تفسير سورة القدر

تاريخ الإضافة 18 ديسمبر, 2024 الزيارات : 8683

تفسير سورة القدر

قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))[1]

‏الحديث في هذه السورة عن تلكم الليلة العظيمة هذه الليلة التي شرَّفها الله وكرَّمها، لأنه أنزل فيها الكتاب الخالد، أعظم كتاب، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، القرآن، قانون السماء لهداية الأرض، ودستور الخالق لإصلاح الخلق .

{‏ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏}‏

 الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله: {‏أَنزَلْنَاهُ‏}‏ ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن هذا أمر معلوم.

وسبب ذكر الله تعالى نفسه بضمير الجمع الدال على العظمة ‏(‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ‏) لأن إنزال القرآن دال على صفات عديدة لله منها القدرة والعلم والحكمة والرحمة فالفعل إذا دل على مجموعة من الصفات جاء بصيغة الجمع كقوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، لكن إذا تكلم الله عن ذاته جل في علاه جاء الكلام على صيغة الإفراد كما في قوله (إنني أنا الله) فلم يقل نحن الله لأن ذاته جل جلاله واحدة .

لكن ما معنى إنزاله في ليلة القدر‏؟‏

الصحيح أن معناها‏:‏ ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . [2]

لماذا سميت بليلة القدر ‏:‏

ورد في هذا عدة أقوال لأهل العلم نذكرها منها:

  • من القدر بمعنى التعظيم، والقدر هو الشرف كما يقال ‏(‏فلان ذو قدر عظيم‏)‏ أي ذو شرف كبير، فمعنى ( ليلة القدر ) أي أنها ليلة ذات قدر ، وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) البخاري ، ومسلم.
  • القدر التضييق، قال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر ، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة ، من ( القدر ) وهو التضييق ، قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) سورة الفجر /16 ، أي ضيق عليه رزقه .

 القدر بمعنى القدَر – بفتح الدال – أي التقدير، لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏‏[الدخان‏:‏ 3، 4] والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر -والله أعلم – أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ ، وأن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة قال ابن عباس ” إن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وأنه لفي الأموات ” أي انه كتب في ليلة القدر أنه من الأموات .

أي تقدّر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام ، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة.

والصحيح أنه شامل لهذه المعاني كلها، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم، وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك‏.‏

ثم قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏

 الاستفهام للتعظيم والتفخيم والمعني لا أحد أدراك أو أعلمك من قبل عن ليلة القدر، فيكون المعنى : ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها.

ثم بين هذا بقوله‏:‏ {‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ الجواب‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏

وهو ما يعادل 83 سنة و4 أشهر لكن الظاهر -والله أعلم – أن العدد لا يفيد التحديد إنما هو يفيد التكثير.

 لكن لماذا اختيرت الألف بالذات ؟

لأن الله سبحانه كان يخاطب العرب بعقولهم وقد كانوا يعتقدون أن الألف نهاية الأرقام فإذا زادوا عليها كرروا الرقم فيقولون ألف ألف … وهكذا ، ولذلك لا نجد ترجمة في اللغة العربية للأرقام الحديثة كالمليون والمليار ، فكأن الحق سبحانه أراد أن يخبرنا أن ليلة القدر وثوابها خير من أكبر شيء يعرفون به مقاييس الأعداد فهي خير من الزمان كله مهما طال .
والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر ، فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تتركه هذه الليلة المباركة من آثار وتحولات .
والمراد بالخيرية هنا ثواب العمل فيها، وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة، ولذلك كان من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في الحديث الصحيح .
قال جويبر: قلت للضحاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال: نعم كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر.

ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا‏}‏

أصله تتنزل حذفت إحدى التاءين تخفيفا في النطق ، أي تنزل شيئًا فشيئًا؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلًا على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة كالمكان الذي فيه كلب أو تمثال، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة، ونزولهم خير وبركة‏.‏

ولنتأمل قوله تعالى : “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر “
قال الله عن الملائكة في هذه الآية (تنزل) في حين قال عن الملائكة عند لحظة موت عباد الله الصالحين (تتنزل) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا…. ” في نزولهم في ليلة القدر قال(تنزل) وفي نزولهم عند الموت قال : (تتنزل)

فما الفرق؟ نزول الملائكة في ليلة القدر نزولا لا يتكرر في أي ليلة أخرى من السنة وليس له مثيل أبداً .
أما نزول الملائكة عند الموت فهو يتكرر في كل لحظة وفي كل يوم، لأن الموت سنة كونية إلهية، لذلك زاد في الفعل حرف (ت) لتعبر عن التكرار والتتابع.
‏{‏وَالرُّوحُ‏}‏ هو جبريل عليه السلام خصه الله بالذكر لشرفه وفضله .
قدم الله نزول الملائكة على نزول الروح ؟ فقال تنزل الملائكة والروح
ولم يقل تنزل الروح والملائكة مع أن الروح الأمين (جبريل) عليه السلام أعظم قدراً عن سائر الملائكة، لماذا؟ هذا التأخير زيادة في شرف جبريل عليه السلام !!فكأن الملائكة تحيط بجبريل كالحاشية في موكب عجيب مهيب لكبر قدره عند الله تعالى.
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِم‏}‏ أي بأمره. لا تنزل هذه الملائكة والروح إلا بإذن من الله، يقول أهل التفسير :إن الملائكة تشتاق لرؤية أهل القيام والصيام والطاعة وتريد السلام عليهم فتستأذن ربها في النزول حتى يأذن لها فتنزل جماعات جماعات تمتلئ بها الأرض .

“من كل أمر” توافق هذه العبارة ما جاء في سورة الدخان “فيها يفرق كل أمر حكيم”
وقد أجمع العلماء أن في هذه الليلة تنزل الملائكة بأقدار العباد وما كتبه الله في اللوح المحفوظ لهذا العام من رزق وتوفيق وحياة أو موت و سعادة أو شقاء .

وقوله‏:‏ ‏{‏مِّن كُلِّ أَمْرٍ‏} ‏{‏مِنْ‏}‏ بمعنى الباء أي بكل أمر مما يأمرهم الله به.

‏{‏سَلامٌ هِيَ‏}‏ الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم، والتقدير‏:‏ ‏”‏هي سلام‏”‏ أي هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام، لكثرة من يسلم فيها من الآثام وعقوباتها ووقوع مغفرة الله لعباده، كما في قول النبي – صلى الله عليه وسلّم – ‏:‏ ‏(‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها‏.‏

{‏حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ أي تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر‏.‏


[1] لم يرد في فضل سورة القدر ولا سبب نزولها حديث يصح.

[2] ينظر تفسير ابن كثير 4/529 .


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 ديسمبر, 2024 عدد الزوار : 13974 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع