عبادة السر وطاعة الخفاء
عبادة السر وطاعة الخفاء حيث لا يراك أحد إلا الله .. دليل الصدق، وعنوان الإخلاص، وعلامة المحبة، وأثر الإيمان، ولا يستطيعها المنافقون، ولا يقوى عليها الكذابون.
أولا / نماذج من عبادات السر
1- صدقة السر:
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(البقرة:271)، قال ابن كثير: “فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية “
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ) رواه البخاري.
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة السر تطفئ غضب الرب) قال الألباني صحيح بمجموع طرقه
2- قيام الليل والنوافل:
من أعظم أعمال السر، وأحبها إلى الله، وأنفعها لصاحبها: صلاة النافلة وخصوصا صلاة الليل، وقد امتدح الله أصحابها وأثابهم عليها من جنس عملهم حين قال سبحانه في سورة السجدة: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة:16، 17).
وعن بلال بن رباح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيامِ الليلِ فإنه دأبُ الصالحينَ قبلَكم وإنَّ قيامَ الليلِ قُربةٌ إلى اللهِ ومنهاةٌ عن الإثمِ وتكفيرٌ للسيئاتِ ومطردةٌ للداءِ عن الجسدِ) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وكـان الفضـيل بن عيـاض يقول: (كان يقال: مـن أخلاق الأنبـياء والأصفـياء الأخـيار الطـاهرةِ قلوبـهم خلائقُ ثلاثة: الحلم، والأنـاة، وحـظُّ مـن قيام الليـل)،.
وقال محمد بن واسع: (لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه مـن دمــوعـــه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه)
وقِيلَ لِلْحَسَنِ: مَا بَالُ الْمُتَهَجِّدِينَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وُجُوهًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ فَأَلْبَسَهُمْ مِنْ نُورِهِ نُورًا.
وعن امْرَأَةُ حَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ قَالَتْ: ” كَانَ يَجِيئُ فَيَدْخُلُ مَعِي فِي فِرَاشِي ثُمَّ يُخادِعُنِي كَمَا تُخادِعُ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا، فَإِذَا عَلِمَ أَنِّي قَدْ نِمْتُ سَلَّ نَفْسَهُ فَخَرَجَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي ” قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَمْ تُعَذِّبُ نَفْسَكَ ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، قَالَ: ” اسْكُتِي وَيْحَكِ فيُوشِكُ أَنْ أَرْقُدَ رَقْدَةً لَا أَقُومُ مِنْهَا زَمَانًا “
3- الصيام:
وهو من أعظم عبادات السر؛ لذا عظم الله أجره وثقل ميزانه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام : (كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له قال الله تعالى إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ) متفق عليه
ومعناه أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره ، قال القرطبي : لما كانت الأعمال يدخلها الرياء ، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في الحديث : (يدع شهوته من أجلي) .
وقال ابن الجوزي : جميع العبادات تظهر بفعلها وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ ( يعني قد يخالطه شيء من الرياء ) بخلاف الصوم .
فالصوم عمل باطني لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى فهو نية قلبية بخلاف سائر الأعمال فإنها تظهر ويراها الناس أما الصيام فإنه عمل سري بين العبد وبين ربه عز وجل ولهذا يقول: “الصوم لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي”، وكونه ترك شهوته وطعامه من أجل الله هذا عمل باطني ونية خفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى بخلاف الصدقة مثلاً والصلاة والحج والأعمال الظاهرة هذه يراها الناس، أما الصيام فلا يراه أحد لأنه ليس معنى الصيام ترك الطعام والشراب فقط أو ترك المفطرات لكن مع ذلك لابد أن يكون خالصًا لله عز وجل وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
4- تلاوة القرآن :
عـن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرٌّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة»رواه أبو داوود وصححه الألباني
ومعنى الحديثِ أن الجاهرُ بالقرآن، أي: الَّذي يَرفَعُ صوتَه بالقرآنِ في القِراءةِ، وخاصَّة أمامَ النّاسِ؛ «كالجاهرِ بالصَّدقةِ»، أي: مِثلُ المُجاهِرِ المُعلِنِ لصَدقتِه أمامَ النّاسِ «والمُسِرُّ بالقرآنِ كالمُسِرِّ بالصَّدقةِ»، أي: مَن يقرَأُ في سِرِّه ويتَدبَّرُ بعَقلِه مِثل الَّذي يُخفِي صَدَقتَه عن أعيُنِ النّاسِ، والإسرارُ أفضلُ في حَقِّ مَن يَخافُ الرِّياءَ؛ لأنَّ الإسرارَ أبعدُ عن الرِّياءِ؛ فإنْ لم يَخَفْ، فالجهرُ أفضلُ بشَرْط ألّا يُؤذِي غيرَه ولا يتأذّى بقِراءتِه أحدٌ كمُصلٍّ أو نائمٍ أو غيرِهما، والعملُ في الجَهرِ أكثرُ، ويَتعدّى نفْعُه إلى غيرِ القارئِ؛ ويُوقِظُ قلبَ القارِئ، ويَجمَع همَّه إلى الفِكر، ويصرِفُ سمْعَه إليه؛ ويطرُد النومَ، ويزيدُ في النشاط؛ فمتى حضَره شيءٌ من هذه النِّيات؛ فالجهرُ أفضلُ؛ فإذا كان الجهرُ يترتَّبُ عليه مصلحةٌ، فهذا الجهرِ أوْلى، وإذا لم يَكُن في الجَهرِ مَصلحةٌ فالإسرارُ أَوْلى، فهذا أفضلُ مِن هذه الناحيةِ. وقيل: ما كان فيه التدبرُ أتمَّ فهو الأفضلُ.
