِّم، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي ) رواه البخاري
ومن هنا كانت فرضية الصلاة على هذه الأمة بعد حادث الإسراء والمعراج، ولذلك استعار بعض العلماء هذا المعنى الرائع فقال : “الصلاة معراج المؤمن” العروج هو الصعود ومنه الإسراء والمعراج، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرج به إلى السموات العلا، فالمعنى إذن : أن الإنسان إذا أراد أن يرقى بروحه ويسمو فإنه يتصل بربه من خلال الصلاة.
وهذا له دلالات عديدة أريد إيضاحها:
1- أن الإنسان عبارة عن جسد وروح ، الجسد متصل بالأرض التي منها خلق فراحتنا في النوم على الأرض أوفوق سرير على الأرض ، نأكل مما نبت من الأرض أو على الحيوان الذي تغذى على مانبت في الأرض ، فراحة الإنسان لجسده مرتبطة بالأرض التي منها نشأ .
2- أما الروح فهي لطيفة ربانية جعلها الله سرا من أسراره عز وجل في كل نسمة خلقها الله سبحانه وتعالى ؛وهذه الروح بما أنها من الله عز وجل فإذا أردت راحة الروح فصلها بالله سبحانه وتعالى الذي خلقها وأودعها فيك ، من أكبر أسباب ضيق الصدر وكثرة الهموم والغموم والاكتئاب والقلق والتوتر ،والصدمات النفسية وارتفاع ضغط الدم …الخ فقدان الاتصال بالله ، والركون إلى المادية والاعتماد على الأسباب التي لا نربطها بالله إنما نربطها بقدراتنا وعلومنا وأفهامنا ؛ رغم أن الإنسان دائما ضعيف ، قال تعالى : -( وخلق الإنسان ضعيفا )- [النساء/28] ضعيفا بمعنى أنه لا يقوم بأمر نفسه كاملا ، فالإنسان بدون الماء يهلك وهكذا بدون الهواء ، الطعام ….الخ ، يصاب بفيروس لا يرى بالعين فيصير جثة هامدة وهو الطويل العريض الذي من يراه يظن أنه بطل العالم في كمال الأجسام مع هذا الفيروس تراه شاحبا ضعيفا عليلا .
إذا ركن الإنسان إلى نفسه فقد ركن إلى ضعف ، أما إذا ركن إلى الله فقد ركن إلى قوة ، لما قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- قول لوط : -( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد )- [هود/80] قال : “رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد “يقصد الله عز وجل.
وهذا معنى الارتباط الكامل بالله عز وجل ، ومعنى قولك : “لا حول ولا قوة إلا بالله” ، ومعنى” ياحي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين “.
3- قدر الله بعض الأمور بالإنسان حتى لا يغتر : رزقه العلم وجعل مع العلم جهلا فلا يحيط علم الإنسان بكل شيء ، ورزقه القوة وجعل مع القوة ضعفا ، رزقه المال وجعل مع الغنى فقرا ليعلم الشيء وضده ، وأن الذي أغنى وعلم وأعطى قادر على أن يأخذ كل ذلك منك ، فمن أنت بدون الله ؟ من أنت إذا نزع الله عنك رحمته ، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول “ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين “فحينما يضيق الحال ، وتشعر بعدم الاستقرار، والمشاكل والتوتر ارجع إلى الله .
4- إن مشكلتنا أننا نصلي كآلة ميكانيكية !!عندما تضغط الزر على الآلة تشتغل بالكهرباء وتعمل الآلة ، أنت لست آلة أنت إنسان هذه الصلاة ليست هي القيام والركوع والسجود حركات نقوم بها بالجسد فقط ، كلا إنما هي اتصال بالله عز وجل .
الصلاة راحة وروح وريحان لأنك بالصلاة تقرب المسافات بينك وبين ربك، وهذا معنى قول الله عز وجل -( كلا لا تطعه واسجد واقترب )- [العلق/19] اسجد واقترب ، كلما أطعت الله وسجدت بين يديه اقتربت من الله أكثر وأكثر ، وهذا معنى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ”.
