{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي …. } إني ضعف عظمى ورق لكبر سنى. والمراد: ضعُفتُ وخارت قواى. وإِنما أُسند الضعف إلى العظم؛ لأن العظام عماد البدن ودِعَامُ الجسد، فإِذا أَصابها الضعف والرخاوة تداعى ما وراءها وتساقطت قوته!
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}: أَي فشا الشيب وتغلغل في رأْسى، وسرى فيه كما تسرى النار في الحطب.
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}: واجعله يا رب مرضيًا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى … }هنا كلام مطوى يشير إِليه السياق على عادة القرآن الكريم.
والمعنى: استجاب الله تعالى دعاء عبده زكريا وقال له على لسان الملائكة: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ …. } كما قال تعالى في سورة آل عمران: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى …. } .
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}: قال زكريا عليه السلام: يا رب كيف يكون لي غلام وكانت امرأتى – ولا تزال – عاقرا لا تحمل ولا تلد، وقد بلغت سن اليأْس من الولد؟ “وهذا تعجب بحسب العادة”، لا استبعاد منه لقدرة الله – وحاشاه – فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سنه كانت إِذ ذاك مائة وعشرين سنة، وكانت سن امرأته ثمانيًا وتسعين، ولا يولد لمثلهما عادة، ولكن لله تعالى خرق العادة، وما المعجزات التي أَيد الله بها رسله إلا خرق لها .
ثم ذكر له ما هو أعجب منه فقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}:أي وقد خلقتك من قبل خلق يحيى الذي بشرتك به، ولم تكن شيئًا مذكورا حيث خلقتك من تراب في ضمن خلق أبيك آدم، أو وأنت نطفة لم تكن شيئًا مذكورًا بجانب ما أنت عليه الآن، فمن قدر على خلقك مما يشبه العدم، فهو قادر على تحقيق ما بشرك به.
فاستجاب سبحانه وتعالى لدعائه، ورزقه نبياً صالحاً سمّاه اللَّه تعالى ﴿يَحْيَى﴾ عليه السلام وجعل امرأته ولوداً، بعد أن كانت عاقراً، دلالة على كمال قدرته سبحانه وتعالى الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
يقول سبحانه: {فاستجبنا له وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ … } [الأنبياء: 90] فبعَد أنْ كانت عاقراً لا تلد أجرينا لها عملية ربانية أعادتْ لها مسألة الإنجاب؛ لأن المرأة تلد طالما فيها البويضات التي تكوِّن الجنين، فإذا ما انتهتْ هذه البويضات قد أصبحت عقيماً، وهذه البويضات في عنقود، ولها عدد مُحدَّد أشبه بعنقود البيض في الدجاجة؛ لذلك يسمون آخر الأولاد «آخر العنقود» .
إذن: وُجِد يحيى من غير الأسباب الكونية للميلاد؛ لأن المكوِّن سبحانه أراد ذلك.
لكن، لماذا لم يقُلْ لزكريا أصلحناك؟ قالوا: لأن الرجل صالح للإنجاب ما دام قادراً على العملية الجنسية، مهما بلغ من الكِبَر على خلاف المرأة المستقبِلة، فهي التي يحدث منها التوقُّف.
وأصحاب العُقْم وعدم الإنجاب نرى فيهم آيات من آيات الله، فنرى الزوجين صحيحين، أجهزتُهما صالحة للإنجاب، ومع ذلك لا ينجبان، فإذا ما تزوج كل منهما بزوج آخر ينجب؛ لأن المسألة ليست (آليّة) ، بل وراء الأسباب الظاهرة إرادة الله ومشيئته.
لذلك يقول تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً … } [الشورى: 49 – 50]
ثم بين سبحانه وتعالى سبب إجابته له، فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ كانوا يبادرون في وجوه الخيرات على اختلاف أشكالها وأنواعها في أوقاتها الفاضلة، ويكمِّلونها على الوجه اللائق الكامل ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ كانوا ملازمي الخضوع والتضرع في كل الأحوال والأوقات.
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾: أي وكانوا أيضاً يفزعون إلينا بالدعوات، ويسألون الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوّذون من الأمور المرهوب منها، من مضارّ الدنيا والآخرة، في حال الرخاء، وفي حال الشِّدّة.
