شرح الدعاء {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} سورة طه، الآيات: 25 – 28.
هذه الدعوة المذكورة في كتاب ربنا جلّ جلاله لنبي اللَّه موسى – عليه السلام – سألها اللَّه تعالى، لأمر عظيم وكبير، حين أمره اللَّه تعالى، بدعوة فرعون أعْتَى أهل الأرض كفراً، وطغياناً، وأكثرهم جنوداً وعتاداً، وادّعى الألوهية كذباً وزوراً.
ولما كان هذا الأمر في غاية الأهمية سأل اللَّه تعالى التوفيق إلى بعض المطالب والمقاصد التي تكون له عوناً لدعوته؛ فإن الدعاء هو سلاح المؤمن الذي يستنصر به، فبه تستجلب الخيرات، وتدفع به الشرور، والعبد يسأل ربه محسناً الظن به، فإن الداعي يُعطَى طلبه على قدر ظنه بربه الكريم، كما قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)صحيح البخاري
فبدأ بقوله:
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}
وَالشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ: فَصْلُ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يقال : الشَّرِيحَةُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالتَّشْرِيحُ فِي الطب، وهذا مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّ الشَّرْحَ الْحَقِيقِيَّ خَاصٌّ بِشَرْحِ اللَّحْمِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الشَّرْحِ عَلَى رِضَى النَّفْسِ بِالْحَالِ أَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الضِّيقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْحُزْنِ وَالْكَمَدِ ، قَالَ تَعَالَى: “وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ” هود: 12
فيكون معنى شرح الصدرأن ينوره الله ويجعله فسيحًا واسعًا، وذلك بإذهاب ما حصل به الضيق؛ لأن الإنسان إذا حصل له الضيق في الصدر لم يعد في حال يتهيأ فيها للتلقي بصورة كاملة، فيبقى ذهنه منقبضًا، حتى إنه لا يكاد يعقل شيئًا.
وخص الصدر هنا؛ لأنه محل القلب، فالقلب هو الذي يحصل به الانشراح، ويحصل به الضيق والانقباض، وهو محل الإدراك، وبه يعقل الإنسان، وأحوال النفس ترتبط به ارتباطًا وثيقًا، فإذا انفسح القلب انفسح الصدر.
إذاً شرح الصدر يعني توسعته وتهيئته لتلقي التكليف الإلهي وليكن عنده القدرة على تحمّل الأذى؛ فإن انشراح الصدر يحوّل مشقّة التكليف إلى راحة، ونعيم، ويسر.
ومناسبة الدعاء في قصة نبي الله موسى عليه السلام أنه لما سمع موسى اسم فرعون، تذكَّر ما كان من أمره في مصر، وأنه تربَّى في بيت هذا الفرعون الذي ادَّعى الألوهية، فكيف سيواجهه، كما تذكَّر قصة الرجل الذي وكَزه فقتله، ثم خرج منها خائفاً يترقب، فلما شعر موسى أن العبء ثقيل قال: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} كأنه قال: يا رب أنا سأنفّذ أوامرك؛ لكني لا أريد أنْ أُقبل على هذه المهمة وأنا منقبض الصدر؛ لأن انقباضَ الصدر من الشيء يُهدِر الطاقة ويُبدِّدها، ويعين الأحداث على النفس.
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}
أي سهِّل عليَّ كل أمر أسلكه، وكل طريق أقصده في سبيلك، وهوّن عليَّ ما أمامي من الشدائد.
ومن تيسير الأمر أن ييسّر الله للداعي فتُفتح له الأبواب، ويخاطب كل أحد بما يناسب له، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله.
لأن شَرْح الصدر في هذه المسألة لا يكفي، فشَرْح الصدر من جهة الفاعل، وقد يجد من المدعوعناداً؛ لذلك قال : {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} [طه: 26]
ولمّا كانت أهم وسائل الدعوة إلى اللَّه قدرة الداعي على البيان، والإفهام بالقول قال:
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}
ففي هذا طلب التوفيق إلى حسن الكلام في الدعوة إلى اللَّه في خطاب الناس، والتأثير على عقولهم، وعواطفهم بالحكمة بالقول، وإلى الرفق بالفعل.