فماذا عمن لا يصلي ؟ طبعا هو أبعد ما يكون عن الله ، والذي يصلي كالآلة فهذه صلاة حركاتها بالجسد فقط ، والقلب لم يذق حلاوة الصلاة ( الخشوع )
5- من أراد أن يستشعر حلاوة الصلاة وأن تكون معراج المؤمن لربه فلتكن صلاة بخشوع ، اجعلها لقاءك بحبيبك ومولاك فتسعد بالقرب من الله ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول (وجعلت قرة عيني بالصلاة) قرة العين معناها الإنسان منا يقلب بصره في الأشياء حوله ،فإذا رأى ما يعجبه يقال : قرت عينه أي استقرت على شيء تحبه فهو يتمنى ألا يزول هذا المشهد الذي يراه ، فقرة العين أي ما تسعد العين به ،ويفرح القلب به ، فقرة عين نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة ، أسعد لحظاته وهوبين يدي الله عز وجل ، وكان يقول لبلال رضي الله عنه : (يا بلال أرحنا بالصلاة) فالإنسان حينما يقوم بين يدي الله بخشوع فإن الآلة تعرض على صانعها فيصلحها .
6- من أكثر الأشياء التي تضيع الخشوع أن الشيطان يذكرك بما ستقوم به بعد الصلاة ، لا تنس كذا وكذا ، وعندك الموعد الفلاني اليوم ، وستقابل فلانا ، وعندك غدا وبعد غد …الخ ، فتجد نفسك محاصرا بهموم ومشاكل وتتذكر مالم تكن تذكره حتى تنتهى من صلاتك وكأنك ما صليت ، وكل ما تحمل همه هو بيد ربك وليس بيد الشيطان ، بيد من يقول للشيء كن فيكون .
وقد ذكر لنا النبي هذا المعنى بقوله : إِذا نُودِي بالصَّلاةِ، أَدْبرَ الشيْطَانُ ولهُ ضُرَاطٌ حتَّى لاَ يسْمع التَّأْذِينَ، فَإِذا قُضِيَ النِّداءُ أَقْبَل، حتَّى إِذا ثُوِّبَ للصَّلاةِ أَدْبَر، حَتَّى إِذا قُضِيَ التَّثْويِبُ أَقْبلَ، حَتَّى يخْطِر بَيْنَ المرْءِ ونَفْسِهِ يقُولُ: اذْكُرْ كَذا، واذكُرْ كذا لمَا لَمْ يكن يذْكُرْ منْ قَبْلُ حَتَّى يظَلَّ الرَّجُلُ مَا يدرَي كَمْ صلَّى” الكثير يشتكي أنه يصلى ويصيبه السرحان والتفكير ، ويقول سأنتبه سأنتبه سأتذكر ، وأمضي في الصلاة ولا أدري بأي ركعة أنا ما هو السبب ؟ الشيطان يشغلك بأحوالك وأمورك طوال الصلاة فلا تدري هل قرأت الفاتحة أم لا ؟ كيف ركعت او سجدت ؟ فلا تدري عن صلاتك شيئا .
7- إذا وقفت للصلاة ففرغ ذهنك من كل شيء يشغلك اعط الصلاة حقها ، أقبل على الله.
لما نقول : الله أكبر، لماذا نرفع أيدينا عند التكبير ؟
تعظيما لله عز وجل وطرحا للدنيا خلف ظهورنا فهي لا تساوي شيئا ، الله أكبر ،لا تجعل شيئا يشغلك بداية من هذه اللحظة غير الصلاة ، اعقل ما تقول تدبر ما تقرأ ، ستجد بعد انتهائك من الصلاة راحة عظيمة ، تتمنى أن لو طالت الركعة ، لو طال السجود ، لو كان الدعاء أطول ، حينما تقبل على الصلاة لا تريد أن تخرج منها فاعلم أنك قد اتصلت بربك عز وجل ، حينما تنصرف من الصلاة وأنت تشعر بانشراح في الصدر وهدوء في النفس وكأن جبلا انزاح عن كاهلك فاعلم أنك قد اتصلت بربك ، إنما فور انتهائك من الصلاة تفتح الهاتف سريعا لتراجع الاميل والرسائل و….الخ ، أو تجري سريعا لتقوم بالعمل الفلاني الذي شغلك في الصلاة ، بعض الناس يخطط لأسبوع وهو يصلي ، نسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا وأن يرحم ضعفنا .
8- لا أريد أن أقول أن الخشوع سيكون في الخمس صلوات وكل صلاة تؤديها لكن أليس من المؤسف حقا أن تكون صلواتنا كلها بدون خشوع ؟ وتكون الصلاة ثقيلة على النفس ، وتنزع نفسك من أعمالك وانشغالاتك نزعا ، وتصلي بسرعة بسرعة وتنتهي بسرعة .