5- الذكر في الخلوة:
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ –ذكر منهم- وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.) قال ابن حجر: “قوله ذكر الله أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر وخاليا أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء والمراد خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ.
قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه“.
وقال في نفس السورة في الأية 205: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}، وامتدح الله أهل هذا الفعل فقال: {والمستغفرين بالأسحار} (آل عمران : 17) وفي السحر أكثر الناس نائمون ، وأهل الله قائمون لا يراهم أحد، أو يسمعهم أحد إلا الله جل جلاله.
وعن مسروق بن الأجدع قال: “إِنَّ الْمَرْءَ لَحَقِيقٌ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو فِيهَا يَذْكُرُ فِيهَا ذُنُوبَهُ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا“.
6- الدعاء والمناجاة :
وأفضل الدعاء وأزكاه ما كان خفيا بين العبد ومولاه؛ قال تعالى عن زكريا عليه السلام: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إذا نادى ربه نداء خفيا} (مريم:2ـ3) ، وقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(الأعراف:55)، وقال سبحانه: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] قال الطبري: ” قوله تعالى:{تَضَرُّعًا} تذلُّلا واستكانة لطاعته { وَخُفْيَةً }أي بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فِعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله“.
وقال مسلم بن يسـار: (مـا تلذّذ المتـلذّذون بمـثل الخـلوة بمـناجاة الله – عز وجل -)
7- خدمة الضعفاء:
لم يكتف الصّالحون الأخفياء بعباداتهم القاصرة على أنفسهم، بل تعدَّى نفعهم إلى غيرهم في خفاء، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرعى عجائز قد كبرن ولم يجدن من يخدمهنّ، فيراه عمر ويتبعه في سرية لينظر ما عساه أن يفعل؟ وفي الصباح يذهب إلى تلك العجوز ليسألها عن هذا الرّجل الذي يأتيها فتخبره بأنه يتعاهد أحوالها منذ زمن، فيقول عمر رضي الله عنه: ويحك يا عمر، تريد عورة الصديق، ثكلتك أمك.
ويقع لعمر أيضا ما قد فعله بالصديق فقد خرج ليلة وقد أظلم الليل، حتى لا يراه أحد، ودخل بيتا، ثم دخل بيتا آخر، ورآه طلحة رضي الله عنه فظنّ أنّ في الأمر شيئا، وأوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر لهذا البيت؟ ولماذا وحده؟ ولماذا في اللّيل؟ ولماذا يتسلّل؟ ولمّا كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوزا عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ وكانت لا تعرف أنّ الرّجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالت العجوز العمياء المقعدة: إنّه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني، ويخرج الأذى عن بيتي، أي يكنس بيتها ويقوم بحالها، ويرعاها رضي الله عنه،فَقَالَ طَلْحَةُ: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ أعثرات عُمَرَ تَتْبَعُ؟” .
وَقَالَ أَسْلَمُ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا بنار فقال: يا أسلم ههنا رَكْبٌ قَدْ قَصَّرَ بِهِمُ اللَّيْلُ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِمْ، فَأَتَيْنَاهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ مَعَهَا صِبْيَانُ لَهَا وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى النَّارِ وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ، قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ.
