خواتيم سورة البقرة
قال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير * لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ﴾ [البقرة: 285-286].
أولا / ما ورد ورد في فضلها :
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده جبرائيل، إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ منه ملك فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ” أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ” وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ. وصححه الألباني
2- وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(أُعطيت هذه الآيات من اخر سورة البقرة من كنز من تحت العرش لم يعطها نبي قبلي) مسند الامام احمد والطبراني وصححه الألباني.
3- وقوله عليه الصلاة والسلام : إن الله كَتَب كِتابا قبل أن يَخْلق السماوات والأرض بألْفَيّ عام ، فأنزل منه آيتين فَخَتَم بهما سورة البقرة ، ولا تُقْرآن في دارٍ ثلاث ليالٍ فَيَقْربها الشيطان . رواه الترمذي و صححه الألباني.
4-وروى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: “لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: 16]، قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم ثَلَاثًا، أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، الْمُقْحِمَاتُ”
قال النووي: “أُرِيدَ بالمغفرة أنه لا يخلد صاحبها في النار لا أنه لا يعذب أصلاً، وإلا فقد جاء عذاب العصاة، أو المراد أنه يغفر لبعض الأمة الكبائر، وهو مخصوص بهذه الأمة”صحيح مسلم بشرح النووي (2/3) بتصرف.
5- كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم(من قرأ بالآيتين من اخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) رواه البخاري عن أبي مسعود
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى سبعة أقوال في معنى (كفتاه) في فتح الباري عند شرحه لكتاب فضائل القرآن:
القول الأول: بمعنى أجزأتاه عن قيام الليل، فلو أنه قرأهما قبل نومه ولم يستطع تلك الليلة أن يقوم الليل فقد كفتاه عن ذلك.
القول الثاني: أنهما كفتاه من قراءة القرآن مطلقاً، سواء كان يقرأه في الصلاة أو في غير الصلاة.
القول الثالث: أنهما كفتاه فيما يتعلق بالاعتقاد، فكل العقيدة موجودة ومتضمنة في هاتين الآيتين، لأنهما اشتملتا على أمور الإيمان وأعماله وأصوله جميعاً، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذا القول هو ما ذكر المصنف رحمه الله تعالى أنه المقصود لذكر هاتين الآيتين، فيكفيك في باب الاعتقاد -المجمل لا المفصل- أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ثم تفصيل ذلك يعلم ويؤخذ من أدلته.
القول الرابع: أنهما كفتاه من كل شر، فلو قرأ في ليلته هاتين الآيتين لكفتاه من كل شر، وينام ليلته تلك آمناً مطمئناً بإذن الله.
القول الخامس: وهو أخص مما قبله، أنه بمعنى كفتاه شر الشيطان، فمن قرأهما فقد كفي شر الشيطان اللعين.
القول السادس: أنهما كفتاه شر الجن والإنس.
القول السابع: بمعنى أنهما تغنيانه عن طلب الأجر فيما سواهما، فينال بقراءة هاتين الآيتين من الثواب والأجر ما يغنيه عن طلب الأجر والثواب فيما سواهما.
والثلاثة الأقوال: الرابع والخامس والسادس متقاربة، يعني: كفتاه شر كل شيء: شر الشيطان وشر الجن والإنس، فأمكن أن نجعلها خمسة أقوال.
والصحيح من هذه الأقوال كلها كما قال الحافظ ابن حجر وقبله الإمام النووي رحمهما الله: “يجوز أن يراد ذلك كله، ففضل الله واسع، فإذا قرأتُ هاتين الآيتين حصل لي ما يعنيني عن قيام الليل إن لم أقم، وحصل لي ما يغنيني عن قراءة القرآن كله إن لم أفعل، وحصل لي ما يعنيني في باب الاعتقاد، كما حصل لي الكفاية من شر كل ذي شر” من الشياطين ومن الجن والإنس، ومن كل أنواع الشرور “وكذلك يحصل لي الكفاية إذا قرأتها من أن أطلب عملاً آخر أطلب به نفس الأجر والمنزلة من الله سبحانه وتعالى“.
ونأخذ من هذا قاعدة في الفضائل، قال: “ما جاء من الفضائل عن رسول الله صلـى الله عليه وسلم أو في كتاب الله عز وجل مطلقاً، فالأصل فيه أن يبقى مطلقاً” أي: ما لم يخصصه الله أو رسوله صلـى الله عليه وسلم يبقى مطلقاً ولا نحجر فضل الله تبارك وتعالى، فالله ذو الفضل العظيم.
يقول ابن حجر رحمه الله بعد ذلك معقباً: “إن هذه الأوجه بعضها دل عليها أدلة صريحة، من ذلك: الوجه الأول” والذي هو بمعنى: كفتاه من قيام الليل. قال: “إن ذلك ورد صريحاً في حديث أبي مسعود رضي الله عنه نصه : {من قرأ خاتمة البقرة أجزأته عن قيام الليل }.ودليل الوجه الرابع والذي هو بمعنى كفتاه كل شر، والذي يندرج تحته الوجه الخامس والسادس، وقد دل عليها حديثان رواهما الحاكم وصححهما قال صلـى الله عليه وسلم: (لا يقرب الشيطان داراً قرئت فيها ثلاث ليال )، وفي رواية أخرى: (لا يقربه الشيطان -أولا يدخل الشيطان معه- تلك الليلة )
وذكر الشيطان يشمل ما بعده، فالشيطان رأس كل شر، فإذا لم يدخل الشيطان فلن يدخل أتباعه من الجن، وكذلك أولياؤه من الإنس، فإذا كفي الإنسان الشيطان فقد كفي كل شر؛ لأن الشيطان أصل كل شر يقع في هذا العالم، أعاذنا الله وإياكم من شره.
قوله: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾
هذه شهادة الله – تعالى – لرسوله – عليه الصلاة والسلام – بإيمانه بما أُنزِل إليه من ربِّه، وذلك يتضمَّن إعطاءَه ثوابَ أكمل أهل الإيمان – زيادةً على ثواب الرسالة والنبوَّة – لأنه شارك المؤمنين في الإيمان، ونال منه أعلى المراتب، وامتاز عنهم بالرسالة والنبوَّة.
﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾
شَهِدَ – تعالى – للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولُهم، ثم شهد لهم جميعاً بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء، والرسل، والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون.
﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾
أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه، وهذا إقرارٌ منهم برُكنَي الإيمان الذي لا يقوم إلاَّ بِهما، وهما: الأول : السمعُ المتضمّن للقَبولِ لا مجرّد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكافرين بل سمعُ الفَهمِ والقَبول.
والثاني: الطاعة المتضمّنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر، فتضمّنت هذه الكلماتُ كمالَ إيمانهم، وكمالَ قبولهم، وكمال انقيادهم.
﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾
لِما علموا أنهم لم يوفوا مَقامَ الإيمانِ حقَّه مع الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم، وأنهم لا بدَّ أن تميلَ بهم غلباتُ الطِباع ودواعي البشرية إلى بعض التقصير في واجبات الإيمان، وأنه لا يَلُمٌّ شَعثَ ذلك إلاَّ مغفرةُ الله – تعالى – لهم، سألوه غُفرانَه الذي هو غايةُ سعادتهم، ونهايةُ كمالهم فإن غايةَ كلِّ مؤمن المغفرةُ من الله – تعالى .
﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِير ﴾
ثم اعترفوا أنَّ مصيرهم ومردَّهم إلى مولاهم الحقّ لا بدَّ لهم من الرٌّجوع إليه فقالوا: (وَإلَيكَ المَصيرُ) أي: المرجع والمآب يوم الحساب.
﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: “لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ… ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ: كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: “أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”
قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير ﴾ [البقرة: 285]
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ قَالَ: “نَعَمْ” ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ قَالَ: “نَعَمْ” ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قَالَ: “نَعَمْ” ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ﴾ [البقرة: 286] قَالَ: “نَعَمْ”
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: “إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ”
﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾
فالله جل وعلا لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، وإحسانه إليهم، ومعنى ذلك أنَّ جميعَ ما كلَّفهم به أمراً ونهياً فهم مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلّفهم ما لا يطيقون.
وتأمل قوله : “إلا وسعها “ تجد تحته أنهم في سِعَة ومنحة من تكاليفه لا في ضيق وحرج ومشقَّة فإنَّ الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أنما كلَّفهم به مقدور لهم من غير عُسر لهم ولا ضيق ولا حرج بخلاف ما يقدر عليه الشخصُ فإنه قد يكون مقدوراً له ولكن فيه ضيق وحرج، وأما وسعه الذي هو منه في سِعة فهو دون مدى الطاقة والمجهود بل لنفسه فيه مجال ومُتَّسَع، وذلك مُنافٍ, للضيق والحرج {وما جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ من حَرَجٍ,} بل {يُريدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ} وقال سفيان بن عيينة: في قوله: {إلاَّ وسعَها} إلاَّ يُسرها لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلّفها طاقتها لبلغ المجهود.
إذن المعنى: أنه تعالى، جرت سنته ألا يكلف نفسًا من النفوس، إلا ما تطيقه وتتسع له قدرتها، بل هو في الحقيقة دون وسعها وطاقتها؛ فالصلاة: كلفنا منها خمسًا في اليوم والليلة، والطاقة تتسع لأكثر منها، والصيام: كلفنا منه شهر رمضان، والطاقة البشرية تتسع لأكثر منه، وهكذا.
ثم أخبر – تعالى – أن ثمرة هذا التكليف عائدة عليهم، وأنه – تعالى – غني عن انتفاعه بكسبهم وتضرّرِه باكتسابهم بل لهم كسبهم ونفعه، وعليهم اكتسابهم وضرره، فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجةً منه إليهم بل رحمة وإحساناً وتكرٌّماً. ولم ينهَهُم عما نهاهم عنه بُخلاً منه عليهم بل حِميةً وحفظاً وصيانة وعافية.