فالمعنى : واجعل لساني حين تبليغ الرسالة إلى فرعون طليقًا غير منعقَّد ولا حبيس، حتى ينطلق في تبليغه ما تأمرنى به، وتكون عباراتي واضحة لكي يفهموا قولى، ويتأثروا بحسن بياني.
هل صحت هذه القصة ؟
روي عن ابْنُ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: كَانَتْ فِي لِسَانِهِ رُتَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ طِفْلٌ فَلَطَمَهُ لَطْمَةً، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِآسِيَةَ: هَذَا عَدُوِّي فَهَاتِ الذَّبَّاحِينَ. فَقَالَتْ آسِيَةُ: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ أَتَتْ بِطَسْتَيْنِ فَجَعَلَتْ فِي أَحَدِهِمَا جَمْرًا وَفِي الْآخَرِ جَوْهَرًا فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِ مُوسَى فَوَضَعَهَا عَلَى النَّارِ حَتَّى رَفَعَ جَمْرَةً وَوَضَعَهَا فِي فِيهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّتَّةُ.
وهذه القصة ليس لها اسناد ثابت وإنما هي من الاسرائيليات ، وفيها أمرنستغربه وهو لو حصل لموسى وهو طفل أن يتناول جمرة مشتعلة نارا بيده فكيف له أن يصبر حتى يضعها على لسانه، لأن رد الفعل الطبيعي لأي إنسان وإن كان طفلا أن يبتعد عن أي شيء فيه أذى له، ولو فرضنا جدلا أنه لسانه اكتوى بالجمرة فهل يؤثر هذا على فصاحة اللسان أو النطق ؟!
والذي نستنبطه من الآيات أن موسى عاش بمدين عشر سنين ، ولا شك أن لغة أهل مدين كانت مختلفة عن لغة أهل مصر، ومن الطبيعي لمن عاش عشر سنين يتكلم لغة غير لغته الأم أن يجد صعوبة في تذكر الكلمات واستحضار المعاني المختلفة؛ وخاصة إذا كان في معرض الجدال وإقامة الحجة على من أمامه ، وهذا أمر رأيته بعيني هنا بكندا من كثير من الإخوة الذين أتعامل معهم للاستفتاء أو حل المشاكل الخاصة بهم فأحيانا وهو يتكلم تتوه منه المعاني والكلمات وربما سأل زوجته الكلمة الفلانية بالفرنسية ما معناها بالعربية، بل ورأيت من بعض الأزواج من يفهم اللغة العربية لكنه لا يتكلم بها فكان يسمعني ويفهم ما أقول ، ثم يرد بالفرنسية وزوجته تترجم له ؛ رغم أنه عربي لكن فقد الكثير من لغته بسبب هجره لها وغلبة اللغة الفرنسية في معاملاته اليومية .
فنبي الله موسى لم يكن عنده لثغة ولا ثقل في اللسان -كما نقل- إنما لم يكن عنده طلاقة أو فصاحة ولذلك لما كلفه الله بالرسالة قال: “وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ” القصص آية (34)
فسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليتكلم عنه بكثير مما لا يفصح عنه لسانه، فلهذا سأل ربه أن يشرح له صدره وييسر له أمره، ويطلق لسانه فلا يتلعثم ولا ينعقد عن تبليغ أَمر ربه، وأن يشد أزره بأخيه هارون ليصدقه ويعاونه، ولا يقتضي وصفه له بأَنه أفصح منه لسانًا، أن يكون لدى موسى رتة ولثغة في لسانه كما قيل، فربما كان مقصوده من ذلك أنه لا توجد لدى هارون أسباب يخشى أَن تحبس لسانه، كالأسباب التي لديه، على أَنه لو فرضت زيادة هارون عليه في الفصاحة، فإِن ذلك لا يقتضي وجود عيب في لسانه، فهو فصيح وأَخوه هارون أَفصح منه، والله تعالى أعلم.