قَالَ: أَدْنُو. قَالَتْ: ادْنُ أَوْ دَعْ.
فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ.
قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتْ: مِنَ الْجُوعِ.
فَقَالَ: وَأَيُّ شئ عَلَى النَّارِ؟ قَالَتْ: مَاءٌ أُعَلِّلُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ.
فَبَكَى عُمَرُ وَرَجَعَ يُهَرْوِلُ إِلَى دَارِ الدَّقِيقِ فَأَخْرَجَ عِدْلًا مِنْ دَقِيقٍ وَجِرَابَ شَحْمٍ، وَقَالَ: يَا أَسْلَمُ احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي، فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ. فَقَالَ: أَنْتَ تَحْمِلُ وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.
فَحَمَلَهُ على ظهره وانطلقنا إلى المرأة فألقي عَنْ ظَهْرِهِ وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْقِدْرِ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ مِنَ الشَّحْمِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ وَالدُّخَّانُ يَتَخَلَّلُ لِحْيَتَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَنْزَلَهَا عن النار وقال: إيتيني بصحفة.
فأتي بها فغرفها ثم تركها بَيْنَ يَدَيِ الصِّبْيَانِ وَقَالَ: كُلُوا، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا – وَالْمَرْأَةُ تَدْعُو لَهُ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ – فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ حَتَّى نَامَ الصِّغَارُ، ثُمَّ أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل على فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ الْجُوعُ الَّذِي أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ
ولما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار السّواد في ظهره فقالوا ما هذا؟ فقالوا كان يحمل جرّب الدّقيق (أكياس الدقيق) ليلا على ظهره، يعطيه فقراء المدينة… وذكر ابن عائشة قال: قال أبي:” سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السّر حتى مات عليّ بن الحسين ” رضي الله عنه .
ثانيا / كيفية الوصول إلى عبادة السر
1- مراقبة الله :
من أبرز ما يعين العبد على الوصول إلى مقصوده: مراقبة من لا تخفى عليه خافية والسِّر عنده علانية، ومخافته – تعالى – والحياء منه، والتعرف على جلاله وعظمته – سبحانه – كما قال ابن رجب: “وأفضلُ الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية ، وخشية الله فِي السر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى ، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي ، ولهذا قيل : إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة” .
وعن سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ -رضي الله عنه-، قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ “.رواه مسلم
والتقي : الذي يتقي الله عز وجل فيقوم بأوامره ويجتنب نواهيه، والغني : من استغنى بالله ، ورضي بما قسم الله له، وقيل : يعني به غنى النفس، والخفي : يعني به الخامل الذي لا يريد العلو فيها ولا الظهور في مناصبها.
2- تحري إخفاء العمل بعيدا عن الناس:
كن من هؤلاء الذين أحبوا ربهم فأحبهم، وعرفوه فعرفهم، ودعوه فأجابهم (كم من أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ له لو أَقْسَمَ على اللهِ لَأَبَرَّه)(الترمذي عن أنس وقال حسن صحيح].
كن من الجنود المجهولين الذين يعرفون في السماء ولا يعرفون في الأرض، كما قال ابن مسعود: “كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب؛ تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض“.
وعَنْ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ-رضي الله عنه-: “أَيُّكُمُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ“.
وقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا ارْتَفَعَ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ سَرِيرَةٌ.
وقال إِبْرَاهِيمُ بْنَ أَدْهَمَ: “مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ“.
وَقَالَ بِشْرٌ بن الحارث: “لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الْآخِرَةِ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهَ النَّاسُ“.
وعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ” كَانَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي مَجْلِسٍ، فَجَاءَتْهُ عَبْرَةٌ، فَجَعَلَ يَمْتَخِطُ، فَيَقُولُ: “مَا أَشَدَّ الزُّكَامَ“.
وحدث أنّ مَسْلَمَةَ بن مخلد كان يحاصر ذات يوماً حصناً، واستعصى فتح الحصن على الجنود فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول: أمّا فيكم من أحد يَقْدُمُ فيدخل من ذلك النقب في الحصن؟(النقب فتحة في الحصن لخروج فضلاتهم) وبعد قليل تقدّم جندي ملثّم، وألقى بنفسه على الحصن واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام ودخل نَقَباً كان في الحصن، فكان سبباً في فتح المسلمين له، وعقب ذلك نادى مسلمة جنوده قائلاً: أين صاحب النّقب؟ فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: عزمت على صاحب النّقب أن يأتي للقائي وقد أمرت الآذان بإدخاله عليَّ ساعة مجيئه.