لو فرضنا أن شخصا صلى 4 ركعات بخشوع وآخر صلاها بغير خشوع كم الفرق الزمني بينهما ؟ كم دقيقة ؟ هو نفس المقدار تقريبا ربما تزيد على الأكثر دقيقة أو دقيقتين ، الفارق هو حضور القلب .
9- حينما تطيل السجود وتستشعر حلاوة الأنس بالله ومناجاته وقربك منه سبحانه وتعالى فاعلم أن صلاتك كان فيها قرب من الله سبحانه وتعالى، يقول أبو هريرة كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا حزبه (اشتد)أَمرٌ فزع إلى الصلاة.
طبعا البعض يقول : إن الإنسان حينما يصيبه شيء يرتفع ضغط الدم وحينما يضع رأسه على الأرض يتخلص من الشحنات الكهربية …الخ دعك من هذا كله ، معنى فزع إلى الصلاة لأني عندما أقف بين يدي الملك عز وجل جل جلاله أقف بين يدي من بيده كل شيء ، قال تعالى : -( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير )- [الملك/1] و قال تعالى : -(وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون )- [هود/123] و قال تعالى : -(يدبر الأمر )- [يونس/3] ، فلا حول لي ولا قوة إلا بالله الذي أقف الآن بين يديه فاحمده وأسبحه وأعظمه وأجله .
10- الصلاة معراج لك إذا أديتها بخشوع ، إذا صليت فابتعد عن أي شيء يشوش عليك صلاتك ، أقبل على الله وصلّ .
11- من المفيد جدا في تعلم الخشوع قيام الليل ، قيام الليل ؟ نعم كما قال تعالى -( إن لك في النهار سبحا طويلا )- [المزمل/7] السبح من السباحة في الماء فكأنك مع الدنيا بالنهار مشغول ، العمل والسعي والطعام والشراب والأولاد ….فالدنيا محيطة بك كالماء المحيط بالسابح فيها ، أما في الليل سكون وراحة وهدوء ، توضأ وادخل في غرفة مع إضاءة خافتة واخشع بين يدي ربك -( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا )- [المزمل/6] لا أقول لك اقرأ بالبقرة وآل عمران وإنما اقرأ بسورة تحفظها جيدا وأسمع نفسك التلاوة ، سبح بتعظيم ، اسجد واطلب من مولاك ما تحب ، أنت الآن قريب من الله ، هذا أفضل تدريب على الخشوع ، بعد ذلك أقسم بالله ستجد راحة لم تجدها من قبل ، من يشكو أنه ينام بمهدئات أو دائم التوتر مع ضغوطات الحياة ، صل هاتين الركعتين قبل النوم بلا إطالة ولا تقصير صلاة وسط ، ستشعر وكأنك لم تصل من قبل ،كأنها أول مرة تصلي.
12- لما افترض الله سبحانه وتعالى خمس صلوات في اليوم والليلة لم يكن ذلك عبثا إنما افترضها الله لحكمة ، لما جعل كل فريضة بعدد معين من الركعات له حكمة ، لما سن لنا رسول الله سننا هذه أيضا لحكمة ، لا يغيب عن وعينا أن كل أمر أمر الله به فهو لحكمة ، ربما نعلمها وربما نجهلها .
فائدة (1)
لما سُئِل حاتم الأصم عن صلاته قال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي ،والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي ، ومَلَك الموت ورائي وأظنها آخر صلاتي ثم أقوم بين يدي الرجاء والخوف وأكبر تكبيراً بتحقيق وأقرأ بترتيل وأركع ركوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع… وأتبعها الإخلاص ثم لا أدري أقُبلت مني أم لا؟
فائدة (2)
يقول ابن القيم: فاعلم أنه لا ريبَ أن الصلاةَ قرَّة عُيون المحبِّين، ولذَّة أرواح الموحِّدين، وبستان العابدين ولذَّة نفوس الخاشعين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يدِ رسوله الصادق الأمين، رحمةً بهم، وإكرامًا لهم؛ لينالوا بها شرفَ كرامته، والفوز بقربه، لا لحاجةٍ منه إليهم، بل منَّة منه وتفضُّلاً عليهم، وتعبَّد بها قلوبَهم وجوارحهم جميعًا، وجعل حظَّ القلب العارف منها أكملَ الحظَّين وأعظمَهما؛ وهو إقباله على ربِّه – سبحانه – وفرحه وتلذُّذه بقربه، وتنعُّمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله حقوق عبوديته ظاهرًا وباطنًا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربُّه – سبحانه”
أسرار الصلاة لابن القيم ص 55 – 56..