وجاء اللفظ بصيغة المضارع: ﴿وَيَدْعُونَنَا﴾: لفائدتين:
1- كثرة سؤالهم، ومداومتهم في الدعاء بالرغبة والرهبة، كما أفاد الفعل المضارع ﴿يُسَارِعُونَ﴾.
2- تصور صورتهم الجميلة في الذهن، فكأنّ المخاطب يراها في حينه، فينشأ عن ذلك التأسي في فعلهم والاقتداء بهم
فهذه صفات ثلاث أهَّلَتْ زكريا وزوجته لهذا العطاء الإلهي، وعلينا أن نقف أمام هذه التجربة لسيدنا زكريا، فهي أيضاً ليستْ خاصة به إنما بكل مؤمن يُقدِّم من نفسه هذه الصفات.
لذلك، أقول لمن يُعاني من العقم وعدم الإنجاب وضاقتْ به أسباب الدنيا، وطرق باب الأطباء أن يلجأ إلى الله بما لجأ به زكريا – عليه السلام – وأهله.
ما حكم دعاء العقيم بدعاء زكريا عليه السلام: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا)؟
لا أعلم بهذا الدعاء بأسا، وكذلك ما أشبهه من الدعوات، فكل هذا طيب، ومثل قوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38].
وهذا مع الأخذ بالأسباب بأن يعرض كلا الزوجين نفسه على الأطباء المختصين؛ لعل الله يرزقه الذرية الطيبة بسبب ذلك.
أيضا من أرادَ الذُّرِّيَّةَ فَعَلَيهِ بِكَثْرَةِ الاستِغفارِ، وذلكَ لِقَولِهِ تعالى حِكَايَةً عن سَيِّدِنا نوح عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾.
قول الشيخ صالح المغامسي في الدعاء بدعاء نبي الله زكريا أربعين مرة لمن يريد الإنجاب:
في مقطع فيديو نفى إمام وخطيب مسجد قباء، الشيخ صالح المغامسي، أن تكون نصيحته لمن ابتلي بالعقم تكرار الدعاء في سجوده 40 مرة، بهذا الدعاء “رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين”، داخلة فيما يسمى بدعة في الدين؛ مشيرًا إلى أنها طريقة مجربة، وأن ما يُستخدم للشفاء غير ما يستخدم للعبادة.
وكان قد تلقى “المغامسي” سؤالًا ضمن برنامجه الأسبوعي “الأبواب المتفرقة” على قناة mbc من متصل يفيد بأنه مصاب بالعقم منذ 10 سنوات من زواجه، وقد راجع العديد من الأطباء والمستشفيات وأجرى عمليات طفل الأنبوب؛ إلا أنه لم يُرزق بأبناء، فأجابه “المغامسي”: “إن كانت والدتك موجودة فاطلب منها أن تدعو لك”، وزاد: صلِّ ركعتين نافلة وفي السجدة الأخيرة كرر “رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين” 40 مرة.
وأرشد “المغامسي” المتصل قائلًا: “إن كان أحد من الناس قال لك: هذا قول مبتدع؛ فأجبه بالتالي: الله سبحانه قال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء}؛ فما يستخدم للشفاء غير ما يستخدم للعبادة؛ فالعبادة الأصل فيها الاتباع لا الابتداع”.
وأضاف: “أما الشفاء فالأصل فيه التجربة، والطب كله قائم على التجربة، وقد جاء عن الأئمة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ممن سبقهم وممن جاء بعدهم أنهم يقولون في مثل هذه المسائل وقد جرب هذا؛ فليس هذا داخلًا فيما يسمى بدعة في الدين، والله تعالي يقول: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} فأنت الآن طبّقت الآية”.
وأوضح: “أما الأربعين فليس هذا ذكر يراد به التعبد حتى يقال من أين أتى صالح بالعدد؟ لكننا نظرنا في القرآن ونظرنا في السنة؛ وجدنا أن عدد الأربعين له علاقة بالخلق، الله عز وجل يقول: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنةً} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك)، “فجعلها كلها بعدد أربعين”.
وختم “المغامسي” بأن عدد الأربعين أصلًا في جملته عدد مبارك، والله سبحانه يقول: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين}، والعلم عند الله.