وبعد حين أقبل نحو الآذِانِ شخصٌ ملثّمٌ، وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال: أأنت صاحب النّقب؟ فقال: أنا أدلّكم عليه، فدخل فقال للقائد: إنّ صاحب النّقب يشترط عليك أموراً ثلاثة:
1- ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة؛
2- وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع؛
3- وألا تسألوه من هو؟.
فقال مسلمة: له ذلك، أين هو؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء، أنا صاحب النّقب أيّها الأمير ثم سارع بالخروج، فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلّي صلاة إلاّ قال في دعائها:” اللهمّ اجعلني مع صاحب النّقب يوم القيامة“.
وأورد ابن جرير الطبري في تاريخه: أنّ المسلمين لما هبطوا المدائن وجمعوا الاقباض – الغنائم – أقبل رجل بِحُقٍّ معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال: والّذينَ معه: ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أمَا والله لولا الله ما أتيتُكم به، فعرفوا أنّ للرّجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرّظوني، ولكنّي أحمد الله وأرضى بثوابه.
فأَتْبَعُوهُ رجلا حتّى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه؟، فإذا هو عامر بن عبد قيس القيسي الحضرمي أحد عبّاد التّابعين وزهادهم، وهو أوّل من عرف منهم بالنّسك بالبصرة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم .
وذكر هذه القصّة ابن الجوزي في صفة الصفوة، والذّهبي في سير أعلام النّبلاء، عن محمد بن المنكدر، وفي ترجمته قال:عن محمد بن المنكدر قال:كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس أصلّي إليها باللّيِل فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستقون فلم يسقوا فلما كان من اللّيل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي فجاء رجل اسود تعلوه صفرة متزر بكساء وعلى رقبته كساء اصغر منه.
أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم فأنا اقسم عليك لما سقيتهم.
قال ابن المنكدر فقلت: مجنون، قال: فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي، فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم اسمع يمثلها قط، قال: ثم قال ومن أنا وما أنا حيث استجبت إلي ولكن عذت بحمدك وعذت بطولك، ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح، ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس، ودخلت معه، فلما سلم الإمام، قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب المسجد فخرج يرفع ثوبه ويخوض الماء فخرجت خلفه رافعا ثوبي أخوض الماء فلم أدر أين ذهب؟.
فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر، وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه، فلما سلم الإمام خرج من المسجد، وخرجت خلفه فجعل يمشي واتبعته حتى دخل دارا قد عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد.
فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخرز، وإذا هو إسكاف فلما راني عرفني، وقال أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة تريد أن اعمل لك خفا، فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولى، فاسود وجهه وصاح بي، وقال ابن المنكدر: ما أنت وذاك؟، قال: وغضب، قال: ففرقت والله منه وقلت اخرج من عنده الآن.
فلما كان في الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجيء، قال: قلت إنا لله ما صنعت؟!!!، فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها، فإذا باب البيت مفتوح، وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس، قلت: ما له؟، قالوا: لمّا خرجت من عنده أمسِ بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كسائه ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب؟، قال محمد بن المنكدر: فما تركت بالمدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده!!!
3- قراءة سير الصالحين:
ومما يعين على الوصول إلى ما وصل إليه هؤلاء : الإكثار من القراءة في تراجم العلماء الربّانيين والعُبّاد الزاهدين، وفي الوقوف على حياة سلفنا الصالح فوائد كثيرة بها تعلو الهمم وترق القلوب وفيها عبرة لمن يعتبر، ولعل فيما ذكرنا في ثنايا موضوعنا مثال لذلك.