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
” لَهَا مَا كَسَبَتْ “أي من خير ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف.
فللنفس ثواب ما كسبت من الطاعات، وعليها عقاب ما اكتسبت من المعاصي.
وعبربـ «الكسب» مع الطاعة، و «الاكتساب» مع المعصية رغم أن معناهما واحد من باب التلوين في نمط الكلام، كما في قوله تعالى: “فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا”؛ وقيل بينهما فرق؛ وهو أن «الكسب» في الخير، وطرقه أكثر؛ و «الاكتساب» في الشر، وطرقه أضيق – والله أعلم.
﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾
وَالْمُؤَاخَذَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ لَا تَأْخُذْنَا بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، وَالْمُرَادُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لَا يُرْضِيَانِ اللَّهَ تَعَالَى.
و«النسيان» هو ذهول القلب عن معلوم؛ يعلم الإنسان شيئا، ثم يغيب عنه؛ فلا يتذكره ويسمى هذا نسياناً؛ و «الخطأ» : المخالفة بلا قصد للمخالفة؛ فيشمل ذلك الجهل؛ فإن الجاهل إذا ارتكب ما نهي عنه فإنه قد ارتكب المخالفة بغير قصد للمخالفة.
روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: “إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ”
﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾
الإصر؛ معناه – هنا – العبءُ الثقيل، مأخوذ من أصره يَأصِرُه أي حبسه، والمراد به: التكاليف الشاقة.
أي: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية من قبلنا من الأغلال، والآصار التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمداً صلى اللهُ عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به .
ثم سألوه التخفيف في قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه فقالوا:
{رَبَّنا ولا تُحَمِّلنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}
فهذا في القضاء والقدر والمصائب، وقولهم: {رَبَّنا ولا تَحمِل عَلَينا إصراً كَمَا حَمَلتَهُ عَلى الَّذينَ مِن قَبلِنا} في الأمر والنهي والتكليف فسألوه التخفيف في النوعين.
﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ ﴾
قوله تعالى: {واعف عنا} أي تجاوز عما قصرنا فيه من الواجبات؛ {واغفر لنا} أي تجاوز عما اقترفناه من السيئات؛ {وارحمنا} أي تفضل علينا بالرحمة حتى لا نقع في فعل محظور، أو في تهاون في مأمور،أي وامح آثار ذنوبنا بترك عقوبتنا عليها، واغفر لنا بستر القبيح، وإظهار الجميل، وتعطف علينا بكرمك وفضلك، رحمة منك.
والحكمة من سؤالهم العفوَ والمغفرةَ والرحمة والنصر على الأعداء لأنهم بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح، فالعَفوُ متضمّن لإسقاط حقِّه قِبَلَهُم ومسامحتهم به، والمغفرة متضمنة لوقايتهم شرّ ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم بخلاف العفو المجرّد فإنّ العافي قد يعفو ولا يُقبِل على من عفا عنه ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض، والمغفرة إحسان وفضل وَجُود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر، فالثلاثة تتضمن النجاة من الشَّرِّ والفوز بالخير، والنٌّصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه وإعلاء كلمته، وقهر أعدائه، وشفاء صدروهم منهم، وإذهاب غيظ قلوبهم، وحزازات نفوسهم.
﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ﴾
أي: أنت وَلِيُّنَا، وَنَاصِرُنَا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، أَيْ دَعَوْنَاكَ وَرَجَوْنَا مِنْكَ ذَلِكَ لِأَنَّكَ مَوْلَانَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمَوْلَى الرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ.
فهم بذلك توسَّلوا إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه، فهو ناصرهم، وهاديهم، وكافيهم، ومعينهم، ومجيب دعواتهم، ومعبودهم.
﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ﴾
أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة.
فلمَّا تحقَّقت قلوبهم بهذه المعارف وانقادت وذلَّت لِعِزَّة ربِّها ومولاها وإجابتها جوارحهم أُعطُوا كلّما سألوا من ذلك، فلم يسألوا شيئاً منه إلا قال الله – تعالى -: قد فعلتُ، كما في الحديث في صحيح مسلم عن عبدالله بن عباس: لَمّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ به اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٤]، قالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْها شيءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِن شيءٍ،
فقالَ النبيُّ ﷺ: (قُولوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا وسَلَّمْنا قالَ: فألْقى اللَّهُ الإيمانَ في قُلُوبِهِمْ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا، أوْ أخْطَأْنا} قالَ: قدْ فَعَلْتُ {رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عليْنا إصْرًا كما حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِن قَبْلِنا } قالَ: قدْ فَعَلْتُ {واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا} قالَ: قدْ فَعَلْتُ.)