ثالثا / ثمرات العبادة في السر
1 ـ بلوغ درجة الإحسان:
فلا يتقرب إلى الله في الخلوة إلا رجل يوقن أن الله يعلم سره ونجواه ، و ما أعلنه وما أخفاه ، وهذا يبلغ بالعبد مرتبة الإحسان العالية ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
2ـ الثبات في المحن والشدائد والفتن:
فعبادة السر من أعظم أسباب الثبات في المحن والفتن، و من أكبر أسباب القوة في ترك الشهوات والشعور بلذة العبادات، ونور الوجه والقلب، وانشراح الصدر، والتوفيق في القول والعمل، قال ابن القيم رحمه الله: “الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات”
3 ـ أبعد من الرياء:
فالمرائي إنما يعمل ليراه الناس، ويحسن ليمدحوه أو يحمدوه، وأهل الإيمان والصدق إنما يعملون لوجه الله، فهم يتخفون عن أعين المخلوقين:
وقد سأل رجلٌ حذيفة بن اليمان: هل أنا من المنافقين؟ قال: أتصلي إذا خلوت، وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم . قال: اذهب فما جعلك الله منافقا.
4 ـ أكثر أجرا وأعظم أثرا:
فصدقة السر أفضل من صدقة العلانية: {إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}(البقرة: 271 )، وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}(المزمل:6)، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(الإسراء:79 )، وفي الحديث: [أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر] رواه الترمذي ، ولذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص: “لأن أصلي ركعة بالليل أحب إلي من أن أصلي عشرا بالنهار”، وصلاة النوافل في البيت أفضل، والصوم أفضل الأعمال لأنه لا يطلع عليه إلا الرب سبحانه.
5 ـ صلاح القلب واستقامته وطهارته:
وتنقيته من شوائبه، وتطهيره من سواده وبوائقه.. قال بعض الصالحين : “من أكثر عبادة السر أصلح الله له قلبه شاء العبد أم أبى”.
وقال آخر: “من اشتكى ضعفا (أي في إيمانه) فخلوته بربه نادرة”؛ لذا كان زاد النبي صلى الله عليه وسلم خلوة الليل: {ياأيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}(المزمل:1ـ4)
6 ـ رصيد ينفع عند الشدائد والأزمات:
قال الله تعالى عن يونس عليه السلام: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(الصافات:143ـ144)، وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أنهم بحثوا عن الخبيئة الصالحة الخالصة ليخرجوا من أحلك الظروف.
7 ـ القبول والثناء الحسن:
أي إطلاق الله ألسنة الخلق بالثناء عليه، وإن كان هو لا يقصد ذلك ولا يسعى إليه، أو ربما لا يرضاه، قال ابن الجوزي: “من أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في إصلاح السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر“.
قال ابن المبارك: “ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون السريرة“.
ومن خواطر ابن الجوزي في صيد الخواطر قوله: “نظرت في الأدلة على الحق – سبحانه وتعالى – فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أنّ الإنسان يخفي الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدّث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ ليعلم أنّ هنالك ربّاً لا يُضِيعُ عَملَ عاملٍ، وإن قلوب النّاس لتعرف حالَ الشّخص، وتحبّه، أو تأباه، وتذمّه، أو تمدحه وفق ما يتحقّق بينه وبين الله – تعالى – فإنّه يكفيه كلّ همّ، ويدفع عنه كلّ شرّ.
وما أصلح عبدٌ ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحقّ إلاّ انعكس مقصُودُهُ وعادَ حَامِدُهُ ذَامّا“.
وقال ابن الجوزي أيضا: “لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه، وقدره في الناس ليس بذاك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته؛ فتدبرت السبب فوجدته السريرة“.
وقال محمد بن واسع: “من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح آخرته أصلح الله له دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس“.
8- تورث الخشية من الله جل جلاله :
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] قال ابن كثير: “يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل“
ولقد كان ابن المبارك رحمه الله تعالى مرفوع الذّكر عند الناس لنقاء سريرته، وخفاء طاعاته وبكائه، يقول أحد تلاميذ ابن المبارك: سافرت مع عبد الله ابن المبارك فرأيته في السفر فقلت: سبحان الله يصلي كصلاتنا، ويقرأ كقراءتنا، ويصوم كصيامنا، ورفع الله له الذكر الحسن في الناس، ورفع الله له مكانته في العالمين، فبماذا؟ قال: فدخلنا حجرة ونحن مسافرون فانطفأ السراج علينا، فذهبنا نلتمس سراجاً نستضيء به، فأتينا ابن المبارك بعد ساعة بالسراج فإذا هو في الظلام يبكي ودموعه تتحدر من رأس لحيته.
قلنا: مالك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: والله لقد ذكرت القبر بهذه الغرفة المظلمة الضيقة فكيف بالقبر؟
فعلم هذا التلميذ مصدر السر وراء هذه المنزلة العالية لابن المبارك.. إنها الخشية والخوف